الغرب ووهم الديمقراطية المثالية الإسرائيلية
الغرب ووهم الديمقراطية المثالية الإسرائيلية
يركّز الخطاب السياسي الغربي على الترويج لفكرة أن إسرائيل تمثل نموذجاً للديمقراطية واحترام حقوق الإنسان في الشرق الأوسط، مستنداً إلى وجود مؤسسات تشريعية، وانتخابات دورية، وصحافة حرة، غير أن هذا التصوير يقتصر على قراءة شكلية للديمقراطية، متجاهلاً المعايير الحقيقية التي تُقاس بها الأنظمة الديمقراطية الليبرالية، وفي مقدمتها مبدأ المواطنة المتساوية، وشمول الحقوق لجميع السكان الخاضعين للسلطة الفعلية للدولة، واحترام سيادة القانون، ونبذ الامتيازات العرقية والدينية. وعند إخضاع الحالة الإسرائيلية لهذه المعايير، يتضح أن الفجوة بين الخطاب المثالي والواقع السياسي والقانوني واسعة وعميقة، ما يجعل الادعاء بامتلاك إسرائيل سجلّاً ديمقراطياً متيناً أمراً محل شك جدّي.
ينطوي التعريف الدستوري للدولة على أنها «يهودية وديمقراطية» على تناقض جوهري، إذ تمنح «يهودية الدولة» حقوقاً جماعية وامتيازات سياسية حصرية لليهود، وهو ما يتعارض مع مبادئ الديمقراطية الليبرالية القائمة على المساواة بين جميع المواطنين. في حين يفترض المبدأ الديمقراطي الليبرالي المساواة بين جميع المواطنين، وقد عزّز «قانون الدولة القومية» لعام 2018 هذا التناقض عبر النص على أن حق تقرير المصير في إسرائيل هو «حق حصري للشعب اليهودي»، الأمر الذي ينتقص من مكانة المواطنين الفلسطينيين داخل حدود 1948 ويُهمّش دورهم في صياغة الهوية الوطنية والمشروع السياسي للدولة، كما أن منح أي يهودي في العالم حق الحصول على الجنسية فوراً، مقابل حرمان الفلسطيني المولود في البلاد من حق العودة أو لمّ الشمل، يعكس منظومة قانونية تمييزية تتناقض مع المفهوم المعاصر للمواطنة المتساوية، وتضع المواطنين الفلسطينيين في موقع ثانوي داخل الدولة التي يعيشون فيها.
وتتجلى آثار هذا التمييز في السياسات العامة، ولا سيما التخطيط العمراني وتوزيع الموارد، فالقرى العربية غير المعترف بها داخل الخط الأخضر، مثل القرى في النقب والجليل، محرومة من البنية التحتية الأساسية، ومنها شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي، في حين يتم تركيز الدعم على المدن والقرى والمستوطنات اليهودية وتطويرها بشكل أوسع. فعلى سبيل المثال تعاني قرى مثل الكعبية والطيرة والعرّابة حرماناً متواصلاً من خدمات الدولة الأساسية، في حين تتلقى المستوطنات اليهودية في نفس المناطق تمويلاً واسعاً لتطوير المرافق التعليمية والصحية، ويتيح نظام «لجان القبول» في البلدات اليهودية استبعاد المتقدمين العرب بذريعة «عدم الملاءمة الثقافية»، ما يكرّس صورة الفصل القومي ويحوّل التمييز إلى آلية مؤسساتية رسمية.
كما تتسع الفجوات في الميزانيات التعليمية والخدمية بين المدارس اليهودية والعربية، ما يؤدي إلى تراجع نوعية التعليم المقدم للأطفال الفلسطينيين داخل الخط الأخضر مقارنة بنظرائهم اليهود. وتزداد هذه الفجوة حدة عند النظر إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث تخضع المدارس الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة لقيود صارمة على البناء والتوسع، إضافة إلى استهداف بعضها أحياناً خلال العمليات العسكرية، في حين يتم تمويل المدارس في المستوطنات اليهودية بمبالغ أكبر بكثير، ما يعكس تمييزاً مؤسسياً ممنهجاً.
ويرتكز الدفاع عن «ديمقراطية إسرائيل» إلى وجود أحزاب عربية داخل الكنيست، باعتباره دليلاً على شمولية النظام. لكن هذا التمثيل السياسي محدود التأثير، إذ لم تشارك الأحزاب العربية في الحكومات الإسرائيلية مشاركة وزارية حقيقية وفاعلة، وترفض معظم الأحزاب اليهودية إدماج الأحزاب العربية في الائتلافات الحكومية، انطلاقاً من اعتبار أن «يهودية الدولة» تمثل إطاراً يحد من مشاركة المواطنين الفلسطينيين في السلطة. إضافة إلى ذلك، تتكرر محاولات إقصاء النواب العرب عبر لجنة الانتخابات بحجة «إنكار يهودية الدولة»، في حين يتعرض النواب العرب لحملات إعلامية وسياسية تهدف إلى نزع الشرعية عن تمثيلهم، وهو ما يقلل من قدرتهم على ممارسة دور برلماني متكافئ.
وتزداد الصورة تعقيداً عند النظر إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967. يخضع ملايين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية لسيطرة إسرائيلية مباشرة، دون أي تمثيل سياسي في الدولة التي تتحكم بتفاصيل حياتهم اليومية. ويخضع الفلسطينيون في الضفة الغربية لقوانين ومحاكم عسكرية، في حين يطبق القانون المدني على المستوطنين اليهود في نفس المناطق، في ازدواجية قانونية صارخة تتناقض مع مبادئ الديمقراطية والمساواة. ويترتب على ذلك تفاقم الوضع الإنساني للفلسطينيين، حيث تمنع السلطات الإسرائيلية أحياناً إقامة المباني الجديدة أو توسيع الطرق، وتستولي على الأراضي لأغراض الاستيطان، في حين تستمر المستوطنات اليهودية في التوسع بحرية تحت حماية قوات الجيش الإسرائيلي.
وقد وصفت منظمات حقوقية دولية كبرى، مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، هذا النظام بأنه يمارس أشكالاً من الفصل العنصري (الأبارتهيد)، نظراً لسياسات السيطرة المنهجية على مجموعة سكانية لصالح مجموعة أخرى، وما يتبع ذلك من تقييد الحقوق الأساسية للفلسطينيين في حرية التنقل، التعليم، الصحة، والتملك. وتشمل هذه الانتهاكات حواجز عسكرية منتشرة في الضفة الغربية تعرقل الفلسطينيين عن الوصول إلى أماكن عملهم أو مدارسهم، في حين يمكن للمستوطنين التحرك بحرية دون قيود.
وتتضمن الانتهاكات أيضاً الممارسات القاسية داخل السجون الإسرائيلية بحق المعتقلين الفلسطينيين، ومنها الحرمان من النوم، التعذيب النفسي والبدني، منع الزيارات، والإهمال الطبي المتعمد. وتشكل هذه السياسات انتهاكاً صارخاً للاتفاقيات الدولية التي تحظر التعذيب والمعاملة القاسية أو اللاإنسانية، وتوضح مدى الانحراف عن المعايير الحقوقية الديمقراطية المفترضة. وقد وثقت تقارير متعددة حالات اعتقال الأطفال الفلسطينيين وممارسات التنكيل بهم أثناء التحقيقات، ما يزيد من المخاوف حول احترام حقوق الإنسان الأساسية.
ولا تقتصر المخاوف على المنظمات الحقوقية، بل امتدت أيضاً إلى الهيئات القضائية الدولية. ففي إطار الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية بشأن انتهاك إسرائيل لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، أصدرت المحكمة في يناير 2024 سلسلة من التدابير الملزمة التي تطالب إسرائيل بمنع ارتكاب أفعال يمكن أن تندرج ضمن الإبادة الجماعية، وضمان عدم تحريض المسؤولين على الكراهية، وتأمين المساعدات الإنسانية، والحفاظ على الأدلة المتعلقة بالانتهاكات المحتملة. وقد أكدت المحكمة، في قرار لاحق، أن الوضع الإنساني قد تفاقم بصورة كارثية، وألزمت إسرائيل باتخاذ خطوات إضافية لفتح المعابر والسماح بدخول المساعدات.
أما المحكمة الجنائية الدولية، فقد أعلن مكتب الادعاء منذ عام 2021 فتح تحقيق رسمي في الوضع في فلسطين، ومنها الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، استناداً إلى شبهات بوقوع جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، تشمل الاستيطان، والاستخدام المفرط للقوة، والاستهداف غير المتناسب للمدنيين. وفي مايو 2024، طلب المدعي العام إصدار مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، استناداً إلى أدلة قوية حول ارتكاب جرائم حرب وانتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني. ويشير مجرد خضوع إسرائيل لتحقيق جنائي دولي إلى جدية المخاوف الدولية ويقوّض الادعاء الغربي القائل إن إسرائيل دولة ديمقراطية تحترم القانون الدولي.
ولا يمكن إغفال أثر التحولات السياسية الداخلية، فحكومة نتنياهو تضم شخصيات متطرفة، مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش اللذين يشغلان منصبين وزاريين مؤثرين، رغم سجلهما في تبني سياسات إقصائية تجاه الفلسطينيين، ودعمهما المستمر للتوسع الاستيطاني ورفضهما حل الدولتين. فوجود مثل هاتين الشخصيتين يعمّق انحراف النظام السياسي عن الأسس الليبرالية التقليدية، ويعكس ميل الدولة نحو التطرف والإقصاء، كما يوضح توجه تلك الحكومة لخدمة مصالح ضيقة لفئات محددة، على حساب الحقوق المدنية والسياسية للأقليات.
وتكشف الأزمات الداخلية، مثل صراع الإصلاحات القضائية عام 2022، هشاشة الفصل بين السلطات داخل المجتمع اليهودي نفسه، في حين يبقى الفلسطينيون غائبين عن هذا النقاش على الرغم من أن نتائجه تمسهم بشكل مباشر، ما يعكس محدودية المشاركة السياسية التي يوفرها النظام لهم. ولم تقتصر التحذيرات على الجهات الخارجية، بل صدرت أيضاً عن شخصيات إسرائيلية بارزة فقد حذّر رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك من أن إسرائيل «تقف على حافة هاوية تنزلق منها نحو نظام غير ديمقراطي»، ودعا إلى مقاومة محاولات إخضاع القضاء. ونبّه الرئيس السابق رؤوفين ريفلين إلى أن «الشرخ الداخلي وعسكرة الخطاب السياسي يهددان مستقبل الديمقراطية»، في حين أكد وزير الدفاع الأسبق موشيه يعلون أن السياسات اليمينية المتطرفة «تدفع إسرائيل نحو نموذج حكم قبلي وديني أكثر من كونه ديمقراطياً». ووصف الكاتب عاموس عوز النزعة القومية - الدينية بأنها «الخطر الأكبر على الطابع الإنساني والديمقراطي لإسرائيل»، في حين شدد الروائي ديفيد غروسمان على أن استمرار السيطرة على شعب آخر سيؤدي إلى «فقدان الحس الأخلاقي والإنساني» داخل المجتمع الإسرائيلي. كما عبّر عدد من القضاة والأكاديميين، بينهم رؤساء سابقون للمحكمة العليا، عن مخاوف مماثلة، معتبرين أن المساعي لإضعاف الجهاز القضائي «تشكل انقلاباً على النظام الدستوري لإسرائيل».
إن تراكم هذه المؤشرات -من التمييز البنيوي داخل الخط الأخضر، والسيطرة العسكرية في الأراضي المحتلة، والتقارير الحقوقية الدولية، والإجراءات القضائية الدولية، وصعود التيارات القومية- الدينية، والتحذيرات الداخلية، يكشف بوضوح أن توصيف إسرائيل بأنها «واحة الديمقراطية» لا يصمد أمام الفحص النقدي؛ فالنظام السياسي الإسرائيلي يجمع بين ديمقراطية إثنية موجّهة لليهود، وحقوق منقوصة للفلسطينيين داخل الخط الأخضر، وسيطرة غير ديمقراطية على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. واستيعاب هذه الحقائق شرط أساسي لفهم طبيعة الصراع وتجاوز الخطابات التبسيطية التي تحجب تعقيدات الواقع وآثاره السياسية والأخلاقية.
إن توصيف إسرائيل «واحة الديمقراطية» في الشرق الأوسط ينهار أمام المعايير الحقيقية للديمقراطية الليبرالية وحقوق الإنسان، إذ يكشف الواقع عن نظام مزدوج المعايير: حقوق كاملة للمواطنين اليهود مقابل حقوق منقوصة للفلسطينيين داخل الخط الأخضر، وسيطرة غير ديمقراطية على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، مدعومة بالتمييز المؤسسي والانتهاكات الحقوقية وصعود التيارات القومية- الدينية وتحذيرات الشخصيات الإسرائيلية البارزة والإجراءات القضائية الدولية. إن إدراك هذه الحقيقة شرط أساسي لفهم طبيعة الصراع وتجاوز الخطابات الغربية المبسطة، كما يشكل أساساً لتطوير سياسات أكثر عدلاً ترتكز على المساواة وحقوق الإنسان، وتتصدى للتمييز والسيطرة غير القانونية على شعب آخر.
نقلاً عن صحيفة "المصري اليوم".











