حين يصبح القاتل بطلاً.. 30 ألف قتيل في "حرب دوتيرتي" على المخدرات

الفلبين بين إرث الدم والمساءلة الدولية

حين يصبح القاتل بطلاً.. 30 ألف قتيل في "حرب دوتيرتي" على المخدرات
الرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي- أرشيف

في كل مجتمع، تبقى سلطة القانون هي خط الدفاع الأخير عن حياة الأفراد وكرامتهم، لكن ماذا يحدث حين تتحول الدولة، التي يفترض أن تحمي الحقوق، إلى طرف مباشر في ممارسة العنف الممنهج؟ حين يصبح شعار "الأمن" مبرراً لإسكات القانون، وتتحول العدالة إلى "قصاص جماعي" يطال الآلاف بلا محاكمة ولا دفاع؟

هذه المعضلة ليست جديدة، فقد عرفها العالم في أنظمة عسكرية واستبدادية كثيرة، لكن التجربة الفلبينية في عهد الرئيس السابق رودريغو دوتيرتي تظل مثالاً صارخاً على كيف يمكن لسياسات "القبضة الحديدية" أن تتحول إلى حرب شاملة ضد الحقوق الأساسية، حربٌ بدأت تحت عنوان "مكافحة المخدرات"، لكنها انتهت بآلاف القتلى، ودمار مجتمعي، وانقسام حاد بين من يراها ضرورة أمنية ومن يعدّها جريمة ضد الإنسانية.

اليوم، بعد سنوات من رحيل دوتيرتي عن الحكم، يقف الرجل في قفص الاتهام أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، في لحظة وصفتها صحيفة "واشنطن بوست" بأنها "اختبار نادر لقدرة العدالة الدولية على مواجهة زعيم شعبوي ما زال يتمتع بشعبية واسعة"، لكن رغم هذه الخطوة، فإن الطريق إلى الإنصاف لا يزال طويلاً ومعقداً.

حرب بلا محكمة

منذ عام 2016، حين تولى دوتيرتي السلطة، بدأت حملته الشهيرة ضد المخدرات، لكن خلف الخطاب الصارم الذي رفع شعارات مثل "القضاء على الشر" و"الأمن أولاً"، كان الواقع أشد قسوة: آلاف المشتبه بهم –من متعاطين وتجار مزعومين– أُعدموا خارج نطاق القضاء.

نقلت صحيفة "الغارديان" شهادات ضباط شرطة اعترفوا بأنهم شاركوا في فرق موت سرية قتلت مئات الأشخاص، أحياناً بدوافع انتقام شخصي أو لتحقيق حصص عددية فرضتها القيادات.

قال أحدهم ببرود: "تخيلوا، أقتل 47 شخصاً ولا أنام؟ كنت فقط أشرب حتى أنام"، وأقر آخر أن الكثير من عمليات القتل نُفذت ضد أشخاص لم يبدوا أي مقاومة، وأن مسارح الجريمة كانت تُفبرك بوضع أسلحة قرب الجثث.

الأرقام مفزعة

بحسب تقديرات المنظمات الحقوقية، من 20 إلى 30 ألف قتيل معظمهم من الفقراء، ممن أُدرجت أسماؤهم في قوائم مراقبة تحولت عملياً إلى "قوائم إعدام"، جثث وُجدت في الشوارع برؤوس ملفوفة بشريط لاصق ولافتات تهديدية: "لا تكن مثله، إنه تاجر مخدرات".

لكن خلف الأرقام هناك قصص إنسانية أكثر وجعاً، تقول تيريسيتا بيرانال إن ابنها قُتل عام 2017 برصاص رجال جرّوا جسده "كما لو كان خنزيراً"، وتضيف: "أعرف كثيرين فقدوا أبناءهم.. أحباؤنا ليسوا حيوانات.. نريد العدالة".

حين يصبح القاتل بطلاً

المثير أن معظم المشاركين في هذه العمليات لا يشعرون بالندم، وبعضهم رأى في ما فعله "خدمة للبلاد"، قال ضابط تقاعد بعد أن شارك في قتل عشرات الأشخاص: "أنا فخور جداً بنفسي.. نأمل أن يموت المزيد مرة أخرى.. لا يزال هناك الكثير من الأشرار".

لم تنشأ هذه العقلية في فراغ، فقد غذّاها خطاب دوتيرتي نفسه، الذي لم يخفِ يوماً تبنيه لفكرة أن "من لا يستحق الحياة لا يستحق المحاكمة"، بل اعترف علناً بأنه استعان بفرق موت في شبابه بمدينة دافاو، النموذج الذي تحوّل لاحقاً إلى سياسة وطنية.

وتبنت الشرطة الفلبينية بدورها رواية رسمية تُلقي اللوم على "مسلحين مجهولين" أو تدعي أن الضحايا "قاوموا الاعتقال"، لكن تحقيقات صحفية وحقوقية أظهرت أن تلك التفسيرات لم تكن سوى غطاء لعمليات قتل منظمة.

قالت اللجنة الفلبينية لحقوق الإنسان إن جمع الأدلة يكاد يكون مستحيلاً لأن "جميع مراكز الشرطة تقريباً كانت متورطة بشكل أو بآخر"، وهكذا، ظل الإفلات من العقاب هو القاعدة، فيما اقتصرت المحاكمات على قضايا نادرة أثارت صخباً إعلامياً.

دوتيرتي أمام الجنائية الدولية

في مارس الماضي، ألقت السلطات الدولية القبض على رودريغو دوتيرتي، ونُقل إلى لاهاي حيث وُجهت إليه اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، خطوة وصفتها "أسوشيتد برس" بأنها "غير مسبوقة" في تاريخ الفلبين، لكنها لم تمر بلا جدل، ففي الداخل، ما زال دوتيرتي يتمتع بدعم واسع.

أظهر استطلاع أجرته "بولس آسيا ريسيرش" أن 63% من الفلبينيين يثقون به، بل إن بعضهم انتخبوه عمدةً لمدينة دافاو حتى وهو في السجن، كثيرون يرونه زعيماً أعاد "الأمن" إلى الشوارع، حتى وإن كان الثمن آلاف الأرواح.

لكن بالنسبة للمدافعين عن حقوق الإنسان، لا يمكن لمثل هذه الشعبية أن تُعفي من المحاسبة، تقول منظمات دولية إن محاكمة دوتيرتي تمثل اختباراً لمبدأ عدم الإفلات من العقاب، ورسالة بأن "القتل الجماعي تحت غطاء الدولة لن يمر بلا حساب".

مع ذلك، الطريق أمام المحكمة ليس سهلاً، دفاع دوتيرتي يصف القضية بأنها "سياسية" ويشكك في اختصاص المحكمة، وفي الداخل الفلبيني، لا يزال الانقسام قائماً بين من يطالب بالعدالة ومن يخشى أن تؤدي المحاكمة إلى زعزعة الاستقرار.

حقوق الضحايا

القضية ليست فقط محاكمة رئيس سابق، بل هي مواجهة شاملة مع سؤال أعمق طرحته "الغارديان" : ما معنى العدالة حين تُختزل في شعار "العين بالعين"؟ وهل يمكن لحقوق الإنسان أن تبقى صامدة في وجه خطاب شعبوي يشرعن العنف باسم الأمن؟

فقد انتهك الحق في الحياة، والحق في المحاكمة العادلة، والحق في الكرامة الإنسانية،  بصورة منهجية في الفلبين خلال حرب المخدرات، ولم تُمنح للضحايا فرصة الدفاع عن أنفسهم، وعائلاتهم لم تُمنح فرصة الحداد الكريم أو الحصول على الحقيقة.

وإذا نجحت المحكمة الجنائية الدولية في إدانة دوتيرتي، فسيكون ذلك سابقة مهمة تعزز فكرة أن القادة لا يمكنهم التملص من المسؤولية مهما كان نفوذهم، أما إذا فشلت فقد يشكل ذلك ضربة لهيبة العدالة الدولية ويعزز ثقافة الإفلات من العقاب.

حتى الآن، يبدو أن الفلبين لا تزال عالقة بين إرث الماضي واستحقاقات المستقبل، فبينما تطالب عائلات الضحايا بالعدالة، لا يزال جزء كبير من المجتمع يرى أن ما جرى كان "ثمناً ضرورياً" لتحقيق الأمن.

لخصت الصحفية الفلبينية باتريشيا إيفانجليستا الأمر بقولها: "توقع أن يغير الشعب رأيه فجأة بشأن رجل يحبه ويقدسه، فقط لأن محكمة دولية اعتقلته.. أمر مبالغ فيه".

لكن حتى لو طال الزمن، تبقى الحقيقة أن العدالة لا تسقط بالتقادم، كما أن ذاكرة الضحايا تظل حية، شاهداً على مرحلة مظلمة من تاريخ الفلبين، ربما لن تُغير محاكمة دوتيرتي الواقع بين ليلة وضحاها، لكنها على الأقل فتحت الباب أمام سؤال جوهري: هل يمكن للدولة أن تقتل باسم القانون، وتفلت من العقاب إلى الأبد؟



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية