«الإنترنت».. شبكة تنحرف وتتغير قواعدها

«الإنترنت».. شبكة تنحرف وتتغير قواعدها
د. ياسر عبد العزيز

لم يكن اختيار قاموس «أكسفورد» مصطلح «تعفن الدماغ» (Brain Rot) كلمة العام 2024 مسألة عبثية، أو نوعا من المبالغة، بعدما بات من نافلة القول إن الإفراط فى التعرض لمحتويات شبكة «الإنترنت» السطحية والمُبتذلة يقود بالفعل إلى اضطرابات ذهنية ونفسية، ويعزز البلادة والتفاهة، بشكل يسوغ وصف «العفن».

وستزيد الأدلة على حدوث تغير فارق فى سمات الشبكة العالمية المؤثرة والحيوية، عندما نعرف أن جزءا مُعتبرا منها يظل غاطسا ومحجوبا عن قطاع كبير من المستخدمين، والمقصود بهذا الجزء «الإنترنت العميق»، الذى يحتاج متصفحات خاصة، ويقوم على التخفى، ويحفل بالكثير من الجرائم والمخاطر الفائقة.

لكن «الإنترنت» السطحى، الذى يستخدمه نحو 5.35 مليار نسمة، يشكلون ثلثى سكان العالم تقريبا، يطرح بدوره إشكاليات كبيرة إلى جانب ما يقدمه من فرص ومزايا رائعة، ومن بين تلك الإشكاليات أنه بدأ يفقد سمات أساسية فى جيناته الرئيسية، ومنها الانفتاح، والنجاعة، والامتثال للمعايير المُعلنة.

لقد تم ابتكار شبكة «الإنترنت» فى الولايات المتحدة غداة نهاية الحرب الباردة، حيث بدأت عملها المذهل والمثير للخيال معتمدة أيديولوجية قائمة على الانفتاح والحرية والتفاعل النشط بين الأفراد والجماعات والأمم.

رفدت «الإنترنت» الإنسانية بفوائد عظيمة، واختصرت قرونا من العمل فى المعرفة والتواصل إلى سنوات قليلة، لكن بموازاة ذلك نشأت خمسة مخاطر، أولها درجة كبيرة من الاعتماد على الشبكة التى استسلمت لنزوع احتكارى لعدد محدود من الشركات الأمريكية، وثانيها قابلية كبيرة للتأثر بأنشطة ضارة وهدّامة على صعيدى الأمن الفردى والخصوصية، وثالثها ممانعة واضحة لجهود التنظيم والضبط، ورابعها أنها باتت أداة من أدوات الحرب والصراع والتدخلات فى شؤون الدول، وأخيرا نزوعها التجارى، وغرقها فى السطحية والابتذال.

لقد أقنعت تلك المخاطر السلطات الوطنية فى عدد من دول العالم بضرورة اتخاذ تدابير لتنظيم الشبكة، وقد جرى هذا عبر سن قوانين محلية تستهدف فرض قيود على المحتوى المُتداول عبرها، أو تغريم الشركات العملاقة القائمة على أهم مواقعها مبالغ موجعة عند وقوع «المخالفات»، أو ملاحقة المستخدمين ومحاسبتهم على الممارسات غير المرغوبة. كلما تم الإفراط فى تلك الإجراءات «الدفاعية»، كُبح نمو الأنشطة على الشبكة، وتغيرت أيديولوجيتها القائمة على الانفتاح والحرية إلى أيديولوجية جديدة قائمة على الضبط والرقابة والتعتيم.

لكن تلك التدابير لم تكن كافية عند احتدام الصراعات بين القوى المؤثرة وزيادة قابلية الشبكة للعب أدوار فى حسم تلك الصراعات، وهنا نشأ تعبير «الإنترنت السيادى»، الذى هو حقيقة صينية فى الأساس ظهرت عندما أممت بكين الأنشطة على الشبكة وأخضعتها للسيادة الوطنية. أما روسيا، التى أظهرت ولعا بالشبكة وبراعة فى التلاعب بثغراتها، فلم تكن بمنأى عن محاولة تأميمها، إذ وقع الرئيس بوتين قانونا فى عام 2019 تحت اسم «السيادة على الإنترنت»، ومنذ ذلك التاريخ وموسكو لا تتوقف عن محاولة الاستئثار بإدارة شبكتها، بما يبقيها بعيدة عن تأثيرات الشبكة الأم وتدخلات القائمين عليها. يدور حديث مهم فى أروقة مراكز التفكير الغربية راهنا حول التغير الذى طرأ على قيم «الإنترنت» من الانفتاح والحرية إلى الضبط والتقييد، والتصور الذى يتغير رويدا رويدا من «شبكة أممية تربط الأفراد والأمم» إلى «مسار ملتبس يحظى بالفرص وتحوطه المخاطر ويحتاج إلى إدارة حكومية».

ويتطور هذا الحديث مع الوقت ليطرح التساؤل عما إذا كانت أيديولوجية «الإنترنت» يجب أن تتغير، خصوصا أن الشبكة باتت جزءا من الحرب المعاصرة وأداة رئيسية للنزاعات السيبرانية، وبينما أخذت المساحة التى تحظى بالاتفاق على أساليب إدارتها تتقلص باطراد، لم يطور المجتمع الدولى آلية واضحة ومُتفق عليها لتنظيم الشبكة والحد من المخاطر التى تصدر عنها.

فإذا استمر الإخفاق فى جبر الرتوق الآخذة فى الاتساع فى الشبكة، فإن «الإنترنت السيادى» سيصبح ملمحا أساسيا فى العقد الراهن، وستعتمده دول كثيرة، خصوصا تلك التى تُوصف بالانغلاق أو الاستبداد، وهنا ستتغير أيديولوجية الشبكة من «الحرية والانفتاح» إلى الامتثال للسيادة الرقمية الوطنية، التى هى «حق الدولة فى إدارة نطاقها الرقمى وفقا لتشخيصها لمصالحها الحيوية».

سيعنى هذا أن «الإنترنت» ستكون شبكة لا مركزية، وأنها ستعيد تذكيرنا بالأوضاع التى سبقت ظهورها بإشراقاتها الزاهرة وصدماتها العميقة.

وسيتعزز هذا الميل باطراد بموازاة غرق الشبكة فى تصدير التفاهة والسطحية، عبر مكافأة أنماط المحتوى الضارة والمُبتذلة، فى مقابل تحجيم المحتوى الجاد والأغراض العملية المشروعة.

إن طوفان الإعلانات، وسيادة النزعة التجارية، وفتح المجال لشذاذ الآفاق والمتنطعين ليصبحوا نجوما عبر ديناميات الشبكة، كلها مخاطر تؤدى إلى انحراف الشبكة عن مقاصدها السليمة، وستقود إلى تغيير قواعدها المتمثلة فى الحرية والانفتاح.


نقلاً عن صحيفة المصري اليوم



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية