بين الحقيقة والإنكار.. مؤتمر المناخ كوب-30 يطلق مواجهة عالمية ضد التضليل المناخي

بين الحقيقة والإنكار.. مؤتمر المناخ كوب-30 يطلق مواجهة عالمية ضد التضليل المناخي
مشاركون في فعاليات مؤتمر المناخ كوب 30 في البرازيل

حذر المفاوضون في مؤتمر الأمم المتحدة الثلاثين لتغير المناخ (كوب-30) المنعقد في مدينة بيليم البرازيلية من أن التضليل المناخي المتزايد أصبح تهديدًا مباشرًا للجهود الدولية الرامية إلى احتواء الاحتباس الحراري الكارثي.

في قاعة المؤتمر التي ضمت ممثلي أكثر من 190 دولة، كان التحذير واضحًا وصارخًا: المعلومات الكاذبة والمضللة التي تنتشر بسرعة عبر الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي تُقوّض الثقة العامة بالعلم والسياسات البيئية، وتعرقل التقدم الهش نحو تحقيق أهداف اتفاق باريس للمناخ وفق موقع "أخبار الأمم المتحدة".

الرئيس لولا: "هزيمة جديدة لمنكري المناخ"

في كلمته، شدّد الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا على أن مؤتمر كوب 30 يجب أن يشكّل "هزيمة جديدة لمن ينكرون تغير المناخ"، مؤكدًا أن معركة الحقيقة لا تقل أهمية عن معركة تقليص الانبعاثات، وأوضح أن التضليل لم يعد مجرد رأي مختلف، بل أصبح أداة سياسية تستخدم لتأخير العمل المناخي وتقويض الجهود الدولية.

وقال لولا: "نحن لا نحارب فقط ضد ارتفاع درجات الحرارة، بل أيضًا ضد أكاذيب تزرع الشك والخوف والانقسام، من دون الحقيقة، لا يمكننا بناء الثقة، ومن دون الثقة، لا يمكننا إنقاذ الكوكب".

أول إعلان دولي لحماية نزاهة المعلومات المناخية

وشهد المؤتمر الأممي توقيع 12 دولة، منها البرازيل وكندا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا، على أول إعلان دولي بشأن سلامة المعلومات المتعلقة بتغير المناخ، ويعدّ الإعلان خطوة تاريخية ضمن المبادرة العالمية لسلامة المعلومات بشأن المناخ التي أُطلقت منتصف عام 2025 بالشراكة بين البرازيل ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) وإدارة التواصل العالمي للأمم المتحدة.

يهدف الإعلان إلى مكافحة سيل الأكاذيب المناخية المنتشرة في الفضاء الرقمي، وحماية الأصوات القائمة على الأدلة العلمية، من صحفيين وباحثين وعلماء وناشطين بيئيين.

وقال وزير السياسات الرقمية البرازيلي جواو برانت خلال الجلسة: "الهدف بسيط لكنه ملحّ: خلق موجة من الحقيقة، لا يمكن أن نبني الثقة أو نضع السياسات في عالم تغمره المعلومات المضللة".

التضليل تهديد سياسي وأمني

حذّر فريديريكو أسيس، المبعوث الخاص للأمم المتحدة لشؤون سلامة المعلومات المناخية، من أن التضليل لا يشكّل خطرًا معرفيًا فقط، بل أصبح "تهديدًا سياسيًا وأمنيًا مباشرًا" يمكن أن يعطل المفاوضات الدولية حول المناخ.

وقال في تصريحات: "التضليل، المدفوع بأجندات خفية ورؤى عالمية متطرفة يغذي الانقسام ويقوّض الثقة بين الدول، إنه خطر حقيقي يهدد عملية مؤتمر الأطراف في كل مراحلها، من المفاوضات إلى تعبئة الموارد وحتى وضع السياسات الوطنية".

وأوضح أن الخوارزميات الرقمية في المنصات الاجتماعية تضخّم المحتوى "التآمري والمضلل" من خلال آليات جذب الانتباه، ما يجعل الأكاذيب تنتشر أسرع من الحقائق العلمية. وأضاف: "إذا لم نواجه هذا الخطر بالمعرفة والشفافية، فسوف تتلاشى مصداقية العمل المناخي ذاته".

فكّ شفرة الأكاذيب المناخية

لأول مرة في تاريخ مؤتمرات المناخ، أُدرجت سلامة المعلومات بوصفها بنداً رسمياً على جدول أعمال المؤتمر، واعتبر غيليرمي كانيلا، رئيس قسم حرية التعبير وسلامة المعلومات في اليونسكو، أن هذه الخطوة تاريخية ومتأخرة في آن واحد، مشيرًا إلى أن العالم تأخر كثيرًا في إدراك أن التضليل هو جزء من المشكلة المناخية نفسها.

وقال كانيلا: "ما زلنا لا نعرف سوى القليل عن القوى التي تقف وراء التضليل المناخي، من يموله، ولماذا ينتشر بهذه السرعة، وما الدور الذي تلعبه المنصات الرقمية الكبرى. إن فهم هذه الآليات ضروري لتطوير استراتيجيات فعالة لمواجهتها".

وفي هذا السياق، أُنشئ الصندوق العالمي لنزاهة المعلومات بشأن تغير المناخ لدعم الصحافة الاستقصائية والمشروعات البحثية التي تكشف شبكات التضليل، وتلقى الصندوق 447 مقترحًا من نحو 100 دولة، وحصل على تمويل مبدئي قدره مليون دولار من الحكومة البرازيلية، خُصص ثلثاه لمبادرات في دول الجنوب العالمي، حيث الهشاشة المعلوماتية كبرى.

حروب رقمية في مواجهة العلم

تشير تقارير حديثة صادرة عن مؤسسات بحثية أوروبية إلى أن 70% من محتوى الإنكار المناخي على الإنترنت يُعاد تداوله عبر شبكات آلية (Bots) وحسابات مموّلة من جهات مرتبطة بصناعات الوقود الأحفوري، كما أن مقاطع الفيديو والمنشورات التي تشكّك في جدوى المؤتمرات المناخية تتضاعف ثلاث مرات أسرع من المحتوى العلمي الموثوق.

وتوضح هذه البيانات أن التضليل لم يعد مجرد “رأي مخالف”، بل تحول إلى استراتيجية متعمّدة لتقويض التحرك المناخي العالمي، خاصة مع تصاعد الحملات التي تزعم أن "الوقت قد فات" أو أن "التحول الأخضر غير ممكن".

مقاومة التضليل بالمعرفة

في مواجهة هذا المدّ، برزت أصوات شابة تقود مبادرات رقمية لنشر المعرفة العلمية، وبين هؤلاء ماريا كلارا مورايس الناشطة البيئية البرازيلية ومؤسسة منصة “مارياس فيرديس” التي تضم أكثر من نصف مليون متابع على "تيك توك".

تقول مورايس إن مكافحة التضليل ممكنة لكنها صعبة للغاية بسبب التمويل الضخم والتنظيم المحكم لحملات الأكاذيب، وتضيف: "من أقوى أشكال التضليل القول إن الأوان قد فات أو إن مؤتمرات المناخ لا تحدث فارقًا، هذه روايات خطيرة لأنها تنزع الأمل وتزرع اليأس، وهو ما يخدم من لا يريدون التغيير".

ورغم ذلك، ترى مورايس أن الجيل الجديد يمثل "مصدرًا هائلًا للأمل"، إذ تتزايد بين الشباب الرغبة في تبني سلوكيات مستدامة ونشر محتوى علمي موثوق، معتبرة أن "كل قرار يومي واعٍ هو ثورة صغيرة ضد التدمير البيئي".

البعد الإنساني: الحقيقة شرط للنجاة

في الوقت الذي تسعى فيه الدول لتحقيق الحياد الكربوني وتقليص الانبعاثات بحلول منتصف القرن، تواجه البشرية معركة موازية تتمثل في معركة على الحقيقة، ففقدان الثقة في العلم والمؤسسات يهدد بتقويض التعاون العالمي اللازم لمواجهة أزمة المناخ التي تُعد أكبر تحدٍّ وجودي في تاريخ الإنسانية الحديث.

ويؤكد خبراء الأمم المتحدة أن التضليل لا يهدد السياسات البيئية فحسب، بل يقوّض أسس الديمقراطية والتضامن الدولي، إذ يخلق انقسامات اجتماعية ويُغذّي الشكوك في نوايا الدول والهيئات العلمية.

البرازيل في موقع القيادة

اختيار مدينة بيليم، الواقعة عند مدخل غابات الأمازون، لاستضافة المؤتمر، يحمل دلالات رمزية قوية. فالبرازيل التي عانت في السنوات الماضية من إزالة الغابات والتراجع البيئي، تسعى إلى إعادة تموضعها لتكون قائدة في حماية المناخ والتنوع الحيوي.

ومن خلال هذه المبادرة العالمية لسلامة المعلومات، تضع البرازيل نفسها في طليعة الدفاع عن الحقيقة المناخية، في وقت يتزايد فيه الوعي بخطورة الأخبار الكاذبة على مستقبل الكوكب.

لا حلول في زمن الأكاذيب

بينما يناقش قادة العالم في بيليم سبل الحد من الانبعاثات والتكيّف مع تداعيات تغير المناخ، تذكّرهم الأمم المتحدة بأن الحقائق العلمية هي أول خطوط الدفاع عن كوكب الأرض.

فإذا انتصر التضليل، كما حذّر المشاركون، فإن العالم سيخسر ليس فقط الوقت الحاسم لمواجهة الكارثة، بل أيضًا الثقة التي تمثل جوهر التعاون الإنساني.

في كوب-30، رسم القادة خطًا واضحًا.. أنه لن يكون هناك عمل مناخي فعّال في خضم ضباب الأكاذيب، والحقيقة، كما أكدوا، لم تعد مجرد قيمة أخلاقية، بل شرط أساسي للنجاة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية