حين تبتلع الرمال القرى.. سكان تركمانستان في معركة بقاء مع الطبيعة

حين تبتلع الرمال القرى.. سكان تركمانستان في معركة بقاء مع الطبيعة
التصحر في تركمانستان

في أقصى شمال صحراء قره كوم الواسعة، تقف قرية بوكورداك النائية في تركمانستان على خط مواجهة مباشر مع التصحر، ولعقود طويلة اعتمد سكان القرية على الأرض الهامشية المحيطة بهم لتأمين مصادر عيشهم، مستغلين كل رقعة قابلة للزراعة في صراع دائم مع الرمال والرياح والجفاف. واليوم، يخشى كثيرون أن تكون هذه المعركة قد دخلت مرحلة أكثر قسوة مع تسارع زحف الصحراء واشتداد آثار تغير المناخ.

رمال تلتهم المكان والذاكرة

يصف كاكاباي بايميدوف، وهو متقاعد من سكان بوكورداك، المشهد بكلمات تختزل حجم المأساة، حيث يقول إن الكثبان الرملية الكبيرة بدأت خلال السنوات الأخيرة تزحف باتجاه أراضي القرية، مجبرة السكان على التراجع والانتقال إلى مناطق أقل ارتفاعاً، ويضيف أن الوضع أصبح صعباً للغاية لمن يعيشون في نطاق ما يعرف محلياً باسم صحراء غوملي، حيث باتت الرمال تحاصر البيوت والأراضي الزراعية بشكل متسارع، بحسب فرانس برس.

يتذكر بايمدوف أن قرية بوكورداك كانت في السابق قائمة على تلة مرتفعة نسبياً، لكن التغيرات البيئية التي تشهدها تركمانستان وزحف الرمال أجبرا السكان على النزوح التدريجي نحو مناطق دنيا، وهذا التحول لم يكن مجرد تغيير جغرافي، بل مساس مباشر بذاكرة المكان ونمط الحياة التقليدي الذي اعتاده السكان عبر أجيال.

التصحر خطر متصاعد

طالما كانت الرمال والسهوب جزءاً من المشهد الطبيعي في آسيا الوسطى، إلا أن العلماء يؤكدون أن وتيرة التصحر اليوم أسرع من أي وقت مضى، ويشير الخبراء إلى أن تغير المناخ إلى جانب أنشطة بشرية غير مستدامة يسهمان بشكل مباشر في تدهور الأراضي الزراعية وتحولها إلى مساحات قاحلة غير قابلة للاستغلال.

لا يقتصر أثر التصحر على الجانب البيئي والاجتماعي فحسب، بل يمتد ليشكل عبئاً اقتصادياً متزايداً، وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن التصحر يكلف دول آسيا الوسطى نحو 6% من ناتجها المحلي الإجمالي سنوياً، وهو رقم يعكس حجم الخسائر في الزراعة والبنية التحتية وسبل العيش.

قره كوم قلب الأزمة

تغطي صحراء قره كوم أكثر من 80% من مساحة تركمانستان، وهي دولة في آسيا الوسطى كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق وتحدها إيران وأفغانستان، وهذا الامتداد الصحراوي الواسع يجعل البلاد من أكثر الدول عرضة لمخاطر التصحر وتغير المناخ.

يؤكد العالم التركماني محمد دوريكوف أن سوء إدارة الغطاء النباتي والتربة يؤدي إلى تعرية سطح الأرض، ما يجعلها عرضة للتآكل السريع وتدهور الأراضي الزراعية وتكوّن الكثبان الرملية، ويضيف أن إزالة الغابات تمثل عاملاً رئيسياً في تفاقم المشكلة، في حين تزيد موجات الجفاف الشديدة والرياح الجافة المرتبطة بتغير المناخ من حدتها.

ارتفاع غير مسبوق في درجات الحرارة

تشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن آسيا الوسطى تشهد ارتفاعاً في درجات الحرارة بمعدل يقارب ضعف المعدل العالمي منذ عام 1991، ما يجعل المنطقة من أكثر المناطق هشاشة أمام آثار تغير المناخ.

حملة تشجير لمواجهة الخطر

في محاولة للحد من التصحر، أطلقت السلطات في تركمانستان حملة تشجير واسعة النطاق. وأعلنت الحكومة أنها زرعت 162 مليون شجرة خلال العشرين عاماً الماضية، في إطار جهود رسمية لمواجهة تمدد الرمال، وتؤكد وزارة البيئة أن الرئيس يشارك شخصياً في هذه الجهود، وأن الفرق الحكومية تتابع مواقع الزراعة وتشرف على رعاية الأشجار.

رغم هذه التصريحات، يصعب التحقق بشكل مستقل من حجم وفاعلية هذه الحملات، نظراً للقيود المفروضة على التغطية الإعلامية المستقلة في البلاد، حيث تحافظ السلطات على قدر كبير من السرية فيما يتعلق بالأنشطة الحكومية.

حرص الرئيس السابق قربانقلي بردي محمدوف وابنه الرئيس الحالي سردار بردي محمدوف على إبراز جهود مكافحة التصحر، وتظهر وسائل الإعلام الرسمية سردار بشكل متكرر وهو يشارك في حملات غرس الأشجار، في رسالة سياسية ورمزية موجهة إلى الداخل والخارج.

أشجار تتكيف مع الصحراء

يوضح مردان أرازمدوف، عضو جمعية حماية الطبيعة في تركمانستان، أن البلاد انتقلت من زراعة أنواع غير ملائمة مثل التنوب والأرز إلى التركيز على أنواع محلية أكثر قدرة على التكيف مع المناخ الصحراوي.

في بوكورداك يزرع العلماء وسكان القرية بشكل رئيسي أشجار الساكسول، وهي شجيرات صحراوية قوية تمتد جذورها حتى عمق 15 متراً لتخزين المياه، وتلعب هذه الأشجار دوراً مهماً في تثبيت الرمال وتحسين رطوبة التربة، كما تشكل حواجز طبيعية تحمي المنازل من زحف الصحراء.

مبادرة فردية في وجه الرمال

يعتني كاكاباي بايمدوف بنحو 15000 شتلة من الساكسول، في محاولة لبناء جدار أخضر يصد الرمال عن القرية، ويشير إلى إحدى الأشجار التي يبلغ ارتفاعها 8 أمتار فيقول إن نمو شجرة كهذه يستغرق بين 15 و20 عاماً، ما يعكس طول النفس المطلوب في هذه المعركة البيئية.

لا تقتصر زراعة الساكسول على المناطق الريفية، إذ استخدمت أيضاً لحماية العاصمة عشق آباد. ويؤكد أرازمدوف أن ناشطين بيئيين زرعوا أكثر من 50 هكتاراً من أشجار الساكسول على أطراف الصحراء المحيطة بالعاصمة، ما أدى إلى تقليص زحف الرمال وتحسين السلامة المرورية على الطرق المؤدية إليها.

تغير المناخ يعقد المهمة

رغم هذه الجهود، يؤكد بايمدوف أن تغير المناخ جعل المهمة أكثر صعوبة. ففي الماضي، كان يكفي ري شتلات الساكسول الصغيرة بنحو 10 لترات من الماء يومياً، أما اليوم، ومع ارتفاع درجات الحرارة، باتت تحتاج إلى ما يصل إلى 20 لتراً يومياً لضمان تجذرها.

حلول مبتكرة

إلى جانب التشجير، لجأت تركمانستان إلى أساليب علمية أخرى لمكافحة التصحر، ففي العام الماضي، أعلن علماء عن نجاح تجارب رش التربة بالبكتيريا الزرقاء المعروفة بالطحالب الخضراء المزرقة، وهي تقنية تساعد على الاحتفاظ بالرطوبة وتعزيز نمو جذور الأشجار.

في سبتمبر اقترح رئيس تركمانستان إنشاء مركز إقليمي لمكافحة التصحر في آسيا الوسطى، في خطوة تعكس إدراكاً رسمياً لخطورة التحدي البيئي الذي يهدد مستقبل المنطقة بأكملها.

تعد صحراء قره كوم من كبرى الصحارى الرملية في العالم، وتغطي معظم أراضي تركمانستان، ما يجعل البلاد في مواجهة دائمة مع مخاطر التصحر وتدهور الأراضي، وتشهد آسيا الوسطى منذ عقود تغيرات مناخية متسارعة، تمثلت في ارتفاع درجات الحرارة وتراجع معدلات الأمطار وتزايد موجات الجفاف، وتسهم الأنشطة البشرية غير المستدامة مثل إزالة الغابات وسوء إدارة الموارد المائية في تفاقم هذه الظاهرة، وفي ظل هذه التحديات تسعى دول المنطقة، ومنها تركمانستان، إلى تبني استراتيجيات تعتمد على التشجير واستخدام أنواع نباتية محلية وتقنيات علمية حديثة، بهدف الحد من زحف الرمال وحماية المجتمعات الريفية المهددة بالاندثار.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية