حين تتصارع الأفيال تُدهَس الشعوب.. الحرب الجمركية بين واشنطن وبكين تعصف بالحق في الغذاء والعمل والدواء

حين تتصارع الأفيال تُدهَس الشعوب.. الحرب الجمركية بين واشنطن وبكين تعصف بالحق في الغذاء والعمل والدواء
رئيسا الصين والولايات المتحدة

في مشهد دولي مثقل بالأزمات والارتباكات، تطلّ أزمة التصعيد الجمركي بين الولايات المتحدة والصين ككابوس جديد على الاقتصاد العالمي، مشكّلةً حلقةً جديدةً في سلسلة من الأزمات المتلاحقة التي أربكت استقرار البشرية في السنوات الأخيرة. 

فالعالم لم يتعافَ بعد من تداعيات جائحة كوفيد-19 التي عرّت هشاشة أنظمة الصحة والاقتصاد، ولم يستوعب تماماً الزلزال الجيوسياسي الناجم عن الحرب الروسية-الأوكرانية، حتى جاءت حرب الرسوم الجمركية بين أكبر اقتصادين في العالم لتضرب في عمق النمو العالمي، وتفتح الباب أمام أزمة تضخم عالمية تتسلل إلى موائد الفقراء ودفاتر العاطلين عن العمل.

بداية لعصر اقتصادي جديد

في تطور دراماتيكي يعيد إلى الأذهان بدايات الحرب التجارية أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في مطلع عام 2025 عن فرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 25% على واردات صينية تصل قيمتها إلى نحو 300 مليار دولار.

ردّت بكين سريعاً، وفرضت رسوماً انتقامية على منتجات أمريكية بقيمة 60 مليار دولار. هذا التصعيد لم يكن مجرد إجراء اقتصادي، بل بدا كأنه إعلان عن الدخول في مواجهة مفتوحة تنذر بإعادة تشكيل الخريطة الاقتصادية للعالم.

وبحسب أحدث تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي (يونيو 2024)، فإن هذا التصعيد قد يُكلّف الاقتصاد العالمي ما يصل إلى 1.4 تريليون دولار بحلول نهاية 2025، أما النمو العالمي، الذي كان يعوَّل عليه لتعويض خسائر السنوات الماضية، فقد يتراجع بمعدل 1.8%، وهو انخفاض قد يبدو تقنياً على الورق، لكنه يحمل في طياته ملايين القصص الإنسانية، من العائلات التي تفقد مصدر رزقها، إلى الدول التي تُحرم من سلع أساسية لمجرد أنها تقف على هامش صراع لا شأن لها به.

الغذاء والدواء أول ضحايا الحرب

لا تتوقف تداعيات هذه الحرب الجمركية عند حدود الميزان التجاري، بل تمتد لتطول أبسط الحقوق الإنسانية في الغذاء والصحة. منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) كشفت في تقرير لها أن مؤشر أسعار الغذاء العالمي ارتفع بنسبة 15% خلال النصف الأول من عام 2024، مع توقعات بزيادة إضافية تراوح بين 10-12% إذا استمرت الإجراءات الحمائية بين الولايات المتحدة والصين، وقد لا يكون هذا الرقم كبيراً في عيون مراكز القرار في واشنطن وبكين، لكنه كارثي في مدن مثل دكا، كابول، أو الخرطوم، حيث تشكّل أسعار الأرز والقمح الحدود الفاصلة بين البقاء والمجاعة.

أما في القطاع الصحي، فالصورة أكثر قتامة، منظمة الصحة العالمية حذّرت من نقص حاد في الأدوية الأساسية في 67 دولة نامية، نتيجة اضطرابات سلاسل التوريد العالمية المرتبطة بالحرب التجارية والأكثر مأساوية أن هذا النقص لا يشمل فقط أدوية الأمراض المزمنة، بل يمتد إلى لقاحات الأطفال والمضادات الحيوية، ما يعني أن الحروب الاقتصادية باتت تهدد الأرواح بشكل مباشر، لا عبر الأسلحة بل عبر غياب الدواء.

الوظائف في مهبّ العاصفة

من جانب آخر، يشهد سوق العمل العالمي حالة من النزف الصامت. تقارير منظمة العمل الدولية تشير إلى أن أكثر من 25 مليون وظيفة فُقدت خلال عام 2024 في القطاعات المرتبطة بالتجارة الدولية، خاصة في الدول النامية التي تعتمد على التصدير كركيزة اقتصادية. دول مثل فيتنام، المكسيك، وبنغلاديش، شهدت إغلاق آلاف المصانع الصغيرة التي لم تعد قادرة على تحمّل تكاليف الإنتاج أو المنافسة في ظل الرسوم الجديدة، ما يعني أن ملايين العائلات فقدت دخلها الوحيد.

اللافت أن هذه الخسائر لا تتوزع بشكل عادل. فبينما تملك الدول الكبرى آليات امتصاص الصدمات، تجد الدول الفقيرة نفسها عارية في وجه العاصفة. وهذا يطرح تساؤلاً أخلاقياً عميقاً: كيف يمكن لعالم يدّعي حماية حقوق الإنسان أن يتجاهل الكوارث التي تسببها سياسات اقتصادية عابرة للحدود؟

انهيار النظام التجاري العالمي.. صمت الحَكَم

في قلب هذه الأزمة، تبدو منظمة التجارة العالمية كقاضٍ منزوع الصلاحية، فمع تصاعد الإجراءات الأحادية، ورفض الدول الكبرى الامتثال لأحكام المنظمة، تآكلت الثقة في النظام التجاري المتعدد الأطراف. الولايات المتحدة استخدمت حق النقض ضد تعيين قضاة جدد في هيئة الاستئناف التابعة للمنظمة، ما شلّ قدرتها على فض النزاعات التجارية، في المقابل، تجاهلت الصين عدداً من القرارات التي لم تتماشَ مع مصالحها، ما أضعف فاعلية المنظمة وحوّلها إلى شاهد صامت على فوضى اقتصادية متصاعدة.

هذا الانهيار المؤسساتي لا يعني فقط فشل المنظمة، بل يشير إلى انهيار فكرة "القواعد المشتركة" التي قام عليها الاقتصاد العالمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ففي زمن الهيمنة والصراعات، لم تعد العدالة الاقتصادية سوى شعار يرفرف فوق قمة جبل من الأنقاض.

التحالفات الجديدة تعيد رسم المشهد

بعيداً عن مسرح الرسوم الجمركية، تتكشف معالم لعبة كبرى تدور في الخفاء، فالصين، التي طالما التزمت خطاباً دفاعياً في الحرب التجارية، بدأت تعيد التموضع، مستفيدة من علاقاتها المتنامية مع دول الجنوب العالمي، ووفقاً لبيانات وزارة التجارة الصينية، فقد ارتفعت الاستثمارات الصينية في إفريقيا وأمريكا اللاتينية بنسبة 40% في عام 2024، كجزء من جهود بناء نظام تجاري بديل، متكئ على مبادرة "الحزام والطريق".

في المقابل، لا تقف الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي، بل تحشد تحالفاتها عبر مبادرة "إطار الهند والمحيط الهادئ الاقتصادي"، محاوِلةً تطويق النفوذ الصيني وإعادة هيكلة سلاسل التوريد بعيداً عن بكين، وهذا الانقسام يعمّق حالة الاستقطاب، ويجعل من النظام الاقتصادي العالمي حلبةً لتصارع الأفيال، ف حين تسحق الشعوب الصغيرة تحت الأقدام.

المزارعون والفقراء ضحايا الصراع الصامت

من أكثر القطاعات تأثراً، يبرز القطاع الزراعي كأرض معركة اقتصادية وإنسانية في آنٍ معاً، فقد قامت الصين، رداً على الإجراءات الأمريكية، بتقليص مشترياتها من فول الصويا الأمريكي بنسبة 70%، ما تسبب في أزمة خانقة للمزارعين الأمريكيين الذين يعتمدون بشكل كبير على السوق الصينية، ولكن، مرة أخرى، لا تتوقف الأضرار عند حدود واشنطن أو آيوا، بل تصل إلى القاهرة، بيروت، وكاراتشي، حيث تعتمد دول كثيرة على استيراد الحبوب والزيوت بأسعار مستقرة.

برنامج الأغذية العالمي حذّر في تقرير حديث من أن 43 دولة تواجه حالياً أزمات غذاء حادة، مع توقعات بارتفاع العدد إلى 60 دولة إذا استمرت الحرب التجارية، وفي هذه الدول، لا تعني الحرب ارتفاع رسوم فقط، بل تعني غياب الخبز، واختفاء الحليب، وازدياد الطوابير أمام مراكز الإغاثة.

إعادة التفكير في النظام الاقتصادي العالمي

أمام هذا الواقع الكابوسي، تظهر الحاجة الملحة إلى إصلاح شامل للنظام التجاري العالمي، ليس المطلوب فقط وقف التصعيد الجمركي، بل إعادة كتابة القواعد من جديد، على أساس العدالة، الشمول، والإنصاف. الخبراء الاقتصاديون، ومنهم جوزيف ستيغليتز الحائز نوبل، يؤكدون أن الاستمرار في هذا النهج سيقود إلى "أزمة ذات أبعاد اجتماعية وسياسية غير مسبوقة"، خاصة مع تنامي النزعات القومية والانغلاق الاقتصادي.

في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة نهاية عام 2024، عبّر الأمين العام أنطونيو غوتيريش عن هذا الواقع بقوله: "لا يمكن أن يكون الازدهار حكراً على الأقوياء، في حين تدفع الشعوب الضعيفة الثمن. إذا لم نُصلح الاقتصاد العالمي ليخدم الجميع، فستكون الأزمات القادمة أشدّ وأنكى".

إعصار اقتصادي يهدد النظام العالمي 

حذر أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر، الدكتور صلاح الدين فهمي، من أن العالم يقف اليوم عند مفترق اقتصادي خطِر، سببه السياسات الحمائية التي تتبناها الولايات المتحدة، والتي تهدد بتفكيك أسس النظام التجاري العالمي وتقويض المؤسسات الاقتصادية التي حافظت على استقرار التجارة لعقود.

وقال فهمي في تصريحات لـ"جسور بوست" إن جذور الأزمة تعود إلى ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأولى، حين بدأت واشنطن بفرض تعريفات جمركية مشددة على وارداتها، وهذا النهج استمر حتى اليوم، ما أدى إلى خلق خلل بنيوي لا يستفيد منه إلا الاقتصاد الأمريكي، في حين تُجبر بقية الدول على التكيف أو مواجهة ركود متفاقم.

تصعيد اقتصادي أحادي

أوضح فهمي أن واشنطن سعت إلى تقليص عجزها التجاري من خلال رفع أسعار السلع الأجنبية، ما أدى إلى خفض الطلب المحلي على الواردات، ورغم أن ذلك أسهم في تحسين العجز ظاهريًا، فإن التحسن "مصطنع"، على حد وصفه، إذ لم يُبنَ على زيادة في الإنتاج أو التصدير.

وأشار إلى أن العجز مع الصين وحدها يبلغ نحو 300 مليار دولار سنويًا، ومع أوروبا 250 مليار دولار، ما دفع الولايات المتحدة إلى اتباع مسارات أحادية لا تراعي القواعد التجارية العالمية، وهو ما يفتح الباب لحرب تجارية شاملة.

ورأى فهمي أن هذه السياسات تهدد بنسف مرتكزات النظام الاقتصادي العالمي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، بدءًا من اتفاقية "الجات" عام 1947 وحتى تأسيس منظمة التجارة العالمية في 1995، وهذا النظام مكّن الدول النامية من الاندماج في الأسواق العالمية وتحقيق مكاسب اقتصادية ملموسة.

لكن ما تفعله واشنطن اليوم، وفقًا لفهمي، قد يعيد العالم إلى نموذج الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، حيث الركود والانكماش وارتفاع الديون وتعطل سلاسل التوريد.

هل حان وقت نظام عالمي جديد؟

أكد فهمي أن الثقة في قواعد التجارة الحرة تتراجع، وأن الحديث عن انهيار محتمل للنظام القائم لم يعد مجرد سيناريو نظري، وطرح تساؤلًا مصيريًا: هل نحتاج إلى نظام تجاري جديد؟ ليجيب بأن العالم بحاجة ماسة لإعادة هيكلة عادلة وشاملة، تضع حدًا للهيمنة الأمريكية وتمنح الدول الأخرى فرصًا متكافئة.

وأشار إلى أن الصين قادرة على التصدي، لكن لن يتحقق التوازن إلا عبر تكتلات دولية جديدة تدفع نحو التكامل في التجارة، والتكنولوجيا، والاستثمار.

ارتفاع أسعار وتهديد الاستقرار الاجتماعي

وفي السياق نفسه، حذر الدكتور رشاد عبده، رئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية، من التداعيات الاجتماعية والاقتصادية لسياسات الحمائية التجارية، مؤكدًا أنها تؤدي إلى حلقة مفرغة من التضخم والركود، وتنعكس مباشرة على ارتفاع أسعار السلع وتآكل دخول المواطنين.

وأوضح عبده في حديثه لـ"جسور بوست" أن الرسوم الجمركية المرتفعة تُحمّل المستهلك عبئًا إضافيًا، لأن الدخل النقدي يبقى ثابتًا، في حين تتآكل القدرة الشرائية، وأشار إلى أن الحكومات تلجأ أحيانًا إلى رفع الأجور كمسكنات، لكنها غالبًا ما تؤدي إلى تفاقم التضخم، ما يضعف الاستقرار الاقتصادي.

دورة الإنتاج تتعطل والبطالة تتفاقم

ولفت عبده إلى أن هذه السياسات لا تؤثر فقط في الأسعار، بل تضرب قلب دورة الإنتاج، فمع انخفاض الطلب، تقلص المصانع الإنتاج، وتسرّح العمال، ما يؤدي إلى ارتفاع البطالة وتدهور الأوضاع الاجتماعية، خاصة في الدول النامية التي تفتقر إلى شبكات حماية قوية.

ونبّه إلى أن هذه الأزمة ليست عابرة، بل تمثل تحولًا هيكليًا عميقًا في بنية الاقتصاد العالمي. وأشار إلى ازدواجية المعايير التي تنتهجها الدول الكبرى، إذ ترفض الحماية التجارية من الدول الصغيرة، بينما تطبقها على نطاق واسع لحماية مصالحها.

وفي ختام تصريحه، شدد عبده على أن الولايات المتحدة ذاتها قد تكون من بين أبرز المتضررين، إذا استمرت في هذا النهج. فالعالم يمر بتحولات جوهرية تهدد حقوق الشعوب في العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وتفرض الحاجة الماسّة إلى نظام تجاري أكثر توازنًا وشمولًا.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية