من الفضاء للواقع.. كيف تُعيد الأقمار الصناعية صياغة معادلة رصد الأزمات البيئية وحماية الأرض؟
من الفضاء للواقع.. كيف تُعيد الأقمار الصناعية صياغة معادلة رصد الأزمات البيئية وحماية الأرض؟
يشهد العالم أزمات بيئية متزايدة تتراوح بين ارتفاع درجات الحرارة، وذوبان الجليد، والتصحر، وانخفاض التنوع البيولوجي، مع تعقيد هذه المشكلات واتساع نطاق تأثيراتها، أصبحت الحاجة ملحة لتطوير أدوات مبتكرة وفعالة لرصد التغيرات البيئية وتحليلها.
وفي هذا السياق، برزت الأقمار الصناعية كوسيلة رائدة ليس فقط لرصد البيئة، ولكن لفهم التحولات العميقة التي تحدث على كوكبنا، وتمكين الدول من الاستجابة بفاعلية لهذه التحديات.
وباتت الإمارات واحدة من الدول الرائدة في تقنيات الفضاء، وأسهمت بشكل كبير من خلال إطلاق الأقمار الصناعية مثل "محمد بن زايد سات" (MBZ-Sat) الذي يمثل قفزة نوعية في جهود حماية البيئة وتحقيق الاستدامة العالمية.
ويمثل إطلاق القمر الصناعي MBZ-Sat يوم 14 يناير 2025 محطة فارقة في تاريخ الإمارات ومساعيها البيئية، تم تطوير هذا القمر بقدرات تقنية متقدمة، حيث يوفر دقة تصوير تصل إلى 10 مرات مقارنة بالأقمار السابقة وسرعة توصيل البيانات خلال ساعتين فقط.
مراقبة البيئة بشكل دقيق
بفضل كاميراته عالية الدقة ونظام الملاحة المتقدم، يمكنه مراقبة البيئة بشكل شامل ودقيق، ما يعزز من قدرة الإمارات على رصد الظواهر المناخية غير المرئية بالعين المجردة أو الوسائل التقليدية، وبحسب مركز محمد بن راشد للفضاء، فقد تم تصميم القمر لتحقيق أهداف متعددة تشمل مراقبة التغيرات المناخية، ودعم جهود الإغاثة من الكوارث الطبيعية، وتحليل جودة المياه، ما يجعله أداة استراتيجية لمواجهة التحديات البيئية.
وأصبحت الأقمار الصناعية، بما في ذلك MBZ-Sat أعين البشرية في الفضاء لرصد الأزمات البيئية المتصاعدة.
تقرير لوكالة ناسا عام 2023 أكد أن الأقمار الصناعية ساهمت في رصد زيادة بنسبة 12% في معدلات إزالة الغابات المدارية بين عامي 2020 و2022، وهو ما أتاح تحديد مناطق الخطر البيئي، مثل غابات الأمازون وإندونيسيا. هذا النوع من البيانات هو إحدى الركائز التي يعتمد عليها صناع القرار لتوجيه الجهود الدولية نحو حماية هذه المناطق الحرجة.
وفي ما يتعلق بانبعاثات الكربون، تُظهر الأقمار الصناعية تقدمًا كبيرًا في مراقبة الملوثات الجوية. تقرير لمنظمة المناخ الدولية لعام 2024 أوضح أن الأقمار الصناعية مثل "كوبيرنيكوس سنتينل-5 بي" رصدت مصادر 60% من انبعاثات الميثان الصناعية بدقة عالية، هذه البيانات ضرورية لتوجيه السياسات البيئية نحو تقليل الانبعاثات، وهو دور حاسم يلعبه MBZ-Sat من خلال تقديم بيانات آنية حول مستويات التلوث في الغلاف الجوي ومصادره الرئيسية.
أداة للتنبؤ بالأزمات البيئية
وتتجاوز فوائد الأقمار الصناعية مجرد الرصد، حيث إنها أصبحت أداة أساسية للتنبؤ بالأزمات البيئية قبل حدوثها. تقرير لهيئة الأمم المتحدة لشؤون الكوارث لعام 2023 أشار إلى أن الأقمار الصناعية ساهمت في خفض خسائر الفيضانات في آسيا بنسبة 18% من خلال تحذيرات مبكرة تعتمد على تحليل الصور الفضائية.
ويعد القمر الصناعي الإماراتي MBZ-Sat ركيزة محورية في هذا الإطار، حيث يمكنه التنبؤ بالكوارث الطبيعية مثل الفيضانات والجفاف باستخدام بيانات دقيقة ومتقدمة.
وفي مجال جودة المياه، تلعب الأقمار الصناعية دورًا حيويًا في رصد مصادر المياه العذبة وتحليل تأثير التلوث. تقرير صادر عن معهد الموارد العالمية في عام 2024 كشف أن 35% من بحيرات العالم الكبرى تعاني من تدهور في جودة المياه بسبب التلوث الصناعي، البيانات التي يوفرها MBZ-Sat تساعد في الكشف عن المناطق التي تتأثر بتغير جودة المياه، ما يدعم الجهود الرامية إلى إدارة الموارد المائية بشكل مستدام وتقليل تأثير الجفاف على المناطق المهددة.
من ناحية الزراعة، تُعد الأقمار الصناعية أداة استراتيجية لتقييم تأثير التغير المناخي على الإنتاج الغذائي. تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة (FAO) لعام 2024 أشار إلى أن 23% من الأراضي الزراعية حول العالم تعرضت للتدهور بين عامي 2000 و2023 نتيجة التغير المناخي، القمر MBZ-Sat يوفر بيانات آنية تسهم في تحسين كفاءة استغلال الأراضي الزراعية، ودعم تقنيات الزراعة المستدامة، وتقليل الفاقد الغذائي الناجم عن العوامل المناخية.
ذوبان الجليد هو قضية أخرى تتعامل معها الأقمار الصناعية بفاعلية. دراسة نُشرت في مجلة "نيتشر كوميونيكيشن" عام 2024 أكدت أن الأقمار الصناعية ساعدت في قياس معدلات ذوبان الغطاء الجليدي في جرينلاند والقارة القطبية الجنوبية، حيث سُجل ذوبان سنوي يزيد على 430 مليار طن، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 27% على العقد الماضي، هذه المعلومات تُستخدم لدراسة تأثير ارتفاع مستوى البحار على المناطق الساحلية، ما يتيح وضع خطط لحماية السكان والبنى التحتية في تلك المناطق.
الإمارات، من خلال إطلاق MBZ-Sat، لم تقتصر على جمع البيانات البيئية، بل سعت إلى تمكين الشركات المحلية وتطوير بنية تحتية متقدمة لصناعة الفضاء، وفقًا لمركز محمد بن راشد للفضاء، تم تصنيع 90% من مكونات القمر الصناعي بواسطة شركات إماراتية، ما يعكس رؤية الدولة لتعزيز قدراتها التقنية وتنافسيتها العالمية، هذا التعاون بين القطاعين العام والخاص يعكس استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى تحويل الإمارات إلى مركز إقليمي وعالمي للتكنولوجيا الفضائية.
تحسين تنفيذ البرامج البيئية
ولا تقتصر التأثيرات الإيجابية للأقمار الصناعية مثل MBZ-Sat على الرصد والتحليل فقط، بل تشمل تحسين كفاءة تنفيذ البرامج البيئية.
وأوضح تقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) عام 2024 أن استخدام البيانات الفضائية يقلل تكاليف البرامج البيئية بنسبة تصل إلى 40% من خلال تقليل الاعتماد على وسائل التحليل التقليدية وزيادة دقة التوقعات.
ويمثل إطلاق MBZ-Sat نموذجًا عالميًا لكيفية استخدام التكنولوجيا لمواجهة التحديات البيئية، هذا القمر الصناعي، الذي يجمع بين الابتكار التكنولوجي والرؤية البيئية المستدامة، يعكس التزام الإمارات بدور ريادي عالمي في حماية البيئة. توظيف بيانات دقيقة وشاملة لرصد الأزمات البيئية وتقديم حلول مبتكرة يعزز من مكانة الإمارات كدولة تسهم في تحقيق التوازن بين التنمية والاستدامة البيئية.
وفي خضم التغيرات البيئية العالمية، تبقى الأقمار الصناعية أمل البشرية في رصد وحل المشكلات المعقدة التي تهدد كوكبنا، القمر الصناعي MBZ-Sat يُجسد رؤية الإمارات لبناء مستقبل مستدام يعتمد على التكنولوجيا والابتكار، ومع استمرار تطور تقنيات الفضاء، تتعزز فرص مواجهة التحديات البيئية وضمان مستقبل آمن ومستدام للأجيال القادمة.
الأقمار الصناعية من منظور حقوقي
قال الخبير الحقوقي البحريني، علي زيد، إنه من منظور حقوق الإنسان، تعد الأقمار الصناعية أداة هامة لحماية البيئة باعتبارها جزءاً من حقوق الأفراد الأساسية في العيش في بيئة صحية وآمنة، ففي الوقت الذي تتزايد فيه آثار التغير المناخي على ملايين الأشخاص حول العالم، تأتي ضرورة احترام حق الإنسان في بيئة آمنة كجزء من منظومة حقوقه، عندما تساهم الأقمار الصناعية في الكشف المبكر عن الأزمات البيئية، فإن ذلك يمكن أن يسهم في تجنب كوارث مثل الفيضانات، وحرائق الغابات، التي قد تهدد الأرواح والممتلكات، ما يعزز حق الإنسان في الحياة والحماية من الأضرار البيئية، ومن هنا يظهر الربط الحيوي بين التقنيات الفضائية وحقوق الإنسان، إذ من شأن هذه التقنيات تعزيز قدرة الدول على الاستجابة للأزمات البيئية، وبالتالي حماية صحة الإنسان وحقوقه.
وتابع زيد، في تصريحات لـ"جسور بوست"، على الرغم من الإيجابيات التي لا يمكن إنكارها لهذه الأدوات، فإن هناك بعض التحديات القانونية والأخلاقية التي قد تثير تساؤلات حول استخدامها، من بين هذه التحديات، نجد مسألة الوصول إلى هذه البيانات البيئية، فليس جميع الدول تملك نفس القدرة على استخدام هذه التقنيات المتطورة، سواء من حيث الإمكانيات المالية أو التقنية، ما يعني أن هناك فجوة بين الدول المتقدمة والدول النامية في ما يخص الاستفادة من البيانات الفضائية، وبالتالي فإن استغلال الأقمار الصناعية لصالح حماية البيئة قد يكون في بعض الحالات مقتصرًا على مجموعة من الدول القادرة فقط، الأمر الذي يفاقم اللامساواة.
وتابع، تبرز قضية الوصول إلى المعلومات كجزء من حقوق الإنسان الأساسية، إذ إن الحق في المعرفة والمعلومات المتعلقة بالبيئة يجب أن يكون حقًا متاحًا لجميع الأفراد، بغض النظر عن موقعهم الجغرافي أو وضعهم الاقتصادي، فالمجتمعات الأكثر فقرًا هي التي تعاني في كثير من الأحيان من أسوأ آثار التغير المناخي، من قبيل الجفاف، وارتفاع درجات الحرارة، وفقدان المحاصيل الزراعية، لذلك، من الضروري أن تكون البيانات البيئية، التي توفرها الأقمار الصناعية، في متناول الدول الأكثر عرضة للأزمات البيئية، لضمان تكافؤ الفرص في التصدي لهذه التحديات.
وقال زيد، إن الاستخدام الأمثل للأقمار الصناعية يجب أن يتم في إطار التعاون الدولي، بحيث يتم تبادل البيانات البيئية بين الدول والمجتمعات بشكل عادل ومنصف، وبالتالي تيسير استفادة جميع الدول من هذه التكنولوجيا المتقدمة، فهذا لن يساعد فقط في تحسين الاستجابة للأزمات البيئية، بل سيعزز أيضًا الالتزام بالقيم الإنسانية المتعلقة بالعدالة والمساواة بين البشر.
وأتم، يبقى أن نؤكد أن الأقمار الصناعية ليست مجرد أداة علمية، بل هي وسيلة لتحقيق حماية حقوق الإنسان من خلال ضمان حق الأفراد في العيش في بيئة صحية، من خلال توظيف هذه الأدوات الفضائية بشكل مدروس، يمكن للبشرية أن تتحرك بشكل أكثر سرعة وكفاءة نحو تحقيق حلول للتغير المناخي وحماية البيئة، بما يساهم في توفير حياة أفضل للأجيال القادمة.
حلول تكنولوجية فعالة
وقال الخبير التكنولوجي المهندس محمد الخولي، إن الأقمار الصناعية اليوم تعتبر من أبرز الأدوات التكنولوجية التي تساهم في تقديم حلول فعالة لمواجهة الأزمات البيئية والتغيرات المناخية التي تعصف بكوكب الأرض، ولا يقتصر دور هذه الأقمار على مراقبة الظواهر البيئية عن بُعد فحسب، بل تمتد إلى إحداث تحولات كبيرة في كيفية إدارة الموارد البيئية ورصد التغيرات التي تحدث عليها بشكل دوري، ومع تزايد التهديدات البيئية، أصبحت هذه الأقمار بمثابة أدوات أساسية للمراقبة الدقيقة وتوفير البيانات التي تساهم في اتخاذ القرارات الحيوية في الوقت المناسب.
وتابع الخولي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، يوفر نظام الأقمار الصناعية القدرة على تتبع ظواهر بيئية متعددة، بدءًا من ارتفاع درجات الحرارة، مرورًا بالكوارث الطبيعية مثل الأعاصير والفيضانات، وصولًا إلى الانبعاثات الغازية الناتجة عن النشاط البشري، وتكمن أهمية هذه الأقمار في قدرتها على رصد البيئة من الفضاء بشكل دقيق وسريع، ما يسمح بالتحليل المتكامل للمعلومات التي يتم جمعها في أوقات قياسية، إضافة إلى ذلك، تساهم الأقمار الصناعية في توفير رؤى بيئية متعددة الأبعاد، تشمل الأرض والمياه والغلاف الجوي، ما يسهم في تحسين فهمنا لتأثيرات التغير المناخي.
وشدد على أن الفائدة الحقيقية لتكنولوجيا الأقمار الصناعية تكمن في قدرة هذه التقنية على تقديم حلول عملية وواقعية استنادًا إلى البيانات المستخلصة، على سبيل المثال، إذا كان هناك تهديد حقيقي لجفاف أو تصحر في منطقة معينة، فإن الأقمار الصناعية يمكنها أن تكشف عن التغيرات التي تحدث في الأراضي الزراعية، ما يسمح بوضع استراتيجيات وقائية للتعامل مع تلك التحديات في وقت مبكر، وفي ما يخص الإمارات، فقد أثبتت الأقمار الصناعية التي أطلقتها فاعلية في تقديم بيانات حية تُعزز الجهود المحلية والعالمية لمكافحة التغيرات المناخية، إذ تمكّن هذه الأقمار الدولة من تتبع تغيرات البيئة البحرية والصحراوية، وكذلك مراقبة جودة الهواء والمياه.
وأشار الخبير التقني إلى أنها تتسم بأنظمة استشعار متطورة، وأنماط قياس قادرة على توفير بيانات غير متاحة بطرق تقليدية، على سبيل المثال، يمكن للأقمار تحديد معدلات التغير في سطح الأرض أو الغطاء النباتي باستخدام تقنيات مثل الرادار الصناعي، وهذا يمثل تحولًا كبيرًا في كيفية تحليل التغيرات البيئية، فالأقمار ليست مجرد مراقبة للأوضاع البيئية، بل هي عملية تحليلية دائمة للمعلومات التي تسهم في تقليل التكلفة المالية والوقتية المترتبة على جمع البيانات من الأرض، ما يتيح للباحثين وصانعي القرار توفير حلول سريعة وفعالة.
وأوضح أن التقنية لا تقتصر على الرصد فحسب، بل تلعب دورًا محوريًا في ضمان المساواة في التعامل مع الأزمة البيئية. فبينما تتوفر هذه التكنولوجيا بشكل أساسي في الدول المتقدمة، تبرز تحديات في الوصول إليها في الدول النامية، وهذه الفجوة التكنولوجية تمثل تهديدًا للمساواة في الحق في بيئة آمنة وصحية، ويساهم عدم توفر هذه الأدوات في بعض البلدان في استمرار تفاقم الأزمات البيئية دون حلول ملائمة، الأمر الذي ينعكس على الفئات الأكثر ضعفًا في المجتمعات، مثل الفقراء والنساء والأطفال، ما يجعل حماية البيئة حقًا أساسيا من حقوق الإنسان يجب توفيره بشكل متساوٍ للجميع.
وقال إن استخدام هذه التقنيات يجب أن يكون مدعومًا بالقيم الإنسانية الأساسية من أهم هذه القيم احترام حق الإنسان في بيئة صحية وآمنة، وعدم الاستغلال غير المنضبط للبيئة من أجل مصالح اقتصادية ضيقة لذا فإن تكنولوجيا الأقمار الصناعية يجب أن تخدم مصالح الإنسانية في مجموعها، لا أن تقتصر على تحقيق مكاسب اقتصادية لدول معينة أو شركات متعددة الجنسيات، من هذا المنطلق، يُعتبر من الضروري ضمان أن استخدام هذه البيانات يتم بطريقة شفافة وعادلة، وأن يتم تبادل المعرفة بين الدول المختلفة للمساعدة في الحد من مخاطر التغير المناخي.
وأتم، إذا ما نظرنا إلى المستقبل، فإن تكنولوجيا الأقمار الصناعية ستكون بلا شك جزءًا من الحلول التكنولوجية الكبرى لمكافحة التغير المناخي. فالدور الذي تلعبه في توفير الرؤى الدقيقة والمبكرة حول الأزمات البيئية يجعلها أداة لا غنى عنها في جهود الحفاظ على الأرض والموارد الطبيعية لكن لا يمكن أن تقتصر الفوائد على الدول المتقدمة فقط؛ فالعالم بأسره يجب أن يتعاون للاستفادة من هذه التقنيات المتطورة، وبناء نظم متكاملة تضمن حقوق الإنسان في بيئة آمنة، وتعمل على توفير حلول للمشاكل البيئية بعيدًا عن التجزئة أو الاستغلال غير العادل.