بعد 55 عاماً من التفاهمات التاريخية.. فرنسا تهدد استقرار المهاجرين الجزائريين
بعد 55 عاماً من التفاهمات التاريخية.. فرنسا تهدد استقرار المهاجرين الجزائريين
وسط حالة من التوترات السياسية بين الجزائر وفرنسا، ظهر الحديث عن إلغاء اتفاقية الهجرة الموقعة في 1968 كأحد أبرز الموضوعات المثيرة للجدل داخل الحكومة الفرنسية، حيث تباينت مواقف الوزراء بشكل لافت بين مؤيد ومعارض لهذه الخطوة.
ويعكس هذا التباين في الآراء عمق الخلافات السياسية التي تعيشها فرنسا في علاقاتها مع الجزائر، تلك التي تسير على خطى سنوات من التقلبات والتحولات التي طبعها الاستعمار والتاريخ المعقد بين البلدين.
في البداية، أكد وزير الخارجية الفرنسي، جان نوال بارو، أنه من الصعب إلغاء الاتفاقية في الوقت الراهن، مشيرًا إلى أن السياسة الخارجية هي من اختصاص رئيس الجمهورية.
وأشار خلال حديثه مع قناة "بي أف أم تيفي"، إلى أن تلك الاتفاقية قد تعرضت لعدة تعديلات على مر السنوات، ما يعكس ضرورة الحفاظ على جوانب معينة منها، خاصة مع وجود مزايا وعيوب مرتبطة بها للجانب الجزائري، كما أضاف أن إلغاءها ليس بالأمر اليسير، مبررًا ذلك بأن التعديلات التي طرأت عليها كانت تهدف لتسوية العديد من القضايا العالقة بين البلدين.
وفي الجانب الآخر، جاء وزير الداخلية الفرنسي، برونو روتايو، ليطلق تصريحات مضادة، داعيًا إلى إنهاء الاتفاقية التي تمنح الجزائريين امتيازات خاصة في مجالات السفر والإقامة والعمل، وصف الوزير الاتفاقية بأنها "عفا عليها الزمن".
وشدد على أن استمرار العمل بها يعتبر "تشويهاً" للهجرة الجزائرية إلى فرنسا، معتبرًا أنه لا مبرر لوجودها في ظل التحولات السياسية والاقتصادية التي شهدتها فرنسا في السنوات الأخيرة. هذه الدعوة جاءت بعد فترة قصيرة من حديث بارو، لتسجل تباينًا واضحًا في السياسات الداخلية الفرنسية تجاه الجزائر.
اتفاقية الهجرة بين فرنسا والجزائر
تعود خلفية اتفاقية الهجرة بين فرنسا والجزائر إلى عام 1968، حيث تم توقيعها بعد 6 سنوات من استقلال الجزائر عن الاستعمار الفرنسي، وكانت الاتفاقية تهدف إلى تسهيل حركة الجزائريين إلى فرنسا، سواء للسفر أو للعمل أو للإقامة، ومن أبرز بنودها كان السماح للجزائريين بالسفر إلى فرنسا بسهولة، بالإضافة إلى توفير تسهيلات لهم في الحصول على تصاريح الإقامة.. كما تضمن الاتفاقية منح بعض الامتيازات في ما يتعلق بـ"لم شمل الأسرة"، حيث يمكن للعاملين الجزائريين في فرنسا جلب أسرهم بعد 12 شهرا من وصولهم، بدلًا من 18 شهرا كما هي الحال مع العمال الأجانب من دول أخرى.
ورغم أن الاتفاقية كانت تتسم بمرونة في التعامل مع العمال، فإنها كانت أكثر صرامة تجاه الطلاب الجزائريين، إذ كانت تجبرهم على مغادرة الأراضي الفرنسية فور انتهاء دراستهم، وهو ما يعد تقييدًا مقارنة بما ينطبق على باقي الأجانب، لكن مع مرور الوقت، تم تعديل بعض جوانب الاتفاقية لتكون أكثر مرونة مع الطلاب والعمال على حد سواء.
وكشفت إحصاءات حديثة أن الحكومة الفرنسية منحت 646 ألفًا و462 تصريح إقامة للمواطنين الجزائريين خلال عام 2023، ما يجعل الجزائر في صدارة الدول التي يحصل مواطنوها على تصاريح إقامة في فرنسا، متفوقة بفارق كبير على العديد من البلدان الأخرى.
وبينما يسعى البعض إلى تهدئة الأوضاع وتحقيق الاستقرار، يبدو أن هناك من يرى في التصعيد السياسي سبيلا لتحريك الملفات العالقة، ومنها ملف الهجرة، ويبقى السؤال الأبرز: هل ستواصل فرنسا العمل بالاتفاقية الموقعة في 1968 أم ستتخذ خطوة جدية نحو إلغائها؟
تهديد حقوق الإنسان
قال الإعلامي الجزائري البارز، توفيق قويدر، إن فرنسا تسعى في ضوء تصريحات متباينة من مختلف وزرائها، إلى إعادة النظر في اتفاقية الهجرة الموقعة مع الجزائر في عام 1968، في خطوة قد تؤثر بشكل كبير على العلاقات الثنائية بين البلدين، ورغم أن هذا الموضوع يبدو للوهلة الأولى بعيدًا عن مفاهيم حقوق الإنسان، فإن تحليل تأثيره يثير تساؤلات عديدة حول العدالة الاجتماعية، والمساواة، وحقوق الأفراد في التنقل والإقامة، وهو ما يفتح الباب لمناقشة أوسع في ضوء المبادئ الإنسانية التي يجب أن تحكم العلاقات الدولية.
وتابع في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن أولى الإشكاليات التي يطرحها هذا النقاش تكمن في مدى احترام حقوق الإنسان في سياق الهجرة، لطالما شكلت الهجرة قضية حقوقية أساسية، ليس فقط بسبب الأبعاد الإنسانية التي تتعلق بفرص حياة أفضل لأفراد يفرون من ظروف اقتصادية أو اجتماعية صعبة، بل أيضًا من حيث الحقوق المدنية التي تمنح للأفراد في ظل الاتفاقات الثنائية، إذا أُلغيت الاتفاقية، فستكون النتيجة المباشرة حرمان فئة واسعة من الجزائريين من الامتيازات التي تمنحها لهم هذه الاتفاقية، مثل تسهيلات السفر والإقامة، وبالتالي فإن هذا قد يؤثر سلبًا على حقوقهم في التنقل وحياة كريمة في الواقع.
واسترسل: من المهم أن نفهم أن الإلغاء المحتمل لهذه الاتفاقية لا يقتصر على تعقيد أوضاع الهجرة فحسب، بل يرتبط أيضًا بمسائل أوسع تتعلق بالعدالة والاحترام المتبادل بين الدول والشعوب في وقت يعاني فيه العديد من المواطنين من صعوبات اقتصادية في بلدانهم الأصلية، يُفترض أن توفر الاتفاقات الثنائية بيئة تشجع على التعاون والازدهار المشترك بدلاً من تقويض حقوق الأفراد في البحث عن فرص أفضل ومن هنا، يبرز دور السياسة الخارجية في حماية حقوق المهاجرين واللاجئين، ولا سيما أولئك الذين يأتون من دول مثل الجزائر التي يربطها بفرنسا تاريخ طويل ومعقد من الاستعمار والنضال من أجل الاستقلال.
وتابع: يُلاحظ أن الحوار بشأن إلغاء الاتفاقية يتضمن تباينًا واضحًا بين مختلف المؤسسات الحكومية في فرنسا، حيث نجد أن وزير الخارجية يؤكد صعوبة إلغاء الاتفاقية نظرًا للتعديلات السابقة التي طرأت عليها، بينما يذهب وزير الداخلية إلى الدعوة لإلغائها تمامًا، هذا التباين يشير إلى أن القرار بشأن هذه الاتفاقية قد لا يكون محكومًا بمبادئ حقوق الإنسان، بل بالاعتبارات السياسية الداخلية التي تتأثر بالتوجهات الحزبية والنزاعات الأيديولوجية، تتجلى هذه الازدواجية في أن بعض المسؤولين يسعون وراء مصالح وطنية قد تكون على حساب المبادئ الإنسانية الأساسية، مما يعكس تجاهلًا لبعض الفئات الأكثر تضررًا مثل المهاجرين وأسرهم الذين يعتمدون بشكل كبير على تلك التسهيلات من أجل بناء حياتهم.
وأشار إلى أن هذا الوضع يسلط الضوء على الحاجة إلى مزيد من التشريعات الدولية التي تراعي حقوق الأفراد في الهجرة والعمل والإقامة، خاصة في ظل العالم الذي أصبح أكثر ترابطًا، وإلغاء الاتفاقية سيؤثر بشكل مباشر على حقوق المهاجرين الجزائريين الذين يشكلون جزءًا كبيرًا من المجتمع الفرنسي، وقد يسهم في زيادة العوائق التي يواجهها العديد منهم في محاولاتهم للاندماج والمساهمة في المجتمع الفرنسي.
بالإضافة إلى ذلك، فإن التراجع عن الاتفاقية قد يضر أيضًا بمصالح فرنسا الاقتصادية، خاصة في ظل التبادل التجاري المتزايد بين البلدين.
وقال إنه وفي ضوء هذه المعطيات، فإن إلغاء اتفاقية الهجرة قد يُنظر إليه من قبل البعض كخطوة نحو التراجع عن التزامات حقوق الإنسان، وهو ما يستدعي مزيدًا من التحليل والنقد لتوجهات السياسة الفرنسية في هذا المجال، وقد تكون هذه الخطوة قصيرة الأمد تحمل مكاسب سياسية لتيارات معينة داخل الحكومة، لكنها على المدى البعيد قد تضر بسمعة فرنسا في المجتمع الدولي وتؤثر على العلاقات الثنائية مع الجزائر، إذا كانت السياسة الفرنسية تهدف إلى تقليص الهجرة أو تعديل آليات التنقل، فيجب أن يتم ذلك عبر قنوات تشريعية شفافة تراعي حقوق الإنسان وتراعي التوازن بين أمن الدولة وحقوق الأفراد.
وأتم: بالنظر إلى الوضع الحالي، من المهم أن تظل الحكومات ملتزمة بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وألا تسهم في أي توجهات تمييزية قد تؤدي إلى حرمان الأفراد من فرصهم الأساسية في الحياة، إذا كانت فرنسا تسعى إلى تعزيز علاقتها مع الجزائر على المدى البعيد، فإنها يجب أن تفكر بعناية في التبعات الإنسانية لهذا القرار وأن تتبنى حلولًا تهدف إلى خلق بيئة قانونية توفر الحماية والفرص لجميع الأفراد على حد سواء.
تهديد لاستقرار المهاجرين
وقالت خبيرة حقوق الإنسان، حورية محمد مشهور، إن إلغاء اتفاقية الهجرة بين فرنسا والجزائر التي تم توقيعها في عام 1968 يمثل خطوة معقدة تتجاوز مجرد تعديل سياسي أو دبلوماسي، ليطرح مسألة جوهرية تتعلق بحقوق الإنسان الأساسية، الاتفاقية التي كانت تهدف إلى تنظيم هجرة الجزائريين إلى فرنسا بعد استقلال الجزائر، كانت تعكس علاقة خاصة بين البلدين، وخاصة في مجالات العمل والإقامة. اليوم، ومع دعوات البعض إلى إلغاء هذه الاتفاقية، يتوجب علينا أن نتوقف عند الانعكاسات الإنسانية والاجتماعية لهذا القرار.
وتابعت حورية مشهور، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن من أبرز القضايا التي يثيرها هذا النقاش هو التأثير المباشر على حياة الأفراد الذين ظلوا لسنوات طويلة يعتمدون على تلك الامتيازات التي أتاحتها لهم الاتفاقية، فإلغاء الاتفاقية سيؤدي إلى تشديد الإجراءات الإدارية، مما يزيد من صعوبة الحصول على تصاريح الإقامة والعمل، وبالتالي سيعرض مئات الآلاف من المهاجرين الجزائريين في فرنسا لمصير مجهول، هؤلاء الأفراد، الذين قد يكونون قد نشؤوا في فرنسا أو عاشوا فيها لسنوات طويلة، سيجدون أنفسهم فجأة أمام تحديات قانونية واجتماعية قد تؤدي إلى تهميشهم أو حتى تهديد استقرارهم المعيشي. هذا يمثل تهديدًا للحق الأساسي في حياة كريمة، وهو حق يحظى بحماية في العديد من المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
واسترسلت: إلغاء هذه الاتفاقية قد يشكل انتهاكًا لحق الأفراد في التنقل والعيش في دول أخرى، وهو حق يعترف به القانون الدولي، ويجب ألا يتم تقييده بشكل تعسفي. هذه الخطوة قد تُعتبر بمثابة ضربة لمبدأ "حرية التنقل" الذي تنص عليه المعاهدات الدولية التي وقعت عليها كل من فرنسا والجزائر، فمن غير المقبول أن يُحرم الأشخاص الذين عاشوا في دولة معينة لسنوات، من حقوقهم الأساسية بناءً على تغييرات في الاتفاقات السياسية بين الحكومات.
وعلى المستوى الاجتماعي، قالت إن هذه الخطوة ستسهم في تعميق الفجوة بين المهاجرين والمجتمعات التي يعيشون فيها.. فالمهاجرون الجزائريون في فرنسا ليسوا مجرد أرقام في سجلات الهجرة، بل هم جزء من نسيج اجتماعي متعدد الثقافات، إن إلغاء الاتفاقية قد يخلق حالة من الاستقطاب الاجتماعي، ويزيد من مشاعر الاستبعاد، خاصة في سياق تعزز فيه مشاعر اليمين المتطرف في أوروبا، إذا كانت فرنسا تدعي التزامها بحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، فإنها ينبغي أن تتحمل مسؤولياتها في دعم التعايش السلمي والاندماج الاجتماعي لمواطنيها من أصول مهاجرة.
وانتقدت دعوات إلغاء الاتفاقية، قائلة إنها تشير إلى أن الدول أحيانًا تضع الاعتبارات السياسية والمصالح الاقتصادية فوق حقوق الأفراد، ولا يمكن أن يكون التعديل في سياسات الهجرة سببًا في تقليص حقوق الإنسان للمهاجرين، بل يجب أن يتواكب مع حماية حقوقهم الأساسية في الإقامة والعمل والحياة الاجتماعية فرنسا، التي لطالما اعتبرت نفسها نموذجًا في حقوق الإنسان، يجب أن تكون أكثر حرصًا في التعامل مع هذه القضايا وأن تبني سياساتها على أساس احترام حقوق جميع الأفراد المقيمين على أراضيها.
وأتمت، أن إلغاء اتفاقية الهجرة مع الجزائر يثير تساؤلات جدية حول مكانة حقوق الإنسان في السياسات الفرنسية، لا ينبغي أن يكون المهاجرون ضحايا للعبة السياسة، بل يجب أن تظل حقوقهم محمية وفقًا للقيم الإنسانية التي تروج لها فرنسا.