"فورين أفيرز": أزمة الديون تسحب العالم النامي إلى الأسفل

"فورين أفيرز": أزمة الديون تسحب العالم النامي إلى الأسفل

أجبر عبء الديون الكينية قادتها على مواجهة سلسلة من الاختيارات المستحيلة، وفي العام الماضي، خفضوا الميزانية الفيدرالية، بما في ذلك الإنفاق على الصحة، لتوفير الأموال لخدمة الديون، كما أخرت الحكومة دفع الرواتب لموظفي الخدمة المدنية.

وفقا لمجلة "فورين أفيرز" الأمريكية، على الرغم من هذه التدابير، اضطرت نيروبي وفي فبراير إلى إصدار سندات دولية بسعر فائدة مذهل يبلغ 10%، مقارنة بحوالي 6% على السندات التي أصدرتها في عام 2021، لإعادة تمويل ديونها الحالية وتلبية احتياجات التنمية. وتنفق كينيا الآن 75% من عائداتها الضريبية على خدمة الديون.

وتحت ضغط الاحتجاجات، رفض الرئيس ويليام روتو مشروع قانون المالية بعد حصوله على موافقة البرلمان، ولكن الأزمة الأكبر التي تواجهها كينيا تظل قائمة، مثل العديد من البلدان في إفريقيا وفي جميع أنحاء العالم النامي.

وفي 38% من البلدان المؤهلة للحصول على المساعدة الإنمائية من البنك الدولي، أصبح نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي أقل اليوم مما كان عليه قبل الجائحة، وهو انخفاض وصفه البنك بأنه "انعكاس تاريخي في التنمية".

وجوهر المشكلة هو تمويل الديون، الدين ليس بالضرورة سيئا؛ وتتحمل كل دولة تقريبًا الديون الخارجية لتغذية اقتصادها، وفي الأوقات العادية، تستطيع أغلب البلدان أن تتحمل عبء خدمة هذا الدين، لكن 4 سنوات من الصدمات الخارجية، بدءا بجائحة كوفيد-19، جعلت المهمة مستحيلة في العديد من الاقتصادات النامية.

وعلى عكس نظرائهم الأثرياء، لم يتمكنوا من دعم اقتصاداتهم خلال الوباء من خلال استغلال الموارد المحلية أو اقتراض الأموال اللازمة، واستنزفت خزائن الدولة بسرعة، وتراكمت التحديات المالية.

عندما رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة على سندات الخزانة الأمريكية في مارس 2022، انخفضت قيمة عملات البلدان منخفضة الدخل وفقدت حكوماتها القدرة على الوصول إلى أسواق رأس المال، وفي إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، هناك 19 بلدا غير قادرة على سداد أقساط الديون أو معرضة بشدة لخطر الوصول إلى هذه النقطة.

ومع قيام الحكومات بتحويل المزيد من الموارد نحو خدمة أعباء الديون التي لا يمكن السيطرة عليها، فإن الأموال المتاحة لديها أقل للاستثمارات القادرة على إنقاذ حياة الناس وتحسينها، وقد تضاعفت القيمة الإجمالية لمدفوعات الفائدة التي سددتها أفقر 75 دولة في العالم، والتي يقع أكثر من نصفها في إفريقيا، 4 مرات على مدى العقد الماضي.

وفي عام 2024، سيتعين على هذه البلدان إنفاق أكثر من 185 مليار دولار، وهو ما يعادل حوالي 7.5% من ناتجها المحلي الإجمالي المجمع، لخدمة ديونها، ووفقا للبنك الدولي، فإن هذا أكثر مما ينفقونه سنويا على الصحة والتعليم والبنية التحتية معا.

ورغم أن البلدان منخفضة الدخل، خاصة في إفريقيا، هي التي عانت أكثر من غيرها من هذا التحول، فإنها أزمة عالمية، فقد أدى تباطؤ النمو إلى تقليص قدرة البلدان على احتواء الأمراض المعدية والآثار الضارة الناجمة عن تغير المناخ، وأدى الركود إلى تأجيج عدم الاستقرار السياسي وأجبر الناس على الهجرة. 

ولمساعدة البلدان منخفضة الدخل على الخروج من أزمة الديون واستعادة النمو العالمي، يتعين على الحكومات الغنية أن تزيد تمويلها لبرامج التمويل الميسرة التي يقدمها البنك الدولي وأن تستفيد من الجهود السابقة لتخفيف أعباء الديون، مثل تلك التي نسقتها مجموعة العشرين، والتي تهدف إلى تخفيف أعباء الديون، في أفقر البلدان.

معضلة الديون

لكي نفهم المأزق لننظر إلى إثيوبيا، في الثمانينيات، كانت واحدة من أفقر دول العالم وشهدت مجاعة مدمرة، ومع ذلك، فقد أصبحت واحدة من أكبر قصص النجاح في مجال الصحة والتنمية العالمية، حيث أدت الاستثمارات الأجنبية والمحلية في الأنظمة الصحية والزراعية إلى خفض معدلات سوء التغذية لدى الأطفال بشكل كبير.

وفي الفترة بين عامي 2000 و2019، انخفضت الوفيات الناجمة عن الأمراض المعدية إلى النصف، وانخفض معدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة بمقدار الثلثين، وانخفض معدل وفيات الأمهات بمقدار ثلاثة أرباع، وتحسنت إمكانية الوصول إلى الصرف الصحي والمياه النظيفة بشكل كبير، ومن عام 2004 إلى عام 2019، ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في إثيوبيا بنحو 200%، ونما اقتصادها بنحو 10% سنويا.

ولكن على مدى السنوات القليلة الماضية، ضاع الكثير من هذا التقدم، وعانت البلاد من أزمات متداخلة، بما في ذلك تفشي مرض كوفيد-19 وغيره من الأمراض، وحرب أهلية مدمرة في تيغراي، قُتل فيها مئات الآلاف من المدنيين، والكوارث الطبيعية، بما في ذلك الجفاف والفيضانات وانتشار الجراد، ومع تعثر عائدات الضرائب وانخفاض المساعدات الدولية المخصصة للصحة الأساسية والتنمية إلى أدنى مستوى لها منذ ما يقرب من عقد من الزمن، لم يكن لدى الحكومة الإثيوبية الأموال اللازمة للاستجابة لهذه الصدمات وتلبية احتياجات سكانها الذين يزيد عددهم على 120 مليون نسمة.

وأصبحت خدمة الدين أكبر بند في ميزانية الحكومة، في حين ظلت الاستثمارات في قطاعات التنمية البشرية الحيوية راكدة، وأنفقت الحكومة 8 دولارات للفرد على الصحة في السنة المالية المنتهية في يوليو 2021 مقارنة بـ26 دولارًا على خدمة الديون.

وقامت الحكومة، التي تواجه عجزاً قدره 58 مليون دولار في ميزانية صحة الأم، بخفض أنواع الإمدادات المجانية المنقذة للحياة التي تقدمها لكل مركز صحي من 60 إلى 11 مركزاً، ولم يعد بوسع النساء الحوامل أن يتوقعن الولادة في منشأة مجهزة.

وكل بير إثيوبي أو شلن كيني ينفق على خدمة الديون باهظة الثمن هو أموال غير متاحة لبناء العيادات الصحية وتوظيفها، وتدريب المعلمين وتجهيز المدارس، وتحسين الإنتاجية الزراعية مع تكيف المنطقة مع الطقس القاسي.

وقد تطورت حلقة مفرغة، إن الاستثمارات في الرعاية الصحية والتنمية مستحيلة بدون موارد مالية، ولكن التقدم الذي يؤدي إلى النمو الاقتصادي -الذي بدوره يولد تلك الموارد- مستحيل دون تحسين النتائج الصحية والحد من الفقر.

بنك الملاذ الأخير

دعت مؤسسة جيتس منذ فترة طويلة إلى إصلاحات النظام المالي العالمي للسماح بتمويل أرخص للدول التي هي في أمس الحاجة إليه، وخلال الجائحة، اتخذت المؤسسات الدولية بعض الخطوات الواعدة في هذا الاتجاه، وفي عام 2020، أطلقت مجموعة العشرين الإطار المشترك، وهي مبادرة تهدف إلى مساعدة الدائنين على التعاون في إعادة هيكلة ديون البلدان المقترضة.

وفي عام 2021، أطلق صندوق النقد الدولي ما يعادل حوالي 650 مليار دولار من حقوق السحب الخاصة، وهو نوع من الأصول الاحتياطية التي يمكن للمتلقين استبدالها بالعملة عند الحاجة، لكن هذه التحركات أثبتت أنها غير كافية.

وفرت مخصصات صندوق النقد الدولي إغاثة مؤقتة بالغة الأهمية، ولكن بسبب هيكل المساهمين في صندوق النقد الدولي، ذهبت حصة الأسد من الأصول التي وزعها إلى البلدان التي لم تكن في حاجة إلى المساعدة، مثل الولايات المتحدة واليابان، في حين تلقت البلدان الإفريقية 5% فقط، من المجموع الكلي.

وقد اتبعت مجموعة العشرين مخصصات صندوق النقد الدولي بالتزامها بإعادة توجيه ما قيمته 100 مليار دولار من حقوق السحب الخاصة، لكن التنفيذ كان بطيئاً، ومن الناحية العملية، لم تتمكن البلدان ذات الدخل المنخفض -التي تحتاج إلى الوصول إلى جزء صغير- من هذه الموارد.

وفي الوقت نفسه، شهدت البلدان التي دخلت الإطار المشترك تأخيرات في إعادة هيكلة الديون حيث كان الدائنون يناضلون من أجل الاتفاق على القروض التي ينبغي إدراجها وكيفية تقسيم التكاليف.

وحتى الآن، تقدمت 4 دول -تشاد، وإثيوبيا، وغانا، وزامبيا- بطلبات لمعالجة الديون في إطار مجموعة العشرين، وكانت تشاد الدولة الوحيدة التي أكملت العملية حتى الشهر الماضي، وتمكنت زامبيا أخيراً من إعادة هيكلة ديونها، بعد 4 سنوات من تطبيقها الأولي، كما وضعت غانا ودائنيها اللمسات الأخيرة على اتفاق في يونيو/ حزيران من شأنه أن يوفر بعض الراحة، لكن الأمر سيستغرق بعض الوقت حتى ينتعش اقتصاد البلاد.

كانت جهود صندوق النقد الدولي ومجموعة العشرين حسنة النية، لكن فعاليتها المحدودة تذكرنا بالتزام قادة العالم الفاشل بتقديم اللقاحات بشكل عادل خلال جائحة فيروس كورونا 2019، وهو التزام آخر في قائمة طويلة من الوعود التي لم يتم الوفاء بها للبلدان منخفضة الدخل.

إن صناع القرار المالي لديهم الفرصة لتقديم أداء أفضل في الاجتماعات المقبلة للأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومجموعة العشرين، وأي حلول يفكرون فيها يجب أن تعطي الأولوية لإتاحة رأس المال منخفض التكلفة لتلك البلدان التي لا تستطيع الوصول إلى المال بأي طريقة أخرى.

وتتلخص إحدى أفضل الخطوات في تقديم التمويل السخي لمؤسسة التنمية الدولية التابعة للبنك الدولي، وتعد المؤسسة الدولية للتنمية أكبر مصدر منفرد للتمويل الميسر- القروض والمنح بأسعار أقل من السوق، وأنواع التمويل الأخرى التي تدعم مشروعات التنمية، فهو في الواقع بنك الملاذ الأخير للدول الخمس والسبعين الأكثر فقراً على هذا الكوكب، حيث يقدم تمويلاً ميسور التكلفة حتى عندما لا تتمكن هذه البلدان من الوصول إلى الأسواق العالمية وعندما تصاب مساعدات التنمية الأخرى بالركود.

ومع التمويل الكافي، يتمتع البنك الدولي بسجل حافل في هذا النوع من التمويل، وخلال 6 عقود من عملها، ساعدت المؤسسة الدولية للتنمية البلدان على تحسين أنظمتها الصحية والتعليمية، وخلق فرص العمل، وبناء البنية التحتية، والتعافي من الكوارث.

وبحلول عام 2022، كانت 36 دولة كانت تعتمد ذات يوم على تمويل المؤسسة الدولية للتنمية -بما في ذلك أنجولا والهند وكوريا الجنوبية- قد تمكنت من تعزيز اقتصاداتها بما يكفي بحيث لم تعد بحاجة إلى مساعدة البنك، وتحتل عشرون دولة منها الآن مرتبة النصف الأعلى من جميع البلدان من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وتساهم 19 دولة الآن في المؤسسة الدولية للتنمية نفسها.

وتعهدت البلدان المانحة، بقيادة الولايات المتحدة (أكبر مساهم منفرد)، واليابان، والمملكة المتحدة، وألمانيا، وفرنسا، والصين، بمبلغ 23.5 مليار دولار لعملية تجديد موارد المؤسسة الدولية للتنمية في عام 2021.

وبسبب التصنيف الائتماني الممتاز للمؤسسة الدولية للتنمية، فقد تعهد البنك بـ 93 مليار دولار يمكن توزيعها على البلدان منخفضة الدخل، ولكن هذا لا يزال غير كاف لانتشال البلدان من الأزمة.

في وقت سابق من هذا العام، دعا رئيس البنك الدولي أجاي بانجا الجهات المانحة إلى زيادة مساهماتها بنسبة تصل إلى 25%، وحين اجتمع أكثر من عشرين من رؤساء الدول الإفريقية في قمة المؤسسة الدولية للتنمية التي استضافتها نيروبي في إبريل، أكدوا الحاجة إلى تجديد موارد أموال البنك بشكل كبير.

حل نظامي

ولكن حتى إذا زادت التبرعات للمؤسسة الدولية للتنمية، فإن البلدان التي تتلقى أموالاً من البنك سوف تستمر في نضالها دون تخفيف أعباء الديون على نطاق واسع، وتتلخص الخطوة الأولى لجعل هذا التخفيف ممكناً في إصلاح الإطار المشترك لمجموعة العشرين.

فشل المقرضون حتى الآن في الاتفاق على كيفية تقاسم تكاليف تخفيف أعباء الديون، والآن حان الوقت لكي يدركوا أن الإجراءات المصممة لعالم ما قبل عشرين عاما -آخر مرة تعاملوا فيها مع أزمات الديون في العديد من البلدان في وقت واحد- بحاجة إلى التحديث.

ويتعين على مؤسسات التمويل الدولية أيضاً أن تبدأ في التفكير في أزمات الديون بشكل مختلف، وفي تقرير نشره في وقت سابق من هذا العام مختبر التمويل من أجل التنمية، وهو مركز أبحاث مقره باريس، اقترح الاقتصاديون إسحاق ديوان، ومارتن كيسلر، وفيرا سونغوي أنه ينبغي التعامل مع بعض هذه الأزمات على الأقل باعتبارها مشكلات تتعلق بالسيولة قصيرة الأجل، وليست من الملاءة الأساسية.

من خلال مساعدة البلدان الإفريقية على الخروج من هذه الأزمة، تستطيع الحكومات الغربية والمؤسسات المالية الدولية إطلاق المزيد من التمويل للإبداع والتنمية في إفريقيا، ويمكنها تحرير الموارد اللازمة لبناء القدرة على الصمود على المدى الطويل في النظم الصحية والغذائية.

وسوف تسمح للحكومات بدعم المزيد من المعلمين ومقدمي الرعاية الصحية، مما يضمن قدرة الجيل القادم من الأفارقة -السكان الأسرع نموا على هذا الكوكب- على تحقيق إمكاناتهم الكاملة، إنها استثمارات ذكية من شأنها أن تحقق فوائد اقتصادية وصحية وأمنية ليس فقط للبلدان المتلقية بل للعالم أجمع.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية