من بطاقة اللجوء لتذكرة الانتظار.. اللاجئون بين صدأ التشريعات ومعاناة الإهمال الصحي
من بطاقة اللجوء لتذكرة الانتظار.. اللاجئون بين صدأ التشريعات ومعاناة الإهمال الصحي
تُعد أزمة الحق في الصحة للنازحين والمهاجرين من أبرز التحديات التي يواجهها المجتمع الدولي في مجال حقوق الإنسان، إذ تعكس بشكل جلي الاختلالات الهيكلية في النظام الصحي العالمي، ما يجعل هذه الأزمة اختبارًا حقيقيًا لمصداقية التزام الدول والمجتمعات بمبادئ العدالة الإنسانية.
ووفقًا للبيانات الصادرة عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لعام 2024، يشكل النازحون قسراً نحو 1.5% من سكان العالم، إلا أنهم لا يحصلون إلا على 0.3% فقط من إجمالي الإنفاق الصحي العالمي.
وتؤكد هذه الفجوة الكبيرة بين الحاجة والموارد المخصصة لها، وجود أزمة صحية هيكلية تتطلب تحليلاً عميقًا ومتكاملًا يأخذ في اعتباره الأبعاد القانونية، الهيكلية، والتمويلية لهذه المشكلة.
ومن الناحية القانونية، يكفل العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الحق في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الممكن، وهو ما يتطلب من الدول الموقعة على هذا العهد اتخاذ تدابير قانونية وإجراءات عملية لضمان حصول الجميع -بما في ذلك اللاجئون والمهاجرون- على الرعاية الصحية دون تمييز.
إلا أن هذه الحقوق في الواقع لا تُطبق بشكل فعّال، حيث يُلاحظ أن العديد من الدول لا تضمن حقوق النازحين الصحية، إما بسبب السياسات التمييزية أو نقص التمويل أو غياب التشريعات التي تدعم إدماجهم في النظام الصحي الوطني.
التحديات المؤسسية والتمويلية
وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، تُظهر الإحصائيات أن نحو 62% من الدول التي تستضيف أعدادًا كبيرة من اللاجئين لا تدمجهم في أنظمتها الصحية الوطنية، ما يعرضهم لعدم الحصول على خدمات صحية متكاملة، وفي الوقت ذاته، يعاني 45% من الدول الأوروبية، شروطاً قانونية صارمة تقيّد تقديم الخدمات الصحية الأساسية للمهاجرين غير النظاميين، ما يزيد من الأخطار الصحية التي يتعرضون لها.
وفي هذا السياق، تبرز مسألة التمويل كأحد أبرز العوامل المساهمة في تعميق الأزمة، حيث ينفق اللاجئ في المتوسط نحو 23 دولارًا سنويًا على الرعاية الصحية، في حين يصل الإنفاق الصحي للفرد في الدول المضيفة إلى 680 دولارًا، كما أن 78% من برامج الصحة الخاصة باللاجئين تعاني من نقص في التمويل بنسبة تصل إلى 40%، ما يؤثر بشكل مباشر على القدرة على تقديم الرعاية الصحية بشكل مناسب.
وعلى المستوى الهيكلي، تعاني مرافق الصحة في مناطق اللجوء، نقصاً حاداً في البنية التحتية والكوادر الطبية المتخصصة، ففي بعض المخيمات، قد تصل نسبة الأطباء إلى اللاجئين إلى 1:10,000، في حين أن المتوسط العالمي لهذه النسبة يتراوح حول 1:300، هذه الفجوة الكبيرة تحد من قدرة هذه الأنظمة على توفير الرعاية الصحية اللازمة.
ومن الناحية المؤسسية، تتبع العديد من الدول سياسات تمييزية ضد المهاجرين عند تقديم الخدمات الصحية، ما يؤدي إلى حرمانهم من تلقي الرعاية الصحية الأساسية، وعلى سبيل المثال، 68% من المستشفيات الخاصة في بعض الدول ترفض استقبال اللاجئين بسبب السياسات الحكومية أو لأسباب مالية. هذه السياسات التمييزية تسهم في تفاقم معاناة النازحين والمهاجرين وتحرمهم من حقوقهم الأساسية.
التحديات المجتمعية
على المستوى المجتمعي، يعاني 60% من المهاجرين من التمييز عند التقدم للحصول على الخدمات الصحية. هذا التمييز لا يقتصر على الجوانب القانونية، بل يمتد إلى المواقف الاجتماعية والثقافية، حيث يعاني العديد من اللاجئين من وصمة اجتماعية في بعض المجتمعات المضيفة.
وتشير تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى أن 73% من النازحين في بعض المناطق يعانون هذه الوصمة الاجتماعية، ما يخلق بيئة غير داعمة لاندماجهم ويحرمهم من الفرص اللازمة للحصول على الرعاية الصحية.
وتُظهر بعض النماذج العالمية الناجحة أهمية تبني سياسات شاملة تستند إلى المعايير الحقوقية الدولية لضمان حق الجميع في الحصول على الرعاية الصحية، ومن أبرز هذه النماذج هو النموذج التكاملي الذي تتبناه دول مثل البرتغال وكندا، حيث يضمن توفير الرعاية الصحية لجميع المهاجرين بغض النظر عن وضعهم القانوني.
وأسهم هذا النموذج في خفض تكاليف الرعاية الصحية بنسبة 22% وفقًا لتقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وفي المقابل، يعاني النظام الصحي في الدول التي تعتمد على النموذج الاستبعادي من تصاعد معدلات الأمراض المعدية بنسبة 35% بين المهاجرين، ما يشكل تهديدًا للصحة العامة.
سنوات من التهميش والتمييز
أطلقت الناشطة الحقوقية اليمنية، أبها عقيل، صرخة إنسانية تعكس حجم المعاناة اليومية التي يكابدها اللاجئون اليمنيون في مصر، خاصة في ما يتعلق بحقهم في الرعاية الصحية والمعاملة الإنسانية من قبل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين.
وقالت عقيل، في تصريحات لـ"جسور بوست"، إنها قدمت إلى مصر هرباً من التهديدات التي تعرضت لها في اليمن، مصحوبة بأطفالها لمواصلة تعليمهم، وكانت تأمل أن تحصل على إقامة فور وصولها، خصوصاً بعد حصولها على بطاقة من المفوضية، اعتقدت أنها ستمكنها من تسهيل الإجراءات وضمان حمايتها القانونية والصحية. لكن ما واجهته كان صدمة كبيرة، إذ تحولت المفوضية من ملاذ إنساني إلى عبء بيروقراطي يعقّد حياة اللاجئ بدلًا من أن يسهلها.
وأكّدت أن المفوضية لا تقوم بدورها كما ينبغي، بل إن هناك تمييزاً واضحاً بين الجنسيات، حيث يُمنح ملف بعض اللاجئين من جنسيات معينة أولوية ومعاملة خاصة، في حين يُترك اللاجئون اليمنيون في الهامش، لا يجدون من ينصت إليهم أو يهتم بمعاناتهم، وكأنهم لاجئون من درجة ثانية.
وأضافت بمرارة: "التمييز هذا يصدر من الجهة التي من المفترض أن تكون رأس الحربة في محاربة التمييز ذاته".
وأشارت إلى أن اللاجئين اليمنيين يعانون أمراضاً مزمنة تفاقمت نتيجة الحرب والتهجير، حيث تعاني هي نفسها مشكلات في القلب، وتتعرض شقيقتها لنوبات حادة نتيجة إصابتها بمرض السكري، ورغم هذه الظروف، فإن المفوضية تفرض شروطاً معقدة للحصول على الدواء، مطالبةً اللاجئين بدفع مبالغ مالية تصل إلى 2000 جنيه من أجل الحصول على أدوية قيمتها الفعلية لا تتعدى نصف هذا الرقم، وفي حالات الطوارئ، ككسر يد ابنها، وجدت نفسها عاجزة عن التواصل السريع مع المفوضية، ما اضطرها للجوء إلى المستشفيات الخاصة وتكبد خسائر تفوق قدرتها.
وأضافت: "انتظرنا انتهاء هذه المعاناة في غضون عامين، لكننا اليوم بعد 7 سنوات، نغرق في مزيد من الفقر والتهميش، والمفوضية غير جادة في تعاملها معنا، وكأن دورها أصبح مجرد ديكور إنساني يخدع به العالم الغربي نفسه، دون أثر حقيقي على الأرض".
وانتقدت عقيل أيضًا الآلية الطبية المعتمدة من قبل المفوضية، مشيرة إلى أنها لا توفر مراكز كافية لتلبية احتياجات اللاجئين، فحين احتاجت إلى موعد طبي لابنها، أُعطي لها موعد بعد 7 أشهر، ما أجبرها على تحمل كلفة العلاج في العيادات الخاصة.
وتساءلت عن سبب عدم توجيه ميزانيات المفوضية إلى تعاقدات مباشرة مع المستشفيات المصرية، لإنشاء نظام تأمين صحي فعّال بدل الأسلوب الحالي غير الواضح.
وعبرت عن شكها في أن تكون المفوضية على دراية حقيقية بالغرض من وجودها، لافتة إلى أن اليمنيين الذين لجؤوا إلى مصر كانوا أصلاً في حالات صحية ونفسية متدهورة نتيجة الحرب والقصف والصدمات الجماعية.
واختتمت عقيل تصريحها بتوجيه نداء إنساني للمجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية، مطالبة بإعادة تقييم دور المفوضية في مصر، والضغط من أجل معاملة عادلة وغير تمييزية لكل اللاجئين، خصوصاً في ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها اليمنيون، وتفاقمت بعد تقليص الولايات المتحدة للمساعدات الإنسانية، ما ينذر بانهيار شامل لأي دعم متبقٍ لهؤلاء الضحايا المنسيين.
كارت المفوضية لم يعد كافيًا
قال الناشط الحقوقي السوري سامر طلعت، إن واقع اللاجئين السوريين في مصر يشهد تراجعًا كبيرًا في مستويات الدعم والرعاية التي كانت تقدمها المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، مؤكدًا أن كثيرًا من اللاجئين يشعرون بأنهم تُركوا لمصيرهم في مواجهة ظروف معيشية وصحية صعبة دون حماية كافية.
وأوضح طلعت، في تصريحات لـ"جسور بوست" أن المفوضية في مراحل سابقة، كانت تسهم في تيسير بعض الجوانب الأساسية من حياة اللاجئين من خلال "الكارت الأصفر"، الذي يُعد وثيقة لجوء مؤقتة تتيح لصاحبها الحصول على إقامة شرعية، والوصول إلى بعض الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية، بالإضافة إلى المعونات المالية والغذائية التي كانت تُقدَّم مع بداية اللجوء.
وأضاف: "بالفعل استفاد العديد من السوريين، خصوصًا العائلات، من برامج إعادة التوطين في أوروبا عبر المفوضية، وكانت تلك البرامج تشكل بارقة أمل للاجئين في ظروف أكثر استقرارًا، غير أن تلك الفرص لم تكن متاحة للجميع، وغالبًا ما اصطدمت بتضاؤل الدعم الدولي واشتراطات معقدة."
وتابع: "لكن الواقع اليوم تغيّر كثيرًا، منذ جائحة كورونا، بدأ كثيرون يلاحظون تراجعًا في فاعلية المفوضية، حيث واجهت انتقادات واسعة بشأن أدائها وغيابها عن مشهد الأزمة، خصوصًا في ما يتعلق بالجانب الصحي. واليوم، بات الحصول على موعد في مكاتب المفوضية أمرًا أقرب إلى المستحيل. لقد ذهبتُ إليهم بنفسي وطلبت موعدًا في عام 2025، فأعطوني ميعادًا في 2027، وهذا بحد ذاته يعكس حجم الأزمة والازدحام وعدم القدرة على الاستجابة."
وأشار طلعت إلى أن كثيرًا من اللاجئين السوريين اضطروا إلى التوجه إلى القطاع الصحي الخاص للحصول على الرعاية، مما يرهقهم ماديًا بشكل كبير، قائلًا: “عندما أمرض أنا أو أحد أفراد أسرتي، لا أجد بديلًا سوى الذهاب إلى طبيب خاص، وأدفع كما يدفع أي سائح، رغم أنني لا أملك ذات القدرة المالية، لحسن الحظ، المصريون شعب كريم، وكثير من الأطباء لا يبالغون في أسعار الكشف، ونتلقى معاملة قريبة من معاملة المواطن، لكن هذا ليس حلًا مستدامًا”.
وانتقد طلعت غياب الدور الفاعل للسفارات، موضحًا أنها لا تتدخل إلا في المسائل الإدارية المتعلقة بالأوراق الثبوتية، وليس لها أي دور في تقديم خدمات حياتية أو دعم إغاثي، مشددًا على أن المفوضية تتحمل العبء الأكبر في هذا الملف، وأن قصورها يترك فراغًا واسعًا لا يُملأ.
ودعا طلعت إلى مقاربة شاملة للتعامل مع ملف اللاجئين، ولا سيما في الجوانب الصحية، قائلاً إن على المجتمع الدولي أن يتحرك بشكل أكثر جدية ومسؤولية تجاه الأوضاع المتدهورة، مطالبًا بضرورة اتخاذ خطوات تشريعية ومالية ومؤسسية تعالج جذور الأزمة.
وأضاف: "نحتاج إلى إصلاحات قانونية تضمن شمولية الخدمات الصحية لكل فئات المجتمع، بمن فيهم اللاجئون والمهاجرون، كما نطالب بزيادة التمويل الدولي وإنشاء صندوق عالمي مخصص لدعم الصحة للنازحين، وتدريب الكوادر الصحية على التعامل مع احتياجات اللاجئين بثقافتهم المختلفة، فضلاً عن إشراك اللاجئين أنفسهم في تصميم البرامج الصحية التي تهمهم، لضمان استجابتها لحقيقة أوضاعهم وليس لتصورات بيروقراطية جامدة".
وختم بقوله: "اللاجئون ليسوا مجرد أرقام أو ملفات مؤجلة، بل بشر، يحملون آلامًا وأحلامًا واحتياجات، وعلى العالم أن ينظر إليهم بعين العدالة لا الشفقة".