المرصد الوطني للهجرة في ليبيا.. جسر جديد فوق مستنقع الفوضى أم لافتة أنيقة على بوابة مأساة إنسانية؟

المرصد الوطني للهجرة في ليبيا.. جسر جديد فوق مستنقع الفوضى أم لافتة أنيقة على بوابة مأساة إنسانية؟
الهجرة غير الشرعية في ليبيا

في خطوة تعكس تحولًا نوعيًا في مقاربة الدولة لملف الهجرة، أعلن مجلس النواب الليبي عبر الجريدة الرسمية عن تأسيس المرصد الوطني للهجرة، كهيئة مستقلة تتمتع بذمة مالية وقانونية منفصلة، وتنتشر فروعها في طرابلس وبنغازي وسبها. 

هذا الإعلان لا يمثل مجرد إجراء إداري، بل يشكل لحظة فاصلة في مسار طالما اتسم بالتشظي والارتجال، إذ يسعى إلى إرساء بنية مؤسسية قادرة على رصد وتنظيم أحد أكثر الملفات تعقيدًا وحساسية في المشهد الليبي، داخليًا وخارجيًا.

ووجه خبراء انتقادات حادة لإطلاق "المرصد الوطني للهجرة" في ليبيا، وسط تشكيك واسع في جدواه في ظل واقع سياسي وأمني هش، وهيمنة الميليشيات، وغياب الدولة المركزية.

المرصد وفق الإعلان عنه يقوم بوظيفة إشرافية شاملة تشمل إنفاذ الاستراتيجية الوطنية للهجرة، مراجعة الاتفاقيات الدولية، مراقبة مراكز الإيواء، ضبط عمليات الترحيل، وإدارة برنامج العودة الطوعية، ويتمتع بإطار إداري يضم مجلس إدارة يعيّنه النواب، ورئيس وأمين عام ومقرر، ويعمل بنظام رئاسي قابل للتجديد سنويًا هذا النظام يضعه في قلب الصراع بين كونه جسراً بين السلطات التنفيذية والرقابية وبين إمكانية استغلاله من قبل أجنحة سياسية، ما يتطلب منه موازنة صارمة بين الشفافية والاستقلالية.

بين شهرَي يناير وفبراير من عام 2025، سجّلت المنظمة الدولية للهجرة وجود 858,604 مهاجرين من 46 جنسية مختلفة على الأراضي الليبية، ما يعكس تصاعدًا ملحوظًا في تدفق المهاجرين مقارنة بنهاية عام 2024، التي أظهرت وجود 824,131 مهاجرًا، وهذه الزيادة، على الرغم من أنها تبدو مجرد رقم نسبي، إلا أنها تختزن خلفها تحولات جغرافية وإنسانية معقّدة، تحمل شواهد على مسارات ممتدة عبر الصحارى والحدود المتآكلة، وأرواحًا تُدفع كل يوم إلى المجهول.

المثير في التركيبة السكانية لهؤلاء المهاجرين أن الغالبية ليست محصورة فقط في دول الجوار، بل تتعدى ذلك إلى عمق القارة السمراء وحتى جنوب آسيا، والسودانيون يمثلون النسبة الكبرى بـ31%، يليهم القادمون من النيجر بنسبة 22%، ثم المصريون بـ20%، فالتشاديون بـ10%، وهذه النسب تكشف عن تنوع في دوافع الهجرة، منها ما هو اقتصادي، ومنها ما هو هروب من النزاع والاضطراب، لكن جميعها تتقاطع على أرض ليبيا، التي أضحت تقاطعًا جغرافيًا بين الأمل والخطر.

تدفق اللاجئين وعدم الاستقرار

وتجد ليبيا، التي لم تكن يومًا وجهة نهائية لمعظم هؤلاء المهاجرين، نفسها الآن عالقة بين موجات بشرية متدفقة وحالة داخلية غير مستقرة، الأمر الذي يجعل من إدارة الملف تحديًا يوميًا يتجاوز الأرقام، فبينما تشير بيانات عام 2024 إلى اعتراض 21,762 مهاجرًا غير نظامي، أُعيد تسجيلهم ضمن آليات الرقابة والرصد، نجحت برامج العودة الطوعية في إعادة 16,210 مهاجرين إلى بلدانهم الأصلية، في محاولة لقطع سلسلة المعاناة التي تبدأ من نقطة عبور وتنتهي غالبًا في مراكز احتجاز. اللافت أن هذه العودة طالت جنسيات مختلفة، أبرزها من نيجيريا (3,958)، بنغلادش (2,886)، مالي (1,991) والنيجر (1,503)، ما يعكس عمق التداخل الإقليمي والدولي في هذا الملف.

في موازاة ذلك، يؤكد الهلال الأحمر الليبي أن عدد المهاجرين المسجلين في الربع الأول من 2024 بلغ 725,304 مهاجرين، يتوزعون على أكثر من 100 بلدية ليبية. هذه الأرقام ليست مجرد بيانات إحصائية، بل تجسّد واقعًا ضاغطًا على البنية الاجتماعية والخدمية لبلد بالكاد يستطيع تلبية حاجات مواطنيه، ناهيك عن استيعاب طاقة بشرية بهذا الحجم، أما عدد المحتجزين في السجون الرسمية فيراوح، وفق التقديرات، عند حدود 5,000، في حين لا توجد إحصاءات دقيقة عن أعداد المحتجزين في السجون السرية التي تشرف عليها جماعات مسلحة خارجة عن سيطرة الدولة، ما يفتح الباب على انتهاكات موثقة وغير موثقة، ويمثل قنبلة إنسانية موقوتة لا يمكن تجاهلها.

شهر مايو من عام 2025 وحده شهد ترحيل 3,099 مهاجرًا ينتمون إلى 21 جنسية مختلفة، وفق ما أعلنته وزارة الداخلية الليبية، بينما سُجّل خلال عام 2024 ما مجموعه 665 مفقودًا و1,034 حالة وفاة، وهو رقم مهول حين يُربط بظروف الترحيل القسرية، وظروف الاحتجاز، والانتهاكات المتكررة التي تحدث في طريق الهجرة أو على ضفاف البحر المتوسط. تلك ليست مجرد ضحايا، بل قصص إنسانية انطفأت قبل أن تصل إلى النور، وغالبًا من دون حتى وداع.

هذا التعقيد في المشهد العددي والجغرافي يضع المرصد الوطني للهجرة، الذي تأسس قانونيًا في نوفمبر 2023 وشكّل رسميًا في يونيو 2025، أمام تحدٍ مصيري: هل سيكون أداة تحليل وتحرك، أم مجرد مكتب توثيق يُراكم الأرقام دون أن يصنع فرقًا حقيقيًا؟ فبينما تشير الخطة إلى وجود فرعين له في بنغازي وسبها، يبقى السؤال ما إذا كانت هذه النواة المؤسسية كافية للتعامل مع مشهد أمني وإداري متداخل، خصوصًا في الجنوب الليبي، حيث تتوزع نحو 10–12% من حالات الوصول، ولكن في نطاق هشّ يخضع أحيانًا لسيطرة قبائل ومليشيات أكثر من الدولة نفسها.

ليس الخطر في التوزيع المكاني فقط، بل أيضًا في القدرة على الوصول إلى هذه المناطق النائية والمركّبة سياسيًا. فكيف يمكن لمرصد وطني أن يراقب ويتدخل بفعالية إن لم تكن لديه الوسائل اللوجستية، والميزانيات الكافية، والدعم السياسي؟ هنا لا يكفي النوايا الحسنة ولا حتى البيانات التقنية، بل الأمر يتطلب إرادة سيادية حقيقية تفهم أن الهجرة ليست قضية طارئة، بل بنية دائمة في الجغرافيا الليبية المعاصرة.

 البعد الإعلامي والحقوقي

ويشكل البعد الإعلامي والحقوقي لهذا المرصد بدوره حجر زاوية. فالمراهنة على منصته الإعلامية الناطقة رسميًا وموقعه الإلكتروني لا يجب أن تتحول إلى منبر دعائي، بل إلى أداة تواصل حيادي تنقل الواقع كما هو، بعيدًا عن التجميل أو التهويل. فالنجاح لا يُقاس فقط بعدد التقارير، بل بمدى مصداقيتها واستقلاليتها، وبقدرتها على أن تكون مرجعًا للمواطن الليبي كما للمجتمع الدولي، يقدّم رواية موثقة لما يجري لا مجرد بيانات مفصولة عن الألم البشري.

وهنا يبرز الفرق بين الأرقام الحية وبين “الأرقام الجامدة”، فعندما نقرأ الرقم 858,604 دون أن نعرف من هم أصحابه، ومن فقد في الطريق، ومن عانى داخل زنزانة، فإننا نتعامل مع بيانات أشبه بشيفرات، أما إذا تحولت هذه الأرقام إلى نظام معلوماتي ديناميكي، يجمع ويحلل ويحوّل إلى خرائط رقمية ترصد الحركة والمراكز والمعابر، وتضبط الاستجابة وتضع الخطط، فإننا نكون أمام مؤسسة تصنع الفارق.

هذا التحدي، في جزء كبير منه، مرهون بالتعاون الدولي. فدولة ليبيا لا تزال ترفض مبدأ التوطين، وتُصر على أنها بلد عبور لا وجهة نهائية. لكنها، من جهة أخرى، تسعى لإبرام اتفاقات دعم تقني ومالي مع الاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي. وهنا يأتي دور المرصد كمحور بين الداخل والخارج: ليس فقط لتوثيق الأرقام، بل لتمثيل ليبيا في مفاوضات تحتاج إلى من يحوّل المواقف إلى أدوات، عبر كاميرات بيومترية، وبرمجيات توثيق إلكترونية، ودورات تدريب متخصصة، تجعل من كل نقطة رصد خلية قادرة على التحرك لا مجرد مركز استقبال.

ولأن البيانات وحدها لا تكفي، ظهرت توصيات من خبراء ومحللين تدعو إلى تأسيس فرق تقنية موزعة في الشرق والغرب والجنوب، تعمل على مراقبة ميدانية يومية ترتبط بالقانون الدولي وبالحقوق الإنسانية، وتربط سياسات الهجرة بخطط التنمية المحلية، حتى تصبح الهجرة، ليس عبئًا اقتصاديًا أو تهديدًا أمنيًا، بل فرصة لتنظيم الاقتصاد، وتنشيط سوق العمل، واحتواء الفئات الضعيفة ضمن بنية منتجة.

لكن كل هذه التصورات ستبقى طيّ التنظير إن لم تترافق مع إرادة تنفيذ. صحيح أن المرصد الوطني للهجرة خرج من رحم القرار في نوفمبر 2023، لكنه إن لم يجد دعماً مؤسساتياً حقيقياً، ومعايير دقيقة للرقابة، وشفافية في التوظيف والتنفيذ، فإنه سيبقى مشروعًا ورقيًا، عنوانًا يوضع على الغلاف ويُنسى في التفاصيل. فالفارق بين الإعلان والتطبيق هو ما يصنع الفرق بين الفكرة الثورية والفشل البيروقراطي.

ليبيا، اليوم، تسرد قصتها على وقع أرقام دامغة: أكثر من 858,000 مهاجر على أراضيها، أكثر من 21,000 محاولة اعتراض في عام واحد، أكثر من 3,000 حالة ترحيل في شهر واحد، آلاف في مراكز احتجاز، ومئات في عداد المفقودين والضحايا. لكنها، في خضم هذه المأساة، تملك فرصة لا تُقدّر بثمن: أن تُحوّل هذه الفوضى إلى نظام، وهذا العبء إلى مسؤولية مشتركة، وهذا المشهد الغائم إلى صورة أوضح لواقع جديد.

مرصد الهجرة.. محاولة وسط العاصفة

وصف الدكتور عامر تمام، المحلل السياسي المتخصص في الشؤون الآسيوية، هذه المبادرة بأنها "إجراء شكلي" لا يعالج الأسباب العميقة لأزمة الهجرة غير النظامية المتفاقمة في ليبيا منذ سنوات. وقال في تصريحات لـ"جسور بوست" إن المرصد لا يمكن أن يؤدي دورًا فعّالًا طالما أن مؤسسات الدولة منقسمة ومختطفة، والسيادة موزعة بين قوى متصارعة.

فوضى بلا سيادة.. وليبيا بوابة اليائسين

أوضح تمام أن ليبيا، المنهكة منذ 2011، تحوّلت إلى نقطة عبور رئيسية للمهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء نحو أوروبا، حيث يغيب الأمن وتتحكم الميليشيات في مساحات واسعة، خاصة في الغرب الليبي.

وأكد أن البلاد لم تعد وجهة عبور محلية فحسب، بل أصبحت مسرحًا لعمليات تهريب واستغلال منظم للمهاجرين، الذين يعبرون أراضيها بدافع النجاة من الحروب والفقر، ليجدوا أنفسهم في مواجهة قسوة البحر أو السجون الليبية.

وقال تمام إن الحديث عن استقلالية المرصد في بيئة تفتقر لجيش وشرطة موحدين هو "محض خيال سياسي"، مشددًا على أن "أي مؤسسة تفتقر للحماية القانونية والسياسية تصبح ديكورًا شكليًا يخدم صورة زائفة للواقع".

لا حلول أمنية للهجرة

انتقد الدكتور تمام اختزال ملف الهجرة في أدوات المراقبة أو الردع الأمني، معتبرًا أن الهجرة "صرخة يأس" أكثر من كونها مجرد حركة تنقل.

وأضاف: "الشاب الذي يركب قارب الموت، يفعل ذلك لأنه يشعر بأنه ميت أصلاً في بلده"، واعتبر أن جذور المشكلة تكمن في غياب التنمية، والبطالة، والفقر، والفساد، وانعدام العدالة، مشيرًا إلى أن معالجة هذه الملفات تتطلب خططًا دولية طويلة الأمد، لا مجرد بيانات أو مبادرات دعائية.

وفي هذا السياق، وجّه تمام اتهامًا صريحًا للدول الأوروبية، مؤكدًا أنها لا تزال تغذي الفوضى في إفريقيا وتستفيد من هشاشة الوضع في ليبيا، سواء عبر إعادة المهاجرين قسرًا أو عبر صفقات سرية لاحتواء الهجرة خارج حدودها.

المصباحي: المرصد بلا دولة لا يساوي شيئاً

من جانبه، شكك الدكتور محمد المصباحي، رئيس المجلس الأعلى لمشايخ وأعيان ليبيا، في جدوى إنشاء المرصد، قائلاً إن أي مؤسسة تُطلق في ظل غياب دولة موحدة، تظل "مؤقتة ومهددة بالانهيار".

وأضاف في تصريحات لـ"جسور بوست" أن ليبيا باتت بيئة طاردة لحقوق الإنسان، حيث تتحول مراكز احتجاز المهاجرين إلى ساحات لانتهاكات ممنهجة، تدار في كثير من الأحيان من خارج مؤسسات الدولة، من قبل جماعات مسلحة لا تخضع لأي مساءلة.

المهاجرون في وجه الابتزاز والخذلان

شدّد المصباحي على أن ليبيا ينبغي ألا تتحول إلى "مكبّ بشري" للسياسات الأوروبية التي تُعيد المهاجرين قسرًا، ليقعوا ضحية للاحتجاز أو الاستغلال أو الموت البطيء.

وأوضح أن المجلس الأعلى لمشايخ وأعيان ليبيا يرحب بأي جهد وطني منظم، لكنه يرفض توظيف هذا الملف سياسيًا أو إعلاميًا، معتبرًا أن معالجة جذور الأزمة أولوية يجب أن تسبق أي مشاريع تنظيمية.

وختم المصباحي حديثه بالتأكيد على أن الهجرة قضية إنسانية معقدة، ولا يمكن إدارتها من خلال مؤسسات معزولة عن واقع من الانقسام والتدخل الأجنبي، داعيًا إلى حوار وطني شامل يقود إلى بناء مؤسسات شرعية فاعلة، قادرة على صون حقوق الليبيين والمهاجرين معًا.

في الختام يجدر التذكير بأنه منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011، غرقت ليبيا في فوضى أمنية وسياسية مزّقت مؤسسات الدولة، وفتحت الطريق أمام عصابات تهريب البشر وشبكات الجريمة المنظمة، وبسبب موقعها الجغرافي، تحوّلت البلاد إلى نقطة عبور رئيسية للمهاجرين من إفريقيا إلى أوروبا، وسط غياب سياسات واضحة أو مؤسسات قادرة على إدارة هذه الظاهرة المعقدة. وقد تعرّضت ليبيا لانتقادات دولية واسعة بسبب الانتهاكات المستمرة في مراكز احتجاز المهاجرين، ما دفع الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية للمطالبة بحلول شاملة تبدأ من إعادة بناء الدولة الليبية نفسها.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية