أكثر من 700 مليون شخص يعيشون تحت خط الفقر المدقع.. ومطالب حقوقية لمواجهة التفاوت العالمي

أكثر من 700 مليون شخص يعيشون تحت خط الفقر المدقع.. ومطالب حقوقية لمواجهة التفاوت العالمي

 الفقر وحش جائع يلتهم أحلام الملايين ويحول حياتهم إلى كابوس دائم

كمال مشرقي: يجب إعادة وضع تصور للحقوق الأساسية في ظل التفاوت العالمي

رشاد عبده: على العالم تصحيح مسار الاقتصاد نحو العدالة الاجتماعية

 

في عالم يتسارع فيه التقدم التكنولوجي، يظل الفقر وحشا جائعا يلتهم أحلام الملايين ويحول حياتهم إلى كابوس دائم، والفقر ليس مجرد نقص في المال، بل هو نقص في الفرص والتعليم والرعاية الصحية، بل حتى في الأمل.

وقال المقرر الخاص المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان، أوليفييه دي شوتر، في تقريره الذي اطلعت "جسور بوست" على نسخة منه، والذي تمت مناقشته ضمن البند الثالث من جدول أعمال مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في دورته الـ56، إن النهج السائد المتبع في مكافحة الفقر يعتمد على مسعى زيادة الناتج الكلي للاقتصاد الذي يقاس بالناتج المحلي الإجمالي، إلى جانب إعادة التوزيع التي تعقب مرحلة السوق من خلال الضرائب والتحويلات، غير أن التركيز الحالي على زيادة الناتج المحلي الإجمالي هو تركيز مضلل فزيادة الناتج المحلي الإجمالي ليست شرطا مسبقا لإعمال حقوق الإنسان أو لمكافحة الفقر وعدم المساواة.

ووفقًا لتقارير البنك الدولي، يعيش أكثر من 700 مليون شخص حول العالم تحت خط الفقر المدقع، حيث يضطر هؤلاء الأفراد للعيش بأقل من 1.90 دولار في اليوم. 

وتكشف هذه الأرقام عن واقع مرير، حيث يضطر الملايين لمواجهة تحديات يومية من أجل البقاء، ففي إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، يعيش 40% من السكان تحت خط الفقر المدقع، وهو ما يعادل تقريباً 413 مليون شخص. 

وفي جنوب آسيا، يبلغ عدد الفقراء حوالي 216 مليون شخص، مما يعكس حجم الأزمة في هذه المناطق.

الفقر ليس مجرد أرقام، بل قصص إنسانية محزنة، حيث يُجبر الأطفال على العمل بدلًا من الذهاب إلى المدرسة، وحيث تُجبر الأسر على التخلي عن أبسط متطلبات الحياة الكريمة من أجل البقاء على قيد الحياة. 

وتشير البيانات إلى أن حوالي 152 مليون طفل يعملون في أعمال خطرة حول العالم، مما يحرمهم من فرصة التعليم ويضعهم في دائرة الفقر التي يصعب الخروج منها، ويعد الجوع أحد أوجه الفقر الأكثر قسوة. 

ووفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، يعاني حوالي 690 مليون شخص من الجوع المزمن، وهو ما يعني أن واحدًا من كل 9 أشخاص في العالم لا يحصل على ما يكفيه من الغذاء. 

وفي اليمن، يعيش 20 مليون شخص في حالة من انعدام الأمن الغذائي، مما يجعلها واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية في العالم، كما أن الأثر الصحي للفقر لا يقل خطورة عن الجوع، فالفقر يحرم الأفراد من الوصول إلى الرعاية الصحية الأساسية، مما يزيد من معدلات الوفيات والأمراض. 

وتشير منظمة الصحة العالمية إلى أن الفقر يتسبب في وفاة 14 ألف طفل يوميًا بسبب الأمراض التي يمكن الوقاية منها مثل الإسهال والملاريا والالتهاب الرئوي. 

ففي المناطق الريفية بالهند، تُجبر الأسر الفقيرة على السفر لمسافات طويلة للوصول إلى مراكز الرعاية الصحية، وغالبًا ما يكون العلاج خارج متناول أيديهم بسبب التكلفة الباهظة. 

ويعد التعليم أحد الأركان الأساسية للخروج من دائرة الفقر، ولكن الملايين من الأطفال محرومون من هذه الفرصة، حيث تشير اليونيسف إلى أن حوالي 258 مليون طفل ومراهق لا يذهبون إلى المدرسة، مما يعيق تطورهم الشخصي ويحد من إمكانياتهم المستقبلية. 

وفي نيجيريا، أكبر اقتصاد في إفريقيا، يوجد أكثر من 10.5 مليون طفل خارج نظام التعليم، مما يعكس التحديات الهائلة التي تواجهها البلاد في توفير التعليم للجميع. 

لا يمكن التغاضي عن الأثر الاجتماعي للفقر، وتعميق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، إذ يؤدي إلى عدم استقرار اجتماعي وسياسي، ففي البرازيل، التي تعتبر واحدة من أكبر الاقتصادات الناشئة، يعيش أكثر من 13 مليون شخص في الأحياء العشوائية، حيث تنعدم الخدمات الأساسية مثل المياه النظيفة والصرف الصحي، مما يؤدي إلى انتشار الأمراض وزيادة معدلات الجريمة. 

كذلك فإن التغير المناخي يفاقم أيضًا من أزمة الفقر، فالفقراء هم الأكثر عرضة لتأثيرات التغير المناخي مثل الجفاف والفيضانات، التي تدمر مصادر رزقهم وتدفعهم نحو مزيد من الفقر. 

وتشير التقارير إلى أن التغير المناخي قد يدفع 100 مليون شخص إضافي نحو الفقر بحلول عام 2030، ما لم يتم اتخاذ إجراءات فورية للتكيف مع تأثيراته لكن، على الرغم من هذا الواقع القاسي، ما زال هناك بصيص أمل. 

وتسعى العديد من المبادرات العالمية لمكافحة الفقر وتحقيق التنمية المستدامة، على سبيل المثال تهدف مبادرة "الأهداف العالمية" للأمم المتحدة إلى القضاء على الفقر بحلول عام 2030 من خلال تعزيز النمو الاقتصادي المستدام، وتوفير التعليم والرعاية الصحية للجميع. 

وتلعب برامج المساعدات الإنسانية والتنموية من قبل المنظمات غير الحكومية والحكومات دورًا حاسمًا في تقديم الدعم الفوري والمستدام للمجتمعات الفقيرة، على سبيل المثال، برنامج الأغذية العالمي يقدم المساعدات الغذائية لملايين الأشخاص في مناطق النزاع والكوارث، مما يساهم في تخفيف معاناتهم وتحسين ظروفهم المعيشية. 

وفي الهند، تسعى مبادرات مثل “مهمة الهند النظيفة” لتحسين الظروف الصحية من خلال توفير مرافق الصرف الصحي في المناطق الريفية، مما يقلل من انتشار الأمراض ويحسن جودة الحياة. 

ويرى محللون أن الفقر هو تحدٍ عالمي يتطلب تعاونًا دوليًا وحلولًا شاملة تتجاوز الحدود الوطنية، ويجب على المجتمع الدولي العمل معًا لتطوير سياسات اقتصادية عادلة، وتعزيز التعليم والرعاية الصحية، وتبني ممارسات زراعية مستدامة، والحد من التغيير المناخي.

ويؤكدون أنه من خلال الجهود المشتركة يمكننا الأمل في بناء عالم أكثر عدالة وإنسانية، حيث لا يضطر أي شخص للعيش تحت وطأة الفقر المدقع. 

التحول نحو اقتصاد إنساني

في تقريره المقرر عرضه ومناقشته في الدورة الـ56 لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، شدد المقرر الخاص على ضرورة عدم استخدام أيديولوجية النمو الاقتصادي كأداة للإلهاء عن الحاجة لتوفير السلع والخدمات التي تعزز الرفاهية وتحد من إنتاج السلع غير الضرورية أو الضارة. 

وأكد أن الاقتصاد، إذا استمر في السعي لتحقيق أقصى قدر من الربح، سيلبي طلب الأغنياء، مما يعزز الاستبعاد الاجتماعي ويعيق حقوق الفقراء، موضحا أن التحول نحو اقتصاد قائم على حقوق الإنسان ممكن وضروري لضمان الاستدامة البيئية. 

وأشار التقرير إلى أن التركيز على النمو الاقتصادي يُبرر بزيادة إيرادات الدولة وتوفير الخدمات العامة والحماية الاجتماعية، بالإضافة إلى خلق فرص العمل، لكن العلاقة بين نمو الناتج المحلي الإجمالي ومعدل التوظيف ظلت متفاوتة، وأصبح نمو البطالة هو القاعدة للقياس والتحليل. 

وكشف التقرير أن 670 مليون شخص يعيشون تحت خط الفقر الدولي، ومن المتوقع أن ينخفض هذا العدد إلى 575 مليونا بحلول عام 2030، وهو أقل من الهدف المحدد، وشدد المقرر الخاص على ضرورة مكافحة التفاوتات في الدخل والثروة، حيث تُسهم النخبة الثرية في زيادة الانبعاثات بنسبة 23% منذ 1990، بينما يُسهم الفقراء بنسبة 16% فقط. 

وأكد التقرير أن التفاوت في الدخل والثروة يؤدي إلى هيمنة اقتصادية تتحول إلى نفوذ سياسي، مما يسمح للأغنياء بمنع أي تغيير يهدد مصالحهم. كما أن المشاركة المدنية تكون أقل في المجتمعات الأكثر تفاوتًا.

وختم المقرر الخاص بالتأكيد على ضرورة الانتقال إلى مسار إنمائي يركز على حقوق الإنسان، وهو ما يتطلب استراتيجيات متعددة السنوات وجهودًا على مختلف مستويات الحوكمة.

انتهاكات حقوقية صارخة

وفي هذا الإطار، علق الحقوقي الأردني البارز كمال مشرقي بقوله، إن الفقر العالمي هو واحد من أكثر التحديات والأزمات الحادة التي تواجه البشرية في الوقت الراهن، ويعد انتهاكًا صارخًا لمبادئ حقوق الإنسان الأساسية، وعندما نتحدث عن الفقر، فنحن لا نتحدث فقط عن غياب المال، بل عن غياب الفرص، والأمن، والتعليم، والصحة، والكرامة الإنسانية، مؤكدا أن الفقر يلتهم حياة الأفراد ويعوق المجتمعات من التقدم والازدهار، محولًا طموحات الأجيال إلى أحلام بعيدة المنال، ونوه بأن حقوق الإنسان تنادي بحق كل فرد في حياة كريمة، وهذا يشمل الحق في الغذاء، والمأوى، والتعليم، والرعاية الصحية، ولكن الفقر يسلب الناس هذه الحقوق الأساسية ويجعلها بعيدة المنال، وفي هذا السياق، يصبح من الضروري إعادة النظر في الهياكل الاقتصادية والسياسية العالمية التي تكرس الفقر وتعزز عدم المساواة.

وأوضح “مشرقي”، في تصريحاته لـ"جسور بوست"، أن النموذج الاقتصادي القائم على البحث عن أقصى قدر من الربح، يخدم بشكل رئيسي الأغنياء ويزيد من حدة الفقر بين الفئات الضعيفة والمهمشة، وينبغي أن يتجه العالم نحو اقتصاد إنساني قائم على حقوق الإنسان، حيث يتم توجيه الجهود نحو تقليص الفجوة بين الأغنياء والفقراء وضمان توزيع عادل للموارد والثروات.

وشدد على أنه من المهم أيضًا أن تتبنى الدول سياسات اجتماعية واقتصادية تركز على رفع مستوى المعيشة لجميع أفراد المجتمع، وتوفير التعليم المجاني والرعاية الصحية الشاملة والدعم الاجتماعي للفئات الضعيفة كخطوات أساسية نحو تحقيق العدالة الاجتماعية والقضاء على الفقر، بالإضافة إلى ذلك، يجب تعزيز المشاركة المدنية والسياسية للفئات الفقيرة لضمان أن تكون أصواتهم مسموعة والاعتراف باحتياجاتهم وتلبيتها.  

كمال مشرقي

واختتم قائلا: "الفقر هو جرح عميق في ضمير الإنسانية، ويجب معالجته من خلال نهج شامل يستند إلى مبادئ حقوق الإنسان، مشددا على أنه من خلال الالتزام بتحقيق العدالة والمساواة والكرامة للجميع، يمكننا أن ننشئ عالماً خالياً من الفقر، حيث يتمكن كل فرد من العيش بكرامة وأمل في مستقبل أفضل.

الفقر والاقتصاد نحو عدالة قوية

وقال خبير الاقتصاد الدولي، رشاد عبده، إنه ومن منظور الاقتصاد الاجتماعي، فإن الفقر يعكس خللاً هيكلياً في توزيع الموارد والفرص، ويتطلب معالجة شاملة تتجاوز الحلول الاقتصادية التقليدية في جوهره، مؤكدا أن الفقر هو نتيجة لاقتصاد غير متوازن يتجاهل العدالة الاجتماعية، وعندما يكون الاقتصاد مدفوعًا فقط بمبدأ تحقيق أقصى قدر من الربح، كما يحدث في العديد من النظم الاقتصادية الحديثة، فإن التركيز يتجه نحو تلبية احتياجات الأغنياء وتعظيم ثرواتهم، وهذا النهج يؤدي إلى تراكم الثروات في أيدي قلة، ويزيد من التفاوت الاجتماعي.

وأوضح “عبده”، في تصريحاته لـ"جسور بوست"، أن أحد التأثيرات المباشرة لهذا التفاوت هو إدامة الفقر، فالأفراد الذين يعانون من الفقر غالباً ما يكونون محرومين من الفرص التعليمية، والرعاية الصحية، والإسكان اللائق، وهذا الحرمان يمنعهم من تحسين وضعهم الاقتصادي ويجعلهم أكثر عرضة للتأثيرات السلبية للتغيرات الاقتصادية، وأيضاً يحد من قدرة الأفراد على المشاركة الفعالة في سوق العمل، مما يؤدي إلى عدم الاستقرار الوظيفي وزيادة معدلات البطالة بين الفقراء. 

وأشار الخبير الاقتصادي إلى أن الاقتصاد الاجتماعي يسعى إلى إدماج قيم المساواة والعدالة في النمو الاقتصادي بدلاً من التركيز على الربح فقط، كما يسعى إلى تحسين رفاهية الأفراد من خلال سياسات تدعم التوزيع العادل للموارد وهذا يتطلب استثماراً في التعليم والرعاية الصحية، وتوفير شبكات أمان اجتماعي فعالة، مؤكدا أن تحسين الظروف الاقتصادية للفقراء ليس فقط تصحيحاً للظلم الاجتماعي، بل هو أيضاً استثمار في النمو الاقتصادي المستدام. 

رشاد عبده

وتابع، الأفراد المتعافون من الفقر يمكنهم المساهمة بشكل أكبر في الاقتصاد، مما يخلق دورة إيجابية من النمو والاستقرار بالتالي، لتحقيق التوازن الاقتصادي والاجتماعي، يجب أن يكون هناك تحول في كيفية فهمنا للفقر وعلاقتنا بالاقتصاد، ويجب أن نتبنى استراتيجيات تدعم العدالة الاجتماعية وتعزز الفرص لكل فرد، وليس فقط التركيز على زيادة الأرباح.

واختتم قائلا: "من خلال تبني هذا النهج، يمكننا أن نبني مجتمعات أكثر استقراراً وتوازناً، حيث يصبح القضاء على الفقر هدفاً قابلاً للتحقيق في أرض الواقع".



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية