الحقوق في قبضة طالبان.. انتهاكات ممنهجة والمجتمع الدولي يواجه «اختبار الضمير»
الحقوق في قبضة طالبان.. انتهاكات ممنهجة والمجتمع الدولي يواجه «اختبار الضمير»
منذ استيلاء حركة "طالبان" على الحكم في أغسطس 2021، تتواصل السياسات التقييدية، ولا سيما تلك الموجهة ضد النساء والفتيات، رغم المناشدات والانتقادات الدولية التي لم تُحدث تغييرًا يُذكر في الواقع القائم.
ويشير خبراء في الشأنين الدولي والحقوقي، تحدثوا لـ"جسور بوست"، إلى أن الحركة تمضي في ترسيخ نموذج حكم أحادي اللون، يرفض الاندماج ويُصر على العزلة، ما يُسفر عن انهيار منهجي لحقوق الإنسان، خصوصًا حقوق النساء والفتيات.
وأكد الخبراء أن الاعتماد على أدوات الضغط الدولي وحدها لم يعد كافيًا، بل يجب دمجها باستراتيجيات جديدة تشمل الحوار مع الأطراف الإقليمية ذات النفوذ على طالبان، بهدف دفعها نحو تغييرات تدريجية مقابل حوافز اقتصادية أو سياسية.
ويرى الخبراء أن "الوضع في أفغانستان ليس ميؤوسًا منه"، لكنه يتطلب أدوات حقوقية مبتكرة، خاصة في ظل العلاقة المتبادلة بين التدهور الحقوقي والفقر والعنف، مشددين على ضرورة أن يتجاوز المجتمع الدولي مرحلة الصمت، ويتبنى سياسات فاعلة تتخطى حدود الإدانة اللفظية، مع توقع استمرار طالبان في تجاهل الأصوات الرافضة لانتهاكاتها.
قانون أم قيود؟
منذ عودتها إلى الحكم، فرضت "طالبان" سلسلة من القيود المتصاعدة على الحياة العامة، ولا سيما فيما يخص حقوق النساء والفتيات. وفي أغسطس 2024، شرعت سلطات الأمر الواقع في تطبيق قانون جديد مستند إلى مبدأ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
وفي تقرير مفصل، صدر الخميس، رصدت بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة في أفغانستان (يوناما) آثار تطبيق هذا القانون، استنادًا إلى ستة أشهر من المراقبة الميدانية اليومية في أنحاء البلاد. وبيّن التقرير أن تطبيق القانون أدى إلى تداعيات اجتماعية واقتصادية وحقوقية واسعة النطاق.
وأكد التقرير أن السلطات تواصل فرض رؤيتها لنظام إسلامي متشدد انعكس بشكل مباشر على الحياة اليومية، من خلال قيود صارمة على الحريات الفردية، ومنع النساء والفتيات من دخول الأماكن العامة والمراكز الصحية، وفرض ضوابط مشددة على اللباس والتنقل.
ووصفت البعثة هذه التدابير بأنها عائق مباشر يحول دون تمتع السكان، خاصة النساء، بحقوقهم الأساسية، محذّرة من أن استمرار هذه السياسات سيفاقم التدهور الاقتصادي والإنساني.
وأوضحت أن هذه القيود تعرقل قدرة الأمم المتحدة وشركائها على تقديم المساعدات الحيوية، ما يُهدد ملايين الأفغان بفقدان الدعم الإنساني اللازم.
تحذيرات أممية
استشهد التقرير بقرار مجلس الأمن رقم 2777 (2025)، الذي أعرب فيه المجلس عن قلقه العميق إزاء تدهور أوضاع حقوق الإنسان في أفغانستان، ولا سيما بالنسبة للنساء والفتيات.
وقد أدان القرار حرمان النساء من فرص التعليم والعمل والعدالة، ومنعهن من المشاركة في الحياة العامة، والتنقل بحرية، والحصول على الخدمات الأساسية، داعيًا "طالبان" إلى التراجع الفوري عن هذه السياسات، بما في ذلك قانون "الرذيلة والفضيلة".
وعلى الرغم من تعهد الحركة بإدارة "أكثر مرونة" عند عودتها إلى الحكم، فإنها سرعان ما فرضت قيودًا صارمة أقصت النساء عن الحياة العامة، بما في ذلك حظر عملهن في المنظمات الإنسانية، وإغلاق مدارس الفتيات الثانوية منذ أكثر من عام، بالإضافة إلى منع التعليم الجامعي للنساء، وحرمانهن من دخول الحدائق والصالات الرياضية والحمامات العامة، واشتراط وجود "محرم" عند السفر، وفرض الحجاب في الأماكن العامة.
وفي 26 مارس الماضي، أعربت بعثة "يوناما" عن "خيبة أملها العميقة" إزاء استمرار منع الفتيات من التعليم بعد الصف السادس للعام الرابع على التوالي.
ووفقًا لإحصائيات صادرة عن منظمة "يونيسف"، فقد تسببت هذه السياسات بحرمان نحو 2.2 مليون فتاة أفغانية من حق التعليم بعد الصف السادس، من بينهن 400 ألف فتاة خلال عام 2025 فقط.
عزلة خانقة
تتوالى القيود المفروضة على الحياة العامة في أفغانستان في ظل أزمة إنسانية خانقة، منذ سيطرة حركة "طالبان" على الحكم في أغسطس 2021، عقب حرب مدمّرة استمرّت عقدين من الزمن، وتوقّف شبه تام للمساعدات الدولية التي كانت تشكّل نحو 75% من الميزانية العامة للبلاد.
وعادت "طالبان" إلى الحكم بعد عشرين عامًا من الإطاحة بها على يد الولايات المتحدة الأمريكية وقوات التحالف عام 2001، إثر اتهامها بإيواء منفذي هجمات 11 سبتمبر، وعادت معها المخاوف الدولية المتصاعدة من تدهور الأوضاع الإنسانية والحقوقية والصحية في البلاد.
ورغم مرور أكثر من 3 سنوات على عودة الحركة، فلا يزال المجتمع الدولي يرفض الاعتراف بشرعية النظام القائم، مشترطًا اتخاذ خطوات ملموسة لاحترام حقوق الإنسان لاستئناف الدعم الدولي. ووفق تقارير الأمم المتحدة، تواجه المجاعة أكثر من 55% من سكان أفغانستان، في حين يعتمد 28 مليون شخص على المساعدات الإنسانية، من أصل نحو 37 مليون نسمة.
وفي تطور يعمق الأزمة، قررت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أخيرًا وقف معظم المساعدات الإنسانية المخصصة لأفغانستان واليمن خلال العام الجاري، ما يُنذر بتفاقم الكارثة الإنسانية وتعريض حياة ملايين الأشخاص للخطر، بحسب ما نقلته وكالة "رويترز".
وفي مارس الماضي، أصدرت منظمة الصحة العالمية تحذيرًا من أن نقص التمويل قد يؤدي إلى إغلاق 80% من خدمات الرعاية الصحية الأساسية التي تدعمها في أفغانستان، ما سيحرم ملايين الأشخاص، خصوصًا النساء والأطفال وكبار السن والنازحين، من الوصول إلى خدمات طبية حيوية.
تحرك قانوني دولي
أمام هذا الواقع القاتم، بدأت دول غربية تتحرك تجاه الوضع المتدهور في أفغانستان. فقد أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، في نوفمبر 2024، أنه تلقى إحالة رسمية من 6 دول أطراف في المحكمة (تشيلي، كوستاريكا، إسبانيا، فرنسا، لوكسمبورغ، والمكسيك) عبّرت فيها عن قلقها الشديد إزاء الانتهاكات المتزايدة لحقوق الإنسان، لا سيما ما تتعرض له النساء والفتيات.
وطالبت الدول الست بأن تشمل التحقيقات الجارية في أفغانستان الجرائم المرتكبة بحق النساء والفتيات منذ استيلاء طالبان على السلطة عام 2021، في خطوة قد تمهد لفتح باب المساءلة الدولية.
بدوره، قال الخبير المتخصص في الشأن الأفغاني والآسيوي، إسلام منيسي، إن "طالبان تمارس الحكم وفق نموذج أحادي اللون، وتسعى من خلال التشريعات والقيود المفروضة إلى ترسيخ سلطتها، وفرض رؤيتها العقائدية والفكرية، بما يكرّس واقعًا تشريعيًا يخدم تمكينها كسلطة أمر واقع منذ عام 2021".
وتوقع منيسي في تصريح لـ"جسور بوست"، أن "تواصل طالبان هذا النهج طالما لا تواجه ضغوطًا حقيقية تُجبرها على التراجع، وطالما أن المجتمع الدولي لا يمتلك أدوات فعالة لفرض إرادته عليها".
وأضاف أن "المؤشرات الحالية توحي بأن الحركة لا تُبدي رغبة حقيقية في تغيير أفكارها أو الانفتاح على المجتمع الدولي، بل على العكس، تبدو مرتاحة لحالة العزلة، وربما تعدها وسيلة لحماية نفسها من الضغوط".
فصل عنصري
من جانبه، قال رضا الدنبوقي، الخبير في القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، إن "الوضع الحقوقي في أفغانستان يمر بانهيار ممنهج، كما أظهر تقرير الأمم المتحدة الأخير، خصوصًا فيما يتعلق بحقوق النساء والفتيات".
وأشار الدنبوقي، في حديث لـ"جسور بوست"، إلى أن القيود المستندة إلى قانون "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" تحولت إلى أداة لقمع الحريات الفردية والجماعية، وهو ما يرقى إلى "تمييز مؤسسي" يُشبه إلى حد كبير الفصل العنصري الجندري.
وأوضح أن "النساء يُمنعن من التعليم، والعمل، والتنقل بحرية، بل ومن الوصول إلى الخدمات الصحية الأساسية، في انتهاك صارخ لمبادئ حقوق الإنسان الدولية"، مضيفًا أن "القيود على الإعلام والعمل الإنساني تُعمق الأزمة وتدفع أفغانستان نحو عزلة حقوقية واقتصادية تامة".
وأكد الدنبوقي أن ما يحدث يمثل خرقًا واضحًا للاتفاقيات الدولية التي سبق أن وقّعتها أفغانستان، مثل "اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)" و"العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية".
حلول مبتكرة
يرى الخبير في القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، رضا الدنبوقي، أن وقف "طالبان" لانتهاكات حقوق الإنسان في أفغانستان لا يمكن أن يتحقق من خلال الوسائل التقليدية وحدها، بل يتطلب استراتيجية شاملة متعددة المستويات تجمع بين الضغط الدولي، والمقاومة الداخلية، والانخراط المجتمعي.
وأكد الدنبوقي أن "وقف النزيف الحقوقي يتطلب أولاً تعزيز التضامن المجتمعي الداخلي، من خلال دعم شبكات المقاومة السلمية، وعلى رأسها مجموعات النساء الأفغانيات الناشطات سرًا، وتمكينهن من توثيق الانتهاكات عبر منصات آمنة مثل تطبيق Signal أو البريد الإلكتروني المشفّر ProtonMail، لنشر الوعي محليًا ودوليًا دون تعريض حياتهن للخطر".
وأشار الدنبوقي إلى أهمية تمكين القيادات الدينية المعتدلة داخل أفغانستان، من خلال تفعيل حوارات دينية تعيد تفسير النصوص الإسلامية بما يتماشى مع مبادئ حقوق الإنسان. ويضيف: "استخدام خطاب ديني بديل يمكن أن يشكّل سلاحًا فعالًا في مواجهة التأويلات التي تشرعن قمع طالبان".
وشدد على ضرورة دعم مبادرات التعليم البديل الآمن، عبر إنشاء مدارس ومراكز تعليمية غير رسمية ومنصات رقمية توفر للفتيات فرصة مواصلة التعليم في بيئة سرية وآمنة.
وعدّ الدنبوقي “الضغط الاقتصادي الذكي” أحد مفاتيح التأثير الفعالة، داعيًا إلى ربط استثمارات الشركات الدولية بتحسين الحقوق الأساسية، بالتوازي مع تفعيل آليات المحاسبة الدولية، خصوصًا فيما يتعلق بقيادات طالبان التي تتحكم بالموارد الاقتصادية.
وأضاف: "لا بد من تفعيل أصوات النشطاء في الخارج، وتضخيم رسائلهم عبر الإعلام العالمي، لضمان عدم تغييب الواقع الأفغاني عن الرأي العام الدولي".
ويرى الدنبوقي أن "تصلّب طالبان الأيديولوجي يجعل الضغط التقليدي وحده غير كافٍ، وأن المطلوب هو مزيج من الضغط والمشاركة الذكية، والتي تتضمن ضغط دولي منسق: عبر تفعيل آليات المساءلة، مثل المحكمة الجنائية الدولية لملاحقة جرائم ضد الإنسانية، وحوار إقليمي فاعل: مع دول لها نفوذ على طالبان مثل باكستان، وإيران، وقطر، لخلق مساحة تفاوضية تتيح تقديم حوافز مقابل تحسينات ملموسة.
وأضاف: "حملات توعوية محلية: باستخدام وسائل الإعلام المحلية مثل "راديو آزادي" لبث رسائل حول حقوق النساء في الإسلام، وتسليط الضوء على نماذج إسلامية ناجحة مثل إندونيسيا وتونس"، قائلًا: "الوضع في أفغانستان ليس ميؤوسًا منه، لكنه يتطلب ابتكارًا في الأدوات الحقوقية، وتجاوزًا للصمت الدولي".
وشدد على أن "الحقوق لا تنفصل عن الاستقرار، فكل تدهور حقوقي يُغذي مزيدًا من الفقر والعنف"، داعيًا المجتمع الدولي إلى اعتماد سياسات فاعلة لا تكتفي بإدانة الانتهاكات، بل تعمل على تمكين الداخل الأفغاني، وضمان ألا تُستخدم المساعدات الإنسانية أداةً لتعزيز سلطة طالبان.