من التقليد للانهيار.. هل تهدد السوشيال ميديا الصحة النفسية للأطفال والمراهقين؟

من التقليد للانهيار.. هل تهدد السوشيال ميديا الصحة النفسية للأطفال والمراهقين؟
تطبيق تيك توك

أثار الانتشار الواسع لمواقع التواصل الاجتماعي ومنها تطبيق تيك توك مخاوف متزايدة بشأن تأثيرها النفسي والسلوكي على الأطفال والمراهقين، خاصة مع ارتفاع معدلات الاستخدام بين الفئات العمرية الصغيرة، ودفع هذا القلق الحكومة الفرنسية إلى اتخاذ خطوات رقابية، حيث تستعد الجمعية الوطنية الفرنسية لإنشاء لجنة تحقيق برلمانية متخصصة لدراسة التداعيات النفسية والاجتماعية للتطبيق على الشباب.

وسجلت فرنسا أكثر من 17 مليون مستخدم نشط لتطبيق تيك توك، وتشير الإحصاءات إلى أن الفئة العمرية بين 10 و19 عامًا تمثل نسبة كبيرة منهم، وفقًا لدراسة أجرتها مؤسسة "Médiamétrie" الفرنسية. 

ومع الانتشار الواسع للتطبيق، تصاعدت المطالب بفحص تأثيره في الصحة النفسية للمراهقين، خصوصًا بعد تزايد التقارير التي تربط استخدامه بقضايا مثل اضطرابات الأكل والانتحار، وحظي مقترح تشكيل اللجنة بإجماع لجنة الشؤون الاجتماعية في البرلمان، ما يرجح تمريره دون معارضة تُذكر.

وباشرت اللجنة، المؤلفة من 30 نائبًا، عملها لدراسة مدى تعرض المراهقين لمحتوى خطر قد يحفز سلوكيات ضارة مثل إيذاء النفس والانتحار، وتسعى إلى معرفة ما إذا كان التطبيق يعرض مقاطع فيديو تروّج لهذه الظواهر بشكل غير مباشر، وتأثير ذلك في الصحة النفسية للأطفال والمراهقين.

أخطار نفسية وسلوكية

كشف تقرير أوروبي أن 40% من المراهقين المستخدمين لوسائل التواصل الاجتماعي تعرضوا لمحتوى مرتبط بالانتحار أو إيذاء النفس، ما يسلط الضوء على الأثر السلبي لهذه المنصات، كما أشارت دراسة نشرتها مجلة "JAMA Pediatrics" إلى أن قضاء المراهقين وقتًا طويلًا على منصات مثل تيك توك يزيد من احتمالية إصابتهم باضطرابات الأكل بنسبة 30%، نتيجة التعرض المستمر لمحتوى يعزز معايير غير واقعية للجمال.

وحاولت إدارة تيك توك الحد من هذه الأخطار عبر إضافة ميزات رقابية، مثل خاصية "الاتصال العائلي" التي تتيح للأهالي فرض حدّ زمني يومي لاستخدام التطبيق، إلا أن هذه الإجراءات لم تُثبت فعاليتها بشكل كافٍ، حيث لا تزال خوارزميات التطبيق تروّج لمحتوى قد يكون ضارًا للمراهقين.

وأكدت دراسة أجرتها جامعة هارفارد أن المراهقين الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي لأكثر من ثلاث ساعات يوميًا يعانون تراجعًا في مستوى التركيز والتحصيل الدراسي بنسبة 25%، ويرجع ذلك إلى طبيعة تيك توك التي تعتمد على مقاطع فيديو قصيرة تحفّز الدماغ على البحث عن مكافآت سريعة، ما يؤثر سلبًا في القدرة على التركيز لفترات طويلة.

وشهدت بعض الدول حوادث مأساوية مرتبطة بتحديات تيك توك، مثل حالة طفل مغربي (13 عامًا) توفي خلال محاولته تنفيذ تحدٍّ خطر ينطوي على خنق النفس. وأثارت هذه الحادثة وغيرها تساؤلات حول مسؤولية المنصة عن حماية المستخدمين الصغار من المحتوى الخطر.

مخاوف حول انتهاك الخصوصية

فرضت هيئة حماية البيانات البريطانية العام الماضي غرامة قدرها 12.7 مليون جنيه إسترليني على تيك توك، بسبب انتهاكه قوانين حماية البيانات والسماح لمئات الآلاف من الأطفال دون 13 عامًا باستخدام التطبيق دون موافقة الأهل، وأثارت هذه القضية مخاوف حول مدى التزام المنصة بحماية خصوصية المستخدمين الصغار، خاصة أن التطبيق يعتمد على خوارزميات متطورة لتتبع سلوك المستخدمين.

وبينما ترى الحكومة الفرنسية أن تشكيل لجنة التحقيق خطوة ضرورية لدراسة تأثير تيك توك، يرى البعض أن الحل لا يكمن فقط في التشريعات بل في إعادة تصميم المنصات الرقمية لضمان بيئة أكثر أمانًا للمستخدمين الصغار، وفي المقابل، يؤكد آخرون دور الأهل في توعية الأطفال بالأخطار المحتملة لوسائل التواصل الاجتماعي وضرورة مراقبة استخدامهم إياها.

تشكيل السلوكيات الخطرة

قال الخبير الاجتماعي والأكاديمي، طه أبو الحسن، إن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها تيك توك، في الأطفال والمراهقين أصبح ظاهرة معقدة تتطلب دراسة متأنية وإجراءات وقائية فعالة، هذه المنصات تعتمد على تقنيات مصممة خصوصًا لجذب المستخدمين وإبقائهم لأطول فترة ممكنة، ما يؤدي إلى حالة من التعلق الشديد بالمحتوى، خاصة لدى الفئات العمرية الصغيرة التي لا تمتلك القدرة الكاملة على تنظيم سلوكها أو ضبط وقت استخدامها لهذه التطبيقات. 

وتابع أبو الحسن، في تصريحات لـ"جسور بوست"، المشكلة تتفاقم عندما يتعرض الأطفال لمحتوى غير ملائم أخلاقيًا، مثل مشاهد غير لائقة أو عادات سلبية كتعاطي الكحول، دون أن يمتلكوا القدرة على تفسير هذه المشاهد بشكل سليم، تيك توك يقدم فضاءً رقميًا مليئًا بالغرائب والعجائب التي تثير فضول الأطفال، فيدفعهم ذلك للبحث والتجربة، وهو ما قد يقودهم إلى سلوكيات غير مأمونة العواقب، فعندما يرى الطفل شخصًا يشرب الخمور في مقطع فيديو جذاب، قد لا يفهم سياق المشهد أو أبعاده الأخلاقية، ما قد يدفعه إلى محاولة تقليد السلوكيات التي يراها باعتبارها جزءًا من واقع جديد يفرضه عليه هذا الفضاء الرقمي.  

وأوضح أبو الحسن، أن هناك خطرًا كبيرًا في المحتويات التي تروج للعنف كوسيلة لتحقيق الأهداف. وأشار إلى أن الطفل أو المراهق عندما يشاهد مرارًا وتكرارًا مقاطع تصور العنف على أنه وسيلة فعالة لتحقيق الرغبات أو فرض السيطرة، فإنه يبدأ في استيعاب هذا النموذج كأداة مقبولة لحل المشكلات، الطفل العنيف وهو يقود دراجة ليس كالمراهق العنيف وهو يقود سيارة، وليس كالراشد العنيف وهو يحمل سلاحًا. فالعنف يتطور مع القدرات والإمكانات، وإذا لم يتم تداركه في مرحلة مبكرة، فإنه قد يتحول إلى جزء أصيل من شخصية الطفل ويؤثر في المجتمع ككل".  

وحول كيفية معالجة هذه الظاهرة، أكد أبو الحسن، أن الحل لا يمكن أن يكون مجرد حظر لهذه التطبيقات أو حرمان الأطفال من استخدامها، بل يجب أن يكون هناك نهج متكامل يعتمد على التوعية، والتربية الرقمية، والرقابة الذكية،أنه لا يمكن فصل هذه القضية عن الإطار العلمي لعلم النفس والسلوك، حيث إن الأطفال والمراهقين يحتاجون إلى توجيه وتعليم كيفية التعامل مع المحتوى الرقمي بوعي ومسؤولية.  

وأشار إلى أن مسؤولية معالجة هذه الظاهرة تقع على عدة جهات، بدءًا من الأسرة التي يجب أن تراقب وتوجه استخدام الأطفال لهذه التطبيقات، مرورًا بالمؤسسات التعليمية التي ينبغي أن تدمج مفاهيم التربية الرقمية في مناهجها، وصولًا إلى الحكومات التي يجب أن تفرض معايير صارمة على المحتوى المقدم عبر هذه المنصات، وهذا يقول بأهمية دور الشركات المالكة لهذه التطبيقات في وضع أدوات فعالة للتحكم في المحتوى الذي يصل إلى المستخدمين الصغار، وضمان أن تكون هناك سياسات حماية حقيقية تمنع تعرضهم للمحتوى الضار.  

وأتم، التعامل مع هذه القضية يجب أن يكون استباقيًا وليس مجرد رد فعل للأضرار التي تحدث بالفعل. فالوعي بالأخطار، وتعليم الأطفال مهارات التفكير النقدي، وإيجاد بدائل صحية للترفيه، كلها عوامل يمكن أن تسهم في خلق بيئة رقمية أكثر أمانًا، تحافظ على الصحة النفسية للأطفال والمراهقين وتحميهم من الأخطار التي قد تهدد مستقبلهم وسلوكهم الاجتماعي.

بين التقليد والانهيار النفسي

وفي السياق، أوضح خبير علم النفس الأكاديمي، جمال فرويز، أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت تمثل تهديدًا حقيقيًا للأجيال الجديدة على المستويات الأخلاقية، والسلوكية، والطبية، والمعرفية، محذرًا من أنها قد تكون “مدمرة للمستقبل”،التقارير الدولية، بما في ذلك تلك التي نشرتها بريطانيا، صنّفت عام 2025 كعام "التعفن الدماغي" بسبب التأثيرات السلبية العميقة لوسائل التواصل الاجتماعي، خصوصًا فيما يتعلق بالأطفال والمراهقين.

وتابع فرويز، في تصريحات لـ"جسور بوست"، من الناحية النفسية، يُمكن تفسير هذا التأثير من خلال نظريات الإدراك والانتباه، وفقًا لنظرية "إدمان التحفيز السريع"، تستهلك التطبيقات مثل تيك توك الفيديوهات السريعة التي تحفز الدماغ بمعدل مرتفع، مما يؤدي إلى تعطيل القدرة على التركيز على المهام الطويلة، فسرعة تغيير المحتوى وتنوعه يؤديان إلى حالة مستمرة من "الاستثارة العصبية"، ما يرهق الخلايا العصبية في الدماغ ويجعلها غير قادرة على معالجة المعلومات بشكل كافٍ، هذا النوع من التحفيز السريع يعمل على تحفيز نظام المكافأة في الدماغ بشكل مفرط، ما يجعل الأفراد أكثر اعتمادًا على وسائل التواصل الاجتماعي ويزيد من شعورهم بالعجز عن أداء المهام التي تتطلب انتباهًا طويل الأمد.

واسترسل، تتضاعف هذه التأثيرات النفسية عندما نتحدث عن الأطفال والمراهقين الذين يتسمون بطابع التقليد والمحاكاة في هذه المرحلة العمرية. يُظهر فرويز أن العديد من المراهقين والأطفال يتعرضون لظاهرة "التقليد" عبر الإنترنت، وهي ظاهرة نفسية ترتبط غالبًا بنقص الثقة بالنفس والدونية العاطفية، هؤلاء الأطفال يسعون للحصول على التفاعل والإعجاب من خلال تقليد السلوكيات المحبوبة على المنصات الاجتماعية، التي في الغالب تتسم بالمبالغة أو حتى الإساءة.

وأشار إلى أن هناك أنماطًا سلوكية خطرة مثل "التحديات" التي تُعرض على هذه المنصات، والتي تشمل سلوكيات قد تُسبب الوفاة أو الإصابات الشديدة، من بين هذه السلوكيات "التحديات التنفسية" مثل "أكياس الهواء" التي تربط على الرأس لمنع التنفس، ما يعرض المشاركين لخطر كبير في محاولة للمنافسة على تحمّل الصعاب، وهنا يتضح كيف أن هذه التحديات تعد بمنزلة مؤشر حقيقي على هشاشة التوازن النفسي لدى المراهقين، الذين يلجؤون إلى مثل هذه التصرفات المتهورة في محاولة لإثبات أنفسهم أو تحقيق تفاعل سريع.

وحذر فرويز، من أن الانفتاح الثقافي غير المتوازن على الغرب من خلال السوشيال ميديا قد أثر سلبًا في اهتمامات الأطفال والمراهقين العرب، حيث باتت هذه الوسائل تستقطب اهتمامهم بعيدًا عن الأنشطة الثقافية المحلية مثل القراءة أو تعلم الموسيقى أو تنمية المواهب، كما أن هذا الانفتاح خلق نوعًا من التقليد الأعمى لما يعرضه الغرب من ثقافات وسلوكيات سلبية، ما يعزز من فقدان الهوية الثقافية الأصيلة ويقلل من اهتمام الشباب بممارسة الأنشطة الصحية والمفيدة.

واعتبر فرويز أن الحل لا يكمن فقط في فرض القيود على استخدام هذه المنصات، بل في توعية الأسرة والمجتمع بكيفية تأثير السوشيال ميديا في الأبناء، فالأسر يجب أن تدرك دورها المحوري في توجيه أطفالها نحو استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بشكل معتدل وواعٍ يتعين على الآباء أن يعلموا أولادهم أن هذه التطبيقات ليست أدوات حياة أساسية، بل هي منصات تجارية تهدف إلى استقطاب الانتباه وجني الأرباح. وعليه، يجب أن يتم تحويل الانتباه نحو الأنشطة البديلة المفيدة، مثل الرياضة أو الأنشطة الثقافية التي تسهم في بناء شخصية الأطفال والمراهقين بشكل إيجابي.

وأتم، رفع مستوى الوعي العام بأهمية تعزيز الثقة بالنفس لدى الأطفال والمراهقين من خلال بناء بيئة أسرية داعمة تركز على القيم الجوهرية مثل الاهتمام بالتعليم، الرياضة، والتفاعل الاجتماعي الصحي بعيدًا عن التأثيرات السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية