رواية مضللة.. "نيويورك تايمز": تضخيم أرقام الجريمة لتبرير السيطرة الفيدرالية على واشنطن

رواية مضللة.. "نيويورك تايمز": تضخيم أرقام الجريمة لتبرير السيطرة الفيدرالية على واشنطن
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب - أرشيف

في مشهد سياسي وإعلامي صاخب، صعد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى المنصة، يوم الاثنين، يعلن قراره فرض السيطرة الفيدرالية على العاصمة واشنطن ونشر الحرس الوطني فيها، في خطوة أثارت جدلاً واسعاً حول حدود السلطة الفيدرالية واحترام إرادة السكان المحليين، مبرراً ذلك بارتفاع معدلات الجريمة إلى مستويات "غير مسبوقة" وبأن المدينة أصبحت "واحدة من أخطر مدن العالم"، لكن ما بين الخطاب السياسي والواقع الميداني، تكشف بيانات موثقة من وكالات إنفاذ القانون ومراكز الأبحاث عن فجوة واسعة بين ما قيل وما هو مثبت بالأرقام.

وفقاً لصحيفة "نيويورك تايمز"، استشهد ترامب في مؤتمره الصحفي بأن معدل جرائم القتل في واشنطن عام 2023 بلغ "على الأرجح أعلى مستوى له على الإطلاق"، لكن البيانات تشير إلى أن العاصمة سجلت في ذلك العام 274 جريمة قتل، بمعدل 40.4 جريمة لكل 100 ألف نسمة، وهو الأعلى منذ أكثر من 20 عاماً، لكنه ليس الأعلى تاريخياً، ففي عام 1991، وصل المعدل إلى أكثر من 80 جريمة قتل لكل 100 ألف نسمة، أي ضعف المعدل الأخير تقريباً.

وتضيف الصحيفة أن معدل جرائم القتل تراجع بنحو الثلث في عام 2024 ليصل إلى 26.6 جريمة لكل 100 ألف نسمة، مع استمرار الانخفاض في 2025، حيث سُجلت حتى 12 أغسطس 100 جريمة قتل مقابل 112 في الفترة نفسها من العام السابق.

كرر ترامب ادعاءه أن واشنطن تتصدر معدلات جرائم القتل في العالم، مشيراً إلى رقم 41 لكل 100 ألف نسمة، إلا أن "نيويورك تايمز" أوضحت أن هذا الرقم استند إلى بيانات قديمة ومقارنات ناقصة، وأن عواصم مثل بورت أو برانس في هايتي (67.2)، وكيب تاون في جنوب إفريقيا (66.8)، وكينغستون في جامايكا (64.2) تتجاوز بكثير معدل واشنطن.

وضع معهد "إيجارابيه" البرازيلي، الذي جمع بيانات من عشرات المدن، واشنطن في مرتبة بعيدة عن القمة، مشيراً إلى أن 47 مدينة حول العالم سجلت معدلات أعلى.

تضخيم الأحداث

في ملف جرائم الشباب، صوّر ترامب الأوضاع وكأنها في تصاعد خطير، لكن، بحسب بيانات مجلس تنسيق العدالة الجنائية، فإن اعتقالات الأحداث ارتفعت بالفعل بين 2021 و2023 لكنها انخفضت في 2024، وظلت أقل بكثير من مستويات ما قبل الجائحة ومن معدلات العقدين الماضيين، ففي الفترة بين 2006 و2010، تراوحت الاعتقالات بين 3400 و4000 سنوياً، مقارنة بـ2000 في عام 2024.

ووصفت المدعية العامة الأمريكية لمنطقة كولومبيا، جانين بيرو، التي عيّنها ترامب مؤخراً، نظام عدالة الأحداث في واشنطن بأنه متساهل، وقالت إن القضايا تُحال لمحكمة الأسرة التي تركز على إعادة التأهيل، لكن "نيويورك تايمز" أوضحت أن نصف الأحداث تقريباً يُحتجزون قبل المحاكمة، وأن كثيراً منهم يقضون فترات أطول من المعلن في مراكز احتجاز تعاني من الاكتظاظ والعنف.

وصف الأستاذ بجامعة جورج تاون، إدواردو فيرير، تصوير بيرو للنظام بأنه "غير دقيق"، مشيراً إلى نقص الخدمات الداعمة للأطفال المنخرطين في النظام الجنائي.

مبالغة وزيف

من جانبها، وصفت صحيفة "الغارديان" تصريحات ترامب بأنها "مبالغ فيها وزائفة"، مشيرة إلى أن جرائم العنف في واشنطن انخفضت في 2024 بنسبة 35% مقارنة بـ2023، وهو أدنى معدل منذ أكثر من 30 عاماً، وشمل الانخفاض جرائم القتل (32%)، والسرقات (39%)، وسرقات السيارات المسلحة (53%)، والاعتداءات بأسلحة خطيرة (27%).

وأكد رئيس مجلس العدالة الجنائية، آدم جيلب، أن هناك "انخفاضاً واضحاً وكبيراً في العنف منذ صيف 2023"، وأن معدل جرائم القتل انخفض 19% في النصف الأول من 2025 مقارنة بالفترة نفسها من 2024.

وبينما صوّر ترامب مشهداً فوضوياً لـ"قوافل من الشباب تجوب الشوارع"، تشير بيانات شرطة العاصمة، التي نقلتها "الغارديان"، إلى أن اعتقالات الشباب انخفضت بنحو 20% هذا العام مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، مع نحو 900 اعتقال فقط، بينها 200 جريمة عنف.

ورأت نائبة رئيس قسم المناصرة والشراكات في معهد فيرا للعدالة، إنشا رحمن أن أكبر الانخفاضات في عنف الشباب جاءت من برامج مجتمعية مثل العدالة التصالحية والوساطة، لا من حملات قمع شرطية.

التشرد والجريمة

ربط ترامب بين التشرد والجريمة، وهدد بإخلاء المشردين من المدينة، لكن "الغارديان" أشارت إلى دراسة واسعة لجامعة كاليفورنيا–سان فرانسيسكو أظهرت أن 36% من المشردين تعرضوا للعنف الجسدي أثناء فترة تشردهم، وأن نصف هذه الاعتداءات ارتكبها غرباء، وأكدت الدكتورة مارغوت كوشيل أن تجريم المشردين يزيد من تعرضهم للاستغلال والعنف.

قبل واشنطن، طبق ترامب إجراءات مماثلة في لوس أنجلوس، ناشراً الحرس الوطني ومشاة البحرية، ومصوّراً المدينة كمسرح للفوضى، لكن الواقع أن الاحتجاجات انحصرت في منطقة محدودة وكانت سلمية إلى حد كبير، وأن العديد من تهم العنف ضد المتظاهرين أسقطت لاحقاً.

أشار ترامب أيضاً إلى مدن مثل بالتيمور وشيكاغو، لكن البيانات أظهرت أن هذه المدن، شأنها شأن واشنطن ولوس أنجلوس، شهدت انخفاضاً في معدلات الجريمة منذ 2023، ففي بالتيمور، كان عدد جرائم القتل في النصف الأول من العام هو الأقل منذ خمسة عقود، وفي لوس أنجلوس انخفضت جرائم القتل بنحو 20%، لتسجل أدنى معدل منذ 60 عاماً تقريباً.

تساءل توماس أبت من جامعة ماريلاند عن جدوى استقدام شخصيات لا خبرة لها في إنفاذ القانون المحلي مثل بام بوندي وتيري كول لقيادة شرطة العاصمة، في وقت تشهد فيه معدلات الجريمة انخفاضاً مستمراً منذ 18 شهراً، وأشار إلى أن سحب عناصر مكتب التحقيقات الفيدرالي من مهامهم الأساسية لتسيير دوريات في واشنطن قد يقلل من الموارد المتاحة لمكافحة الجرائم الخطيرة في أماكن أخرى.

بهذا، يتضح أن الصورة التي رسمها ترامب لواشنطن العاصمة -مدينة غارقة في العنف والفوضى- تتناقض مع مؤشرات الانخفاض الحاد في الجريمة التي وثقتها البيانات الرسمية، وأن الخطاب السياسي لا يعكس بالضرورة الواقع الأمني كما تثبته الأرقام.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية