الحق في الصحة.. هل بات الجسد العربي مرآة للفقر والمستشفيات رفاهية مؤجلة؟

الحق في الصحة.. هل بات الجسد العربي مرآة للفقر والمستشفيات رفاهية مؤجلة؟
الحق في الصحة

يعد الحق في الصحة أحد الحقوق الأساسية التي تحميها معظم المواثيق الدولية، ويشكل مؤشراً مهماً على تقدم الأمم ورفاهية شعوبها. في العالم العربي يواجه هذا الحق تحديات متعددة، من بينها الفقر، ونقص التمويل، وضعف نظم الرعاية الصحية. 

وعلى الرغم من أن الأمم المتحدة قد أكدت هذا الحق في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فإن الواقع في العديد من الدول العربية لا يعكس هذا الالتزام.

وتختلف التحديات الصحية بشكل كبير بين الدول العربية، حيث تبرز الفجوة بين الدول الغنية والدول ذات الاقتصادات الضعيفة. 

وفي دول الخليج مثل السعودية والإمارات وقطر، تتمتع الحكومات بميزانيات ضخمة تستثمر في أنظمة طبية متطورة، في حين تعاني دول أخرى مثل اليمن، والسودان، وسوريا من نقص حاد في الموارد الصحية بسبب الحروب والصراعات المستمرة التي دمرت منشآت صحية عدة.

نقص التمويل

بحسب تقارير منظمة الصحة العالمية، لا يتجاوز الإنفاق على الصحة في الدول العربية 5% من الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط، ويعكس هذا الرقم تقاعس بعض الدول عن تخصيص موارد كافية للقطاع الصحي رغم تأثيره المباشر في التنمية الاجتماعية والاقتصادية. 

وعلى سبيل المثال، بلغ الإنفاق الصحي في لبنان إلى نحو 3.8%، ما يعكس الأثر السلبي للأزمات الاقتصادية والسياسية في هذا البلد.

وتواجه دول عربية عدة نقصاً حاداً في الكوادر الطبية المؤهلة. ففي دولة مثل العراق، يصل معدل الأطباء إلى 1.6 لكل 1000 شخص، وهو ما يمثل تحدياً كبيراً في تقديم الرعاية الصحية المناسبة. 

وتعد الفجوة التكنولوجية من أبرز العوامل التي تؤثر في جودة الرعاية الصحية في المنطقة، ورغم التقدم الذي أحرزته بعض الدول في مجالات التكنولوجيا الصحية، فإن دول أخرى عدة تفتقر إلى البنية التحتية اللازمة لاستخدام هذه التقنيات بشكل فعال.

الحروب والتأثيرات السكانية

تعد الحروب والكوارث الطبيعية من أبرز العوامل التي تسهم في تدهور جودة الرعاية الصحية في بعض الدول العربية. 

ففي سوريا، على سبيل المثال، دمر الصراع المستمر منذ أكثر من عقد منشآت صحية عدة، ما أدى إلى نقص حاد في الأدوية والمعدات الطبية. 

وفي غزة، يعاني السكان حصاراً خانقاً يجعل من الصعب الحصول على الرعاية الصحية الأساسية. هذه الأزمات تؤثر بشكل كبير في قدرة المواطنين على الوصول إلى الخدمات الصحية.

الفجوة بين المناطق الحضرية والريفية

تستمر الفجوة بين المناطق الحضرية والريفية في دول عربية عدة، حيث تتوافر خدمات الرعاية الصحية بشكل أكبر في المدن الكبرى مقارنة بالمناطق الريفية. 

وفي الجزائر، على سبيل المثال، تقع 70% من المنشآت الصحية في المناطق الحضرية، في حين لا تتوفر في المناطق الريفية سوى 30% من هذه الخدمات، ما يؤدي إلى صعوبة في وصول السكان في هذه المناطق إلى الرعاية الصحية اللازمة.

ورغم هذه التحديات، بدأت بعض الدول العربية في اتخاذ خطوات لتحسين أنظمتها الصحية، ففي تونس، على سبيل المثال، تم إدخال العديد من الإصلاحات في السنوات الأخيرة، مثل تحسين شبكة المستشفيات والمراكز الصحية في المناطق الريفية وتطبيق نظام التأمين الصحي الشامل الذي يضمن تغطية معظم المواطنين. 

وأسهمت هذه الإصلاحات في رفع جودة الرعاية الصحية، وتوسيع نطاق التغطية.

الاستثمار في التكنولوجيا الرقمية

تسعى بعض الدول الخليجية إلى تعزيز أنظمتها الصحية من خلال الاستثمار في التكنولوجيا الرقمية، ففي السعودية والإمارات، تم تطبيق نظام السجلات الطبية الإلكترونية، الذي يهدف إلى تحسين الكفاءة وتقليل الأخطاء الطبية، فضلاً عن تسهيل الوصول إلى الخدمات الصحية. 

وأظهرت الدراسات أن نسبة المرضى الذين يحصلون على استشارات طبية عن بُعد في الإمارات تتجاوز 40%، ما يعكس التقدم في دمج التكنولوجيا مع القطاع الصحي.

ورغم التحديات الكبيرة التي يواجهها القطاع الصحي في العالم العربي، فإن هناك فرصاً لتحسين الوضع من خلال إصلاحات صحية مدروسة، وزيادة الإنفاق على الصحة، وتعزيز البنية التحتية الصحية. 

وتتطلب هذه التحسينات تكاتف جهود الحكومات، والمجتمع المدني، والمؤسسات الدولية لضمان وصول الرعاية الصحية إلى جميع المواطنين، وخاصة الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع.

الحق في الصحة بين الإهمال والحرمان

قال الخبير الاقتصادي والأكاديمي البارز الدكتور رشاد عبده، إن الأزمة الصحية المتفاقمة في عدد من الدول العربية ليست إلا انعكاسًا صارخًا لأزمة أعمق تمتد إلى صميم البنية الاقتصادية والمالية لهذه الدول. فحسب قوله، تكمن جذور المشكلة في نقص الموارد المادية التي تُعد الركيزة الأساسية لأي منظومة صحية فعالة، موضحًا أن غياب الميزانيات الكافية المخصصة للصحة، خاصة في الدول الفقيرة، يترك المواطنين دون حقهم الطبيعي في الرعاية الصحية، ويضعف قدرة الحكومات على بناء نظام صحي شامل وعادل.

وأضاف عبده، في تصريحات لـ"جسور بوست" الوضع يزداد سوءًا حين يكون التعداد السكاني كبيرًا، مقابل إمكانات محدودة لا تواكب النمو السكاني، مشيرًا إلى أن الدول الخليجية تُعد استثناءً بفضل ما تمتلكه من موارد مالية تسمح لها بدعم قطاع الصحة بشكل أكثر استقرارًا واستدامة، أما في باقي الدول العربية، فإن تآكل الميزانيات المرصودة للصحة يؤدي إلى حرمان ملايين المواطنين، خاصة الفئات الفقيرة، من الرعاية الصحية الأساسية، ما يعمّق الفجوة بين الطبقات ويكرّس التفاوت الاجتماعي.

وأكد عبده، أن أحد أكثر أوجه الأزمة خطورة هو الاتجاه المتزايد لخصخصة المستشفيات الحكومية، والتي كانت تمثّل في السابق طوق نجاة للفئات الفقيرة. ويتساءل: "ماذا عن أولئك الذين لا يعملون بوظائف تضمن لهم التأمين الصحي؟"، ليجيب بأن هؤلاء يُتركون ببساطة لمصيرهم، في ظل انعدام أي شبكة أمان صحي حقيقية.

ولفت إلى أن القطاع الصحي الخاص في العالم العربي ينقسم إلى شقين: أحدهما مؤسسي ومنظم، لكنه لا يمثل سوى نسبة محدودة، والآخر غير مؤسسي ويمثل القطاع الأكبر، وتندرج تحته العمالة غير المنتظمة، والتي تعيش غالبًا على الدخل اليومي. هؤلاء –بحسب وصفه– لا يمكنهم تحمّل كلفة العلاج؛ لأن أولويتهم تبقى لتأمين لقمة العيش، وليس للدواء، ما يُنتج مأساة صحية حقيقية.

وأوضح أن هذا الحرمان الصحي لا يتوقف عند حدود الأوجاع الجسدية، بل يمتد إلى أمراض مزمنة وخطِرة مثل التقزم، ومشكلات نفسية وعقلية، تؤثر بدورها على القدرة على اتخاذ قرارات سليمة، وتحد من فرص التعليم والتطور. ونتيجة لذلك، تُشلّ إمكانات التنمية الاقتصادية الحقيقية، وتتعطل عملية خلق طبقات اقتصادية منتجة ومتقدمة، فيما تتوسع رقعة المهمشين وتتقلص الطبقة المتوسطة شيئًا فشيئًا.

وشدد عبده على أن الحل لا يكمن في زيادة مخصصات قطاع الصحة فقط، بل يتطلب رؤية شمولية لنهضة متكاملة تشمل التعليم والصناعة والزراعة والبحث العلمي، مؤكدًا أن الصحة ليست قطاعًا منفصلاً، بل هي حجر الزاوية في بناء الإنسان السليم القادر على الإنتاج والمشاركة في تنمية وطنه.

وعبّر عن قلقه من مشهد يتكرر كثيرًا في بعض الدول العربية، حيث يُطلب من المرضى إحضار الأدوية بأنفسهم أو إجراء الفحوصات في مستشفيات أخرى، بسبب عجز المستشفيات العامة عن توفير الحد الأدنى من الإمكانات، بما في ذلك أجهزة الأشعة والمستلزمات الطبية الأساسية، ما يمثل انتهاكًا واضحًا لحق المواطن في العلاج المجاني والكريم.

الحق في الصحة التزام دستوري

قال الخبير القانوني والأكاديمي البارز مصطفى سعداوي، إن الحق في الصحة ليس ترفًا، بل هو أحد أعمدة الكرامة الإنسانية، وجوهر الحقوق التي أجمعت عليها البشرية في مواثيقها الدولية وتشريعاتها الوطنية، مؤكداً أن هذا الحق ليس فقط مسألة أخلاقية أو إنسانية، بل هو التزام قانوني تُحاسب الدول على التفريط فيه.

وتابع سعداوي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، المواثيق الدولية منذ منتصف القرن الماضي قد أجمعت على أن الصحة جزء لا يتجزأ من منظومة حقوق الإنسان المتكاملة. فمن دستور منظمة الصحة العالمية لعام 1946، إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948، نجد تأكيداً صريحاً بأن لكل إنسان الحق في التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة البدنية والعقلية، باعتباره جزءًا من الحق في مستوى معيشي لائق، يشمل الغذاء والماء النظيف والدواء والمسكن.

وأضاف، الاتفاقات الدولية لم تكتفِ بالتنظير، بل ذهبت إلى تفاصيل دقيقة في إلزام الدول بتوفير مقومات الصحة الشاملة. فالاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، واتفاقية حقوق الطفل، والعهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، جميعها أكدت أن على الدولة واجباً واضحاً في كفالة هذا الحق دون تمييز. بل إن بعض الاتفاقات الإقليمية، مثل الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان الصادر عام 1981، شددت على هذا الحق باعتباره من ركائز العدالة الاجتماعية.

وأوضح سعداوي، أن الدساتير العربية، بما فيها الدستور المصري، قد نصّت صراحةً على كفالة الحق في الصحة لجميع المواطنين، دون تمييز بناءً على الجنس أو السن أو العرق أو أي معايير أخرى، ما يعني التزاماً دستورياً لا يحتمل التأويل. وأضاف أن هذه النصوص الدستورية تُلزم الدولة بتقديم الرعاية الصحية، وتوفير بيئة تضمن للمواطن حياة صحية كريمة تشمل التغذية السليمة، والمياه النظيفة، والعلاج المناسب.

وأكد أن بعض الأصوات قد تُسَوّق لفكرة أن الدولة غير مطالبة قانوناً بتوفير رعاية صحية شاملة، وأنها تفعل ذلك من منطلق إحسان لا التزام، لكن هذا الرأي يتجاهل ما أقرته التشريعات الدولية والمحلية من أن الصحة ليست منحة بل حق. فكل القوانين تقريباً تُقر بأن الدولة مسؤولة عن كفالة هذا الحق وضمان وصوله للجميع، ولا سيما الفئات الأضعف والأكثر هشاشة.

وأشار إلى أن القضاء الإداري، بدوره، يضطلع بمسؤولية رقابية مهمة في هذا السياق، إذ يملك سلطة محاسبة الجهات المسؤولة عن التقصير في كفالة الحق في الصحة، وفرض الإلزام القانوني على الجهات المعنية متى ثبت الإهمال أو التخاذل. بل إن الأمر قد يرتقي، في بعض الحالات، إلى مسؤولية جنائية عندما يتسبب الإهمال أو التعنت في تعريض حياة المواطنين للخطر أو التسبب في أذى جسيم يمكن تفاديه.

وشدد سعداوي على أن الحق في الصحة ليس معزولاً عن باقي الحقوق، بل هو وثيق الصلة بالتعليم والغذاء والعمل والسكن. فإذا تهاوى هذا الركن، تهاوت معه باقي الأركان، فلا يمكن الحديث عن تنمية مستدامة أو عدالة اجتماعية في ظل مجتمع منهك صحيًا. ومن هنا، فإن كفالة هذا الحق كاملًا غير منقوص، وبشكل عادل وشامل، هي الشرط الأول لأي مشروع نهوض حقيقي.

واختتم سعداوي حديثه بالتأكيد على أن الدول العربية، مجتمعة، مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بإعادة ترتيب أولوياتها، ووضع الحق في الصحة في مقدمة السياسات العامة، ليس فقط بوصفه بنداً دستورياً، بل باعتباره عنوانًا لاحترام الإنسان وصون كرامته، وشرطًا أساسيًا لتحقيق الاستقرار والعدالة والتنمية الشاملة.

 

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية