«يعانون الوصم والتمييز».. دعوات حقوقية لإعادة تأهيل ودمج السجناء السابقين في المجتمع

خبير أردني يوصي بإعادة النظر في فلسفة العقاب

«يعانون الوصم والتمييز».. دعوات حقوقية لإعادة تأهيل ودمج السجناء السابقين في المجتمع

بوصم مجتمعي اعتبرته الأمم المتحدة نوعاً من "الرق المعاصر"، يواجه السجناء المُفرج عنهم بعد قضاء عقوباتهم جملة من التحديات والمعوقات تضاعف من معاناتهم داخل مجتمعاتهم المحلية.

ويلاحق السجناءَ السابقين في مختلف دول العالم آثارُ الوصمة الاجتماعية والنفسية والاقتصادية في مجتمعاتهم، ما يؤثر سلبا على علاقاتهم بأسرهم وكذلك الانخراط في المجتمع، الأمر الذي يدفع بعضهم إلى العودة للجريمة مرة أخرى.

ومؤخرا ناقش "مجلس حقوق الإنسان" التابع للأمم المتحدة تقرير المقرر الخاص المعني بأشكال الرق المعاصرة، بما في ذلك أسبابها وعواقبها، تومويا أوبوكاتا، حول تأثير أشكال الرق المعاصرة على المساجين الحاليين والسابقين، في إطار انعقاد الدورة الـ57 المنعقدة في جنيف.

برامج إعادة تأهيل ودمج السجناء

ورغم الاهتمام الدولي بالعمل على تطبيق برامج إعادة تأهيل ودمج السجناء السابقين، فإن تلك البرامج لا تزال تعاني نقصا في الدعم الحكومي والتمويل والاستدامة، ما يسهم في تجذر التمييز والوصم تجاه المفرج عنهم من السجناء.

وتقول الأمم المتحدة إن فرص الحصول على عمل لائق ما زالت قليلة للغاية، إذ عادة ما يتردد رجال الأعمال وأصحاب الشركات في توظيف السجناء السابقين، ما يضطرهم إلى اللجوء للاقتصاد غير الرسمي، حيث تقل أو تنعدم حماية العمل والضمان الاجتماعي، ما يزيد خطر الاستغلال في العمل.

وبحسب القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء، يفرض العمل على جميع المحكوم عليهم، تبعا للياقتهم البدنية والعقلية كما يحددها الأطباء، ويوفر للسجناء عمل منتج يكفي لتشغليهم طوال يوم العمل العادي، ويكون هذا العمل، إلى أقصى الحدود المستطاعة، من نوع يصون أو يزيد قدرة السجين على تأمين عيشه بكسب شريف بعد إطلاق سراحه.

التمتع بجميع حقوق الإنسان

ووفق القانون الدولي لحقوق الإنسان، يحق للسجناء السابقين بمجرد الإفراج عنهم التمتع بجميع حقوق الإنسان المنصوص عليها في القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي للعمل، وما يترتب على ذلك من عدم التمييز في الحصول على التعليم والتدريب والعمل اللائق.

لكن في الواقع يعاني السجناء السابقون من نظرة متدنية تعد وصما مجتمعيا يحول دون إيجاد العمل لفترات طويلة ويؤدي إلى الفقر والانعزال الاجتماعي والشعور بالاستبعاد والعار، جراء إدانتهم السابقة بارتكاب جريمة.

ويعاني السجناء السابقون في بعض الدول من فترات المراقبة الطويلة بحكم محكمة كعقوبات تبعية للحكم الأصلي، ما يضاعف صعوبة رد الاعتبار أو احتمالات التعيين في المؤسسات الحكومية، إضافة إلى رفض الإقراض من البنوك أو حتى ترخيص سيارة شخصية أو استخدامها في أغراض تجارية كعربة بضائع متنقلة.

وتدعو المنظمات الأممية والدولية إلى ضرورة دفع إعانات البطالة أو استحقاقات ضمان اجتماعي للسجناء السابقين على نطاق واسع، إذ يتعين على الدول أن تولي اهتماما خاصا للسجناء والمحتجزين في تنفيذ الضمان الاجتماعي، بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

تأمين الحصول على سكن

ويوصي الخبراء والفاعلون في هذا الشأن بضرورة تأمين الحصول على سكن اجتماعي أو سكن خاص بكلفة يسيرة، لأن العديد من السجناء السابقين يتعرضون للتمييز في هذا الشأن وكثيرا ما ينتهي بهم المطاف في حالة تشرد، وهو ما يعرضهم بدوره لخطر أشكال الرق المعاصرة وغيرها من تجاوزات حقوق الإنسان.

ويؤدي المساجين مجموعة كبيرة من الأعمال على مستوى العالم، مثل صيانة المرافق الإصلاحية وغيرها من خدمات الدعم وإنتاج السلع لصالح السلطات العامة، والأشغال العامة مثل بناء الطرق والحدائق والمباني العامة أو صيانتها.

وتقر بعض الدول بأن يعمل السجناء لمنفعة مؤسسات الأعمال التجارية والكيانات الخاصة في مختلف القطاعات، مثل الزراعة وصناعات الملابس والتجميع والصناعات الغذائية وغيرها من صناعات التعبئة والتغليف والصناعات التحويلية، ويشمل ذلك خطط الإفراج بواسطة العمل حيث يتسنى للأشخاص الذين هم على وشك أن يطلق سراحهم العمل أثناء النهار خارج مرافق المؤسسة الإصلاحية.

نقص في برامج التأهيل

ويقول الخبراء والمتخصصون في برامج التأهيل، إن الوصم المجتمعي يؤثر سلبًا على فرص السجناء السابقين في العثور على فرص عمل والحصول على الإسكان وبناء حياة مستقرة بعد السجن، لا سيما أن العديد من أصحاب العمل وأصحاب المساكن قد يميلون إلى تجنب التعامل مع السجناء السابقين بسبب المخاوف من السلوكيات السابقة أو الأفعال الجنائية.

ويزيد هذا الوصم من صعوبة إيجاد السجناء السابقين فرص عمل ووظائف مستقرة ومناسبة، ما يجعلهم عرضة للبطالة والفقر والنبذ المجتمعي ويهدد استقرار أسرهم ويؤدي إلى تدهور حالتهم النفسية، ما يؤدي إلى فرض مزيد من العزلة الاجتماعية.

ويوصي الخبراء للتغلب على تداعيات الوصم المجتمعي للسجناء السابقين، بضرورة دعم الدول ممثلة في الحكومات والشعوب لآلية متكاملة للتأهيل والدمج المفرج عنهم من المؤسسات العقابية، وذلك من خلال توفير برامج توعية للمجتمع بأهمية دعم وإعادة إدماج السجناء السابقين.

ويلزم أيضا تشجيع أصحاب العمل وأصحاب المساكن على إعطاء الفرص لهؤلاء الأفراد، كما ينبغي توفير دعم اجتماعي ونفسي للسجناء السابقين لمساعدتهم على التكيف مع حياتهم الجديدة وتجاوز التحديات التي يواجهونها.

وتشير دراسات دولية إلى أن غالبية السجناء المفرج عنهم حديثا لا يعملون من ستة أسابيع إلى عام بعد مغادرتهم السجن، ويظلون مرتبطين بأقرانهم داخل السجن عقب الإفراج عنهم نظرا لصعوبة دمجهم مجتمعيا، وتزداد تلك الصعوبة تبعا لمدد العقوبة، حيث يستطيع السجناء لمدد قصيرة التأقلم والعودة لحياتهم أسهل وأسرع من ذوي المدد الطويلة.

ولا توجد في معظم الدول العربية إحصائيات محددة حول الفرص المتاحة أو قدرة المفرج عنهم على الحصول على مأوى أو عمل بمجرد خروجهم من السجن بعد قضاء فترة عقوباتهم.

وتكتسب برامج التأهيل والدمج للسجناء السابقين أهمية بارزة في مختلف المجتمعات، لأنها تساعدهم على عدم العودة إلى الإجرام وتحسين النتائج لأولئك الذين يغادرون السجن، وتشجيعهم على تغيير مستقبلهم وإعادة بناء حياتهم وإحداث تأثير إيجابي على مجتمعاتهم.

وعادة ما تُمكن هذه البرامج السجناء السابقين أيضا من تطوير المهارات والموارد التي يحتاجون إليها لتحقيق النجاح بعد إطلاق سراحهم من المؤسسات العقابية، وذلك من خلال البرامج التي تعزز الإبداع والابتكار والتمكين الذاتي والثقة بالنفس وغيرها.

الغرض من فلسفة العقاب

اعتبر مستشار حقوق الإنسان في الأردن والمنطقة العربية لعدد من الوكالات الأممية ومنظمات المجتمع المدني، الدكتور رياض الصبح، أن "المعاناة التي يواجهها السجناء السابقون في العالم العربي تتجاوز حدود الوصم والتمييز، لتصل إلى الغرض من فلسفة العقاب، والتي تعتمد بشكل أساسي على تحقيق الردع العام والخاص".

وأوضح الصبح في تصريح لـ"جسور بوست"، أن تحقيق الردع مطلوب، لكنه لا يتضمن في طياته أمرا يتعلق بإصلاح الإنسان، ولذلك نجد العديد من نزلاء مراكز الإصلاح يكررون ارتكاب الجرائم ويعودون مجددا للسجون، ولذلك إذا أردنا العمل على إصلاح حقيقي فلا بد من إطلاق برامج للتأهيل سواء أثناء فترة العقوبة أو بعد الإفراج عنهم.

وأضاف: "معظم مراكز إصلاح وتأهيل السجناء السابقين في العالم العربي اسم على غير مسمى، لأنها غير مؤهلة للقيام بهذه الدور ولا تقدم خدمات التعافي والتشافي النفسي عبر كوادر فنية متخصصة في هذا الشأن"، مؤكدا أن ذلك يأتي بهدف ضمان الاستقرار النفسي للسجناء، إلى جانب تحليل أسباب ارتكاب الجرائم، ومن ثم توجيه الحالات المستهدفة نحو تصويب سلوكها ليكونوا أكثر نفعا للمجتمع.

ومضى الصبح قائلا: "يجب على وزارات الدولة أن تعمل على تعيين السجناء السابقين، تحت توجيهات سلوكية ومتابعة منضبطة، لتوفير فرص عمل بوظائف محددة لهم، حتى وإن كانت فرصاً مؤقتة لحين شعور هؤلاء السجناء بالاندماج الحقيقي في المجتمع، وهذه السياسات الإصلاحية لا بد من تعميمها والتوسع فيها، لتحقيق الغرض منها في تأهيل ودمج السجناء السابقين وضمان عدم عودتهم للأفعال الإجرامية مرة أخرى".

وأشار الحقوقي الأردني إلى الأضرار الاجتماعية الناجمة عمّا أسماه بـ"استسهال معاقبة الناس بالسجن" والذي ينتشر في العالم العربي، حيث يتم توقيف أي شخص يخالف القانون حتى وإن كانت أموراً بسيطة لا تعد جنايات أو جنحاً، رغم أن هناك ما يسمى بالعقوبات البديلة، وهي العقوبات التي يُحكم بها بديلا للعقوبات السالبة للحرية.

وتابع: "تفعيل هذه العقوبات البديلة قد يسهم في تخفيف اكتظاظ السجون، وتخفيض التكلفة الاجتماعية والاقتصادية لمنظومة أماكن الاحتجاز، وتقليل احتمالات اكتساب المدانين للأفعال الإجرامية من أقرانهم داخل السجون، إلى جانب تخفيف معاناة السجناء السابقين مع الوصم والتمييز".

واختتم رياض الصبح حديثه قائلا: "هذا المسار يحتاج إلى دراسة فلسفة العقاب، والابتعاد عن توقيف الأشخاص بغير الضرورة، واعتماد برامج منضبطة لتأهيل ودمج السجناء سواء أثناء قضاء فترة عقوبتهم أو بعد الإفراج عنهم".

تقديم الدعم النفسي للسجناء

وأوضح نقيب الاجتماعيين بمصر، الدكتور عبدالحميد زيد، أن عملية دمج التدابير التأهيلية مع حلول العدالة الجنائية تقتضي بطبيعة الأمر تدريب موظفي السجون على استخدام الأدوات المناسبة لتقييم المخاطر وتقديم الدعم النفسي للسجناء.

وشدد زيد في تصريح لـ"جسور بوست" على أهمية عدم حرمان المفرج عنهم من فرص الدمج المجتمعي والحصول على فرص عمل لائقة والانخراط في مختلف الأنشطة الاجتماعية والتنموية والاقتصادية والسياسية بالبلاد، لا سيما أن التهميش المجتمعي يمكن أن يحول هذه الفئة مع الوقت إلى مجرمين حقيقيين يتعمدون الإضرار بأنفسهم وبالمجتمع.

وأضاف: "يجب أيضا تأهيل ذوي السجناء نظرا لطبيعة الاحتكاك المباشر معهم والتأثير عليهم في كثير من الأحيان، الأمر الذي يتطلب أن تكون برامج التأهيل والدمج والإصلاح أقرب لمشروعات قومية تحظى باهتمام الدول ومؤسساتها لتحقيق العائد والمردود المتوقع، والذي ينعكس بالضرورة على السلام المجتمعي في البلاد".

وأكد نقيب الاجتماعيين أن برامج التأهيل ودمج السجناء السابقين لا تزال تعاني من الضغط والمحدودية سواء في التنفيذ أو المردود بجميع الدول العربية، لا سيما في ظل عدم رعايتها بشكل كامل وقلة الإمكانيات لدى منظمات المجتمع المدني العاملة في هذا المجال.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية