يقود للموت عند الطلب.. مخاوف من التوسع في «القتل الرحيم» ببريطانيا
يقود للموت عند الطلب.. مخاوف من التوسع في «القتل الرحيم» ببريطانيا
قبيل دخول المحطة الأخيرة من المناقشات بعد الموافقة المبدئية، لا يزال التشريع البريطاني الذي يسمح بتوسيع قانون الموت الرحيم، يثير هواجس حقوقية تتأرجح بين اعتباره انتصارا للحق في تحديد المصير أو تجاوز حدود الحرية الفردية، في ظل وجود تحديات أخلاقية وقانونية قد تترتب على ذلك التوسع.
وإذا أُقر مشروع قانون الموت الرحيم نهائيا، فسيُسمح للبالغين فوق سن 18 عامًا الذين يتمتعون بالأهلية العقلية والذين يتوقع أن يموتوا خلال 6 أشهر بالحصول على مساعدة طبية لإنهاء حياتهم، شريطة موافقة طبيبين مستقلين وتوقيع قاضٍ من المحكمة العليا.
ويعرف الموت الرحيم بالعديد من المصطلحات الأخرى مثل الموت الجيد، أو الموت اليسير، أو الموت الكريم، كما كان يعرف بقتل الرحمة، أو رصاصة الرحمة، وهي مصطلحات تدل على معنى واحد هو إنهاء عذاب مريض استحال شفاؤه من مرضه، ومن ثم تسريع إنهاء حياة المريض.
ويشمل الموت بمساعدة الغير نوعين رئيسيين وهما القتل الرحيم، حيث يقوم الطبيب بإعطاء المريض عقارًا مميتًا عمدًا؛ والانتحار بمساعدة الغير، حيث يتم وصف عقار قاتل للمريض ليتناوله بنفسه، وفي البلدان التي شرعت هذه الممارسة، تتزايد الأعداد بشكل لافت.
المحطة الأخيرة
وأفادت صحيفة "الغارديان" البريطانية، بأن نواب مجلس العموم البريطاني يعكفون على مناقشة إمكانية توسيع قانون الموت الرحيم ليشمل الأشخاص المصابين بأمراض عصبية، مثل مرض باركنسون، والذين يعانون من السرطان في مراحله النهائية.
وقال السير نيكولاس موستين، القاضي السابق بالمحكمة العليا والمريض بمرض باركنسون، لصحيفة الغارديان إن معاناة هؤلاء المرضى في مراحلهم الأخيرة "لا تطاق، مع صعوبة البلع والتنفس التي يواجهها بعض المصابين"، مضيفا: "هذا ما أواجهه، وأود أن أعرف لماذا يصر المعارضون على ذلك".
وأواخر نوفمبر 2024، وافق مشرّعون بمجلس العموم البريطاني مبدئيًا على مشروع يسمح للمرضى بإنهاء حياتهم بعدما صوت 330 نائبًا لصالح مشروع قانون "البالغين المصابين بأمراض مميتة" مقابل معارضة 275، في جلسة استغرقت 5 ساعات من النقاش المحتدم في المجلس آنذاك.
وقالت كيم ليدبيتر، النائبة العمالية التي قدمت مشروع القانون، وقتها لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي): إن تمرير هذا المشروع سيشكل تحولًا كبيرًا في نهج المملكة المتحدة تجاه رعاية نهاية الحياة، حيث لا تزال مساعدة شخص على الموت غير قانونية.
ويرى مؤيدو مشروع القانون، أنه يتعلق بتقصير مدة وفاة أولئك الذين يعانون من أمراض مميتة ومنحهم المزيد من التحكم، فيما يقول المعارضون، إن المرضى الضعفاء، قد يشعرون أنه يجب عليهم إنهاء حياتهم خوفًا من أن يكونوا عبئا على أسرهم ومجتمعهم، بدلًا من إعطاء الأولوية لرفاهيتهم.
وهذه هي المرة الأولى التي يناقش فيها البرلمان تلك القضية الشائكة منذ قرابة عقد من الزمن، حيث رفض اقتراح مماثل في عام 2015 بفارق 330 صوتًا ضد 118.
وعلق النائب المحافظ كيت مالثاوس، المؤيد لمشروع القانون، أنه يعتقد أن عددًا كبيرًا من النواب الذين صوتوا ضد هذا التشريع في عام 2015 قد غيروا مواقفهم.
وضمنت النائبة كيم ليدبيتر إلى جانب اللورد العمالي تشارلي فالكونر أن توسيع نطاق مشروع القانون من قبل المحاكم استنادًا إلى حقوق الإنسان، لا يشتمل على مخاطر قانونية، نظرًا للتعريفات المحددة بدقة في مشروع القانون وفشل الطعون السابقة في المحاكم البريطانية والأوروبية.
وأشارت ليدبيتر إلى أن عدد الأشخاص الذين سيختارون هذا الخيار سيكون منخفضًا نظرًا للمعايير الصارمة، حيث سيتم تقديم خيار الموت الرحيم فقط للمرضى الذين تم تشخيصهم بمرض عضال ويُتوقع أن يعيشوا أقل من ستة أشهر، فيما لن يكون متاحًا للأشخاص الذين قد يعانون من أمراض تكون فيها مدة العيش المتوقعة أعلى من ذلك، مثل الحالات المبكرة من مرض التصلب الجانبي الضموري.
منحدر خطير نحو الموت
ونقلت صحيفة الغارديان عقب الموافقة المبدئية لمشروع القانون هجوما من وزيرة العدل شابانا محمود، ضد مشروع القانون، محذرة من أنه قد يقود البلاد إلى "منحدر خطير نحو الموت عند الطلب".
وفي رسالة وجهتها إلى ناخبيها في دائرة برمنغهام ليديوود، التي تضم عددًا كبيرًا من السكان المسلمين، قالت شابانا: "دور الدولة يجب أن يكون حماية الحياة، لا إنهاءها، وتقديم الموت كخدمة يمثل تحولًا جذريًا في ثقافتنا. الخطر الأكبر هو أن يشعر كبار السن والمرضى بأنهم عبء على أسرهم والمجتمع، فيختارون الموت ليس لأنهم يريدونه، بل لأنهم يظنون أن الآخرين يفضلونه لهم".
وأضافت: "الحق في الموت للبعض سيتحول حتمًا إلى واجب على الآخرين. لا يمكننا قبول وفاة البعض بشكل خاطئ مقابل توفير خيار الموت للآخرين"، منتقدة ضعف الضمانات القانونية ضد الإكراه في مشروع القانون، لا سيما وأنها تفتقر إلى معايير واضحة لضمان نزاهة العملية القضائية.
وأعلن وزير الصحة، ويس ستريتينغ، معارضته للمشروع، محذرًا من تداعياته المالية على هيئة الخدمات الصحية الوطنية (NHS)، خاصة وأن مشروع القانون قد يؤدي إلى دفع المرضى الذين يعانون من أمراض مميتة إلى اتخاذ قرار إنهاء حياتهم مبكرًا لتقليص التكاليف على النظام الصحي.
ووسط جدل تلك النقاشات، ذكرت صحيفة "بوليتيكو" الأمريكية، في ديسمبر 2024، أن عودة النقاشات في المملكة المتحدة، نحو إضفاء الشرعية على الموت بمساعدة الغير؛ تعد تحولا جوهريا في قوانين نهاية الحياة، لافتة إلى أن هذا القرار يعكس اتجاهًا أوسع في أوروبا الغربية نحو تخفيف القيود القانونية المتعلقة بالقتل الرحيم والانتحار بمساعدة الغير، مما يتيح خيارات أكثر مرونة للموت الرحيم.
ويرى أستاذ قانون الصحة في جامعة إيراسموس روتردام، مارتن بويسن، أن هذا الاتجاه بات حتميًا في أوروبا الغربية وشمالها، حيث يتزايد الطلب على هذه القوانين بشكل ملحوظ، وفق الصحيفة ذاتها.
طلب يتزايد
وتشير تقديرات غربية، بأن بريطانيا تأخرت في هذا المجال مقارنة بدول غربية أخرى، مثل هولندا وبلجيكا وكندا، إذ بدأت هذه الدول في خوض هذا المسار منذ عام 2001، حيث كان القانون يقتصر على المرضى المصابين بأمراض مستعصية، لكنه توسّع تدريجيًا ليشمل حالات مثل الأمراض النفسية والخرف وحتى كبار السن الذين يشعرون بأنهم عاشوا بما يكفي.
وسمحت بلجيكا بالموت الرحيم للقُصّر، بينما أصبحت سويسرا وجهة لما يُعرف بـ"سياحة الانتحار"، وفي ألمانيا أقرّت المحكمة الدستورية وجود حق أساسي في "الموت الذاتي المحدد"، أما في كندا فقد شهد برنامج "المساعدة الطبية في الموت" (MAID) إنهاء حياة نحو 45 ألف شخص، مع زيادة سنوية قدرها 30 بالمئة على مدار ثلاث سنوات، وفقًا لتقرير حكومي صدر عام 2022.
في هولندا، سُجلت 9068 حالة وفاة بالموت بمساعدة الغير عام 2023، بزيادة 4 بالمئة مقارنة بالعام السابق، أما في بلجيكا فقد بلغت الحالات 3423 حالة، بزيادة 15 بالمئة مقارنة بعام 2022، حيث تُظهر هذه الأرقام تحول القتل الرحيم من "الملاذ الأخير" إلى خيار شائع، إذ تضاعفت الحالات من 68 إلى 138 خلال 5 سنوات، مما دفع البعض إلى التحذير من "التوسع" في الحالات المشمولة بالقانون.
وفي دول مثل إيطاليا وأيرلندا، عطّل نفوذ الكنيسة الكاثوليكية التشريعات لفترات طويلة، ومع ذلك شهدت إيطاليا أول حالة انتحار بمساعدة الغير عام 2022 بعد حكم قضائي سمح بذلك دون قانون صريح.
وتختلف شروط قبول طلبات الموت بمساعدة الغير بين الدول، ففي بلجيكا وهولندا، يُشترط المعاناة المستمرة دون أمل في التحسن، بينما تشترط دول أخرى مثل المملكة المتحدة إصابة المريض بمرض مميت.
وتمضي أوروبا الغربية بوتيرة سريعة نحو تقنين الموت بمساعدة الغير، وتتحرك أوروبا الشرقية ببطء أكبر، متأثرة بنفوذ الكنيسة الأرثوذكسية والعوائق السياسية، وبحسب التقديرات فإن تقنين صربيا وكرواتيا هذه الممارسة، قد تحذو بقية دول المنطقة حذوهما.
وفي المقابل اتخذت الولايات المتحدة نهجًا أكثر تحفظًا، حيث أُقرّ الموت الرحيم في 11 ولاية فقط، معظمها ذات ميول ليبرالية، وكان هذا الموقف نابعا من القيم الدينية والثقافية الراسخة في المجتمع الأمريكي، بالإضافة إلى الشكوك تجاه البيروقراطية الحكومية، ورغم ذلك، شهدت ولاية كاليفورنيا زيادة بنسبة 63 بالمئة في حالات الموت بمساعدة الطبيب عام 2022، وفق قانون “خيار نهاية الحياة".
توسع أوروبي
يعتقد الخبير في الشؤون الأوروبية الفرنسي، بيير لويس ريموند، أن هناك اتجاها في أوروبا يتوسع بشأن هذا النمط من الموت الرحيم، امتدادا لما أقدمت سويسرا عليه مبكرا في هذا الأمر.
وقال بيير لويس ريموند في تصريح لـ"جسور بوست"، إنه يتوقع أن تتجه بريطانيا كدولة ليبرالية لترجيح القرار الطبي والتوسع في الموت الرحيم على نظيره المتحفظ ببعده الديني، مشيرا إلى أن النقاشات ستستمر في أوروبا الفترة المقبلة حول ذلك الاتجاه خاصة وفرنسا لا تزال في نقاش حاد بشأنه أيضا.
ويرى الخبير السابق في منظمة الصحة العالمية، البروفيسور عبدالمؤمن يحيى مكي، أن هذا تجاوز للحرية الفردية وللأخلاقيات، قائلا إن "أوروبا يبدو أنه يجب أن يحكمها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حتى تغير ذلك، خاصة بعد اتخاذ قرارات ضد المثليين وما شابه".
وأوضح مكي في تصريح لـ"جسور بوست" أن "الهدف الحقيقي من الموت البطيء هو اقتصادي، باعتبار أن المريض قد يكلف الدولة تكاليف مالية جراء العلاج"، لافتا إلى أن في البلاد العربية كمصر وتونس والجزائر وغيرها لن نجد حديثا بشأن الموت الرحيم كمثل ما نراه في أوروبا.
وأشار إلى أن أوروبا بها أدوات طبية حديثة قد تسمح بأن يستمر المريض 10 سنوات على فراش المرض وهذا مكلف ماليا، لافتا إلى أن الموقف الطبي يميل عادة في أوروبا إلى تفسير الموت على أنه موت للدماغ وآخر للقلب، وأنه إذا مات دماغيا فإنه يمكن إبقاء قلبه بالآلات 10 سنوات أخرى وهذا مكلف كما قلنا، ولذلك ينزعون تلك الأدوات لينتهي به الحال لموت بطيء.
وأرجع البروفيسور عبدالمؤمن يحيى مكي أسباب إقرار تشريعات الموت الرحيم وتواصلها في أوروبا، إلى وجود تسهيلات وتفادي التكاليف المالية، لافتا إلى أن ألمانيا مثلا فيها 88 مليونا تقريبا بينهم 20 مليونا من كبار السن، وهؤلاء يرونهم عبئا صحيا كبيرا، مع توسع أوروبي في حرق أجساد المتوفين بعد مماتهم.
وأضاف: "هذه كارثة وتدهور أخلاقي، يجب أن يبقى الإنسان حتى يأتي أجله وهو موت القلب وليس موت الدماغ، ويجب تكريمه حتى آخر لحظة"، غير مستبعد أن تقر بريطانيا ذلك التشريع الخاص بالموت البطيء مع اتجاه للتوسع فيه أوروبيا.