إرادة لا تُقاس بالإعاقة.. «أصحاب الهمم» في الإمارات نموذجٌ للإلهام والتمكين

إرادة لا تُقاس بالإعاقة.. «أصحاب الهمم» في الإمارات نموذجٌ للإلهام والتمكين
جمال البدواوي - بطل رياضي إماراتي من أصحاب الهمم

في قلب الإمارات، لا تُقاس الإعاقة بما يراه الآخرون، بل بما يُحققه الإنسان من إنجازات، ففي الإمارات، يُمنح أصحاب الهمم الفرصة ليكونوا جزءاً أساسياً في المجتمع، يسهمون في بناء مستقبله، ومن السياسات المُلهمة إلى المبادرات المجتمعية، تُجسد الإمارات إيمانها العميق بأن التمكين يبدأ من الإيمان بالقدرات لا بالإعاقات. 

ولا يُنظر إلى أصحاب الهمم على أنهم بحاجة إلى مساعدة، بل يُحتفى بهم كمصدر إلهام وقوة، يتركون بصماتهم في جميع مجالات الحياة، فها هم محمد، وجمال، وضاحي نماذج حية لشباب تحدّوا كل القيود التي فرضتها الإعاقة، ورفضوا أن تكون أحلامهم أقل من إمكانياتهم. 

في مجالات الأدب، والتمثيل، والرياضة، ترك كل منهم أثراً لا يُنسى، ليُثبتوا لنا جميعاً أن الحدود الحقيقية هي تلك التي نضعها لأنفسنا.

العجز دافع للتحليق

في لحظة واحدة تغيّر كل شيء.. حادث سير في عام 2012 وضع نهاية مفاجئة لحلم شاب إماراتي كان يعشق كرة القدم، ويعيش تفاصيلها في ملاعب نادي حتا، حين أفاق من الحادث، كان الجواب صادماً.. "لن تمشي مجدداً"، لكن جمال البدواوي لم يرَ في الكلمة نهاية، بل بداية جديدة.

"تجاوزتها بالعزيمة والإرادة"، هكذا يختصر جمال لـ"جسور بوست"، واحدة من أصعب لحظات حياته، حين وجد نفسه فجأة على كرسيّ متحرّك.. لكنه لم يستسلم للحزن، ولم يسمح للعجز أن يعرّف هويته، بحث عن طريق جديد، فوجد ضالته في الرياضة، ولكن هذه المرة من زاوية مختلفة، التحق بمنتخب الإمارات لكرة السلة على الكراسي المتحرّكة، ومن هناك بدأت رحلته في إعادة بناء الذات.

لم يكن التحدي سهلاً، لكنه كان واضحاً، قال جمال: "الوالد والوالدة والأهل هم من وقفوا إلى جواري عندما ظن الجميع أنني لن أستطيع"، وبتلك القوة التي يستمدها من أسرته ومن إيمانه بالله، قرر أن يخوض المغامرة كاملة دون أن يلتفت للخوف أو الشك. لم يفكر يومًا في التراجع أو اليأس، بل آمن أن لكل شيء حكمة، ولكل اختبار سبب، "آمنت بقضاء الله وقدره.. وخضت الأمور كلها بشكل إيجابي وعشت حياتي طبيعي"، يقولها بثقة تنبع من قلب واجه الكثير ولم ينكسر.

أراد أن يطير رغم أن جناحيه كانا من حديد، فدخل عالم الريشة الطائرة، الرياضة التي لا يتوقعها أحد ممن جلسوا على الكراسي المتحركة، ولأنه لم يعرف المستحيل، كانت المكافأة أكثر من مستحقة، في أبريل 2025، وبين 57 لاعباً ولاعبة من 20 دولة، حقق جمال إنجازاً تاريخياً، حيث حقق أول ميدالية دولية في تاريخ مشاركات الإمارات بهذه الرياضة، وهي برونزية لامعة من بطولة التشيك، حملت معها معنى أعمق من مجرد الفوز، حيث قال "لم يكن أحد يتوقع أنني سأحقق ميدالية، وحققت أول ميدالية برونزية لدولة الإمارات في لعبة الريشة الطائرة".

يتوقف جمال للحظة حين تسأله كيف يصف رحلته في كلمة، ثم يبتسم، قائلا: "التحدي هو عزمنا.. كلمة تختصر كل شيء.. الألم، الإصرار، والعودة من نقطة الصفر إلى منصة التتويج".

جمال - بطل رياضي إماراتي

تحوّل مجتمعي أوسع

لم يكن هذا التحول شخصياً فقط، بل تزامن مع تحوّل مجتمعي أوسع، جمال يعبّر عن امتنانه للقيادة التي غيّرت نظرة المجتمع نحو أصحاب الهمم: "اليوم نظرة الناس كلها تغيرت بفضل شيوخنا وقادتنا الكريمة عندما صدر قرار تغيير مسمى ذوي الإعاقة إلى أصحاب الهمم".. التغيير لم يكن لغويًا فقط، بل نفسياً، واجتماعياً، وأتاح له ولغيره فرصاً متساوية في ساحات الرياضة والحياة.

وحين يُسأل عمّا يقوله لنفسه إذا سمع كلمة "مستحيل"، يجيب ببساطة: "بالعزيمة والإرادة.. ليس هناك مستحيل"، هذه الجملة، التي قد تبدو مجرد شعاراً للبعض، هي حقيقة عاشها كل يوم، في التمارين، في السفر، في كل محاولة نهوض من السقوط.

وفي لحظات التحدي، حين تشتد الحياة، يقول جمال إن قوته تأتي من الله أولاً، ثم من أهله، لا يرى نفسه ضحية لحادث، بل شاهداً على معجزة، حتى لو عاد به الزمن، ربما لم يكن ليختار نفس الطريق، لكنه يعترف: "الإعاقة سَخّرت فيني قوة الصبر والتحدي والإرادة"، ما زال حلمه لم يكتمل بعد.

"أحلم أن أرفع علم بلادي في كل المحافل الدولية"، يقولها كمن يمهّد لمرحلة قادمة، يعلم أنها ممكنة، ويعمل من أجلها بصبر المقاتل وفرح المؤمن.

دعم وتمكين أصحاب الهمم

تُعتبر الإمارات نموذجاً رائداً في دعم وتمكين أصحاب الهمم، حيث يبلغ عددهم في الدولة وفقًا للإحصاءات الرسمية الصادرة عن وزارة تنمية المجتمع، حتى نهاية عام 2021 ما يقارب 25,590 شخصًا، منهم نحو 14,262 مواطنًا إماراتياً، وهؤلاء الأفراد لا يُنظر إليهم على أنهم مجرد فئة تحتاج إلى دعم، بل كمساهمين أساسيين في تطوير المجتمع الإماراتي، حيث تتبنى الدولة سياسات شاملة تهدف إلى ضمان حقوقهم في جميع المجالات، بدءاً من التعليم الذي يتيح لهم فرصاً متكافئة في المدارس والجامعات، وصولاً إلى سوق العمل حيث يتم توفير بيئات عمل شاملة تتناسب مع احتياجاتهم. 

وتحرص الإمارات على توفير خدمات صحية متكاملة، وتسهيلات في التنقل، بما في ذلك تخصيص بطاقات خاصة توفر لهم العديد من الامتيازات، وتلك الجهود تأتي ضمن رؤية الإمارات لبناء مجتمع يتسم بالاحتواء والشمولية، حيث يتم تمكين جميع أفراده، مهما كانت قدراتهم، للمشاركة الفعّالة في مسيرة التنمية والازدهار الوطني.

لا يُولد الأبطال بلا معاناة

في مجتمعٍ يتسارع نحو التقدّم، يبقى التحدّي الحقيقي هو احتواء الجميع، لا سيما أولئك الذين يُعرفون بـ"أصحاب الهمم".. من بين هؤلاء يبرز اسم محمد الغفلي، المواطن الإماراتي الذي حوّل الإعاقة إلى منبر تأثير، والحاجز إلى بوابة إلهام، هو ليس مجرد موظف حكومي، بل هو شخصية متعدّدة الأدوار، صانع محتوى اجتماعي وثقافي، كاتب أدبي، ممثل مسرحي، ومدرّب معتمد في التعامل مع أصحاب الهمم، يحمل شهادة الماجستير من كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية، لكن أهم ما يحمله هو إيمانه بأن الحياة منحته دوراً أكبر من مجرد وظيفة، بل رسالة.

"لم أفكر يوماً كيف ستكون حياتي لو لم أكن من أصحاب الهمم"، هكذا يبدأ محمد حديثه، مؤمناً بأن ما يعتبره البعض نقصاً كان بالنسبة له نعمة وهبة ربانية، صنعت منه هذا الإنسان القوي المتمسك بالأمل، والمبادر في التغيير. 

المواطن الإماراتي محمد الغفلي

يرى الغفلي في إعاقته حافزاً، لا عائقاً، ويعتبرها السبب في اكتشاف طاقاته ومواهبه، وفي فخره بمنجزاته، بل وفخر كل من حوله به.

واحدة من اللحظات الإنسانية العميقة التي يرويها محمد بتأثر، هي عندما تأخر الحمل بعد زواجه، الطبيب الأول كان قاسياً في كلماته، وأخبره بشكل مباشر أنه لن يُرزق بأطفال، مطالبًا إياه بالتركيز على أشياء أخرى في حياته، لكن محمد لم يرضخ لليأس، وبدأ مع زوجته رحلة علاج امتدت لسنتين، قادها طبيب يوناني مؤمن بإنسانيته أكثر من طبيبه الأول، وعندما نجحت الخطة العلاجية ورُزق بابنه "راشد"، بكى الطبيب فرحًا، قائلاً: "الآن أشعر أني أنجزت شيئًا حقيقيًا"، لحظةٌ غيرت محمد إلى الأبد، وزادت يقينه بأن الصبر يُثمر، والإيمان لا يخيب.

في رؤيته لمجتمع أصحاب الهمم، يقول محمد: "نحتاج إلى حضور إعلامي أوسع، نحتاج إلى دراما ومسرح يروي قضايانا بصدق"، ويرى في الإمارات نموذجاً عالمياً في الشمولية، إذ إن الدولة لم تنظر إلى أصحاب الهمم كعبء، بل كمكوّن رئيسي في نسيجها الوطني، منذ نشأتها وحتى اليوم. 

ويضيف: "الإمارات أثرت فعلاً، وصار كثير من الدول يتبنى مصطلح أصحاب الهمم، لكننا نحتاج لتوثيق التجربة وتوسيع أثرها دولياً".

هيئة وطنية لأصحاب الهمم

محمد يحلم بتأسيس هيئة وطنية عليا تُعنى بشؤون أصحاب الهمم، ويطالب بتعيينهم في المجالس الوطنية، "نحن لا نطلب شفقة، بل نُريد مشاركة حقيقية"، يقول بثقة، فهو لا يخشى شيئاً، ويؤمن أن كل ما يمر به الإنسان هو اختبار من الله، وفي داخله يعيش تفاؤل كبير، يتغذى من بيئة تحتضن الإنسان، ويؤمن أن أصحاب الهمم في الإمارات اقتربوا من اليوم الذي تُزال فيه كل الحواجز، فلا تبقى تسميات، بل مساواة حقيقية في كل الميادين.

تتعدد المبادرات التي أطلقتها الإمارات لدعم وتمكين أصحاب الهمم، بما يعكس التزام الدولة بتوفير بيئة شاملة تتيح لهم المشاركة الفعّالة في المجتمع. 

ومن أبرز هذه المبادرات "الاستراتيجية الوطنية لتمكين أصحاب الهمم 2020"، والتي تهدف إلى تعزيز دمجهم في كل القطاعات مثل التعليم والعمل والمشاركة الاجتماعية.. وتشمل هذه الاستراتيجية توفير برامج تعليمية وتأهيلية متخصصة، إلى جانب تحسين إمكانية الوصول إلى المرافق العامة والمواصلات. 

وتمنح الدولة أصحاب الهمم فرصًا للتفوق والابتكار من خلال "جائزة الإمارات للتفوق والابتكار لأصحاب الهمم"، التي تكرم الأشخاص الذين أبدعوا في مجالات مثل الفن، والرياضة، والعلوم، وهذه المبادرات تعكس رؤية الإمارات في بناء مجتمعٍ شامل ومتساوٍ، يعترف بقدرات الجميع ويسعى لإتاحة الفرص لهم لتحقيق إمكاناتهم.

القلب الكبير يهزم الإعاقة

في مدينة دبي، وبإحدى مدارسها الخاصة تحديداً في منطقة واحة السيليكون، يخطو الشاب الإماراتي ضاحي ناصر العور (21 عاماً) خطواته الأخيرة نحو التخرج من الصف الثالث عشر، لكن ما يميّز هذا التخرج ليس فقط الشهادة أو ارتداء الـ"روب" الخاص به، بل قصة ملهمة لطفل وُلد بمتلازمة داون، وشق طريقه نحو النجاح بثبات، بدعم عائلي كبير، وباحتضان من دولة جعلت من تمكين أصحاب الهمم جزءًا أصيلًا من رؤيتها للمستقبل.

ضاحي، الذي وُلد في 14 يونيو 2004، لم يكن طريقه مفروشاً بالورود، وكانت الصدمة الأولى حين اكتشفت والدته، وضحه المطوع، إصابته بالمتلازمة بعد الولادة مباشرة، لكن الأم الإماراتية اختارت المواجهة، لا الانكسار. 

الشاب الإماراتي ضاحي ناصر العور

تقول والدته لـ"جسور بوست": "رفضت البكاء أو الشفقة، وقررت أنا ووالده أن نكون الحصن الحامي لضاحي، وأن نحارب من أجل مستقبله، لم يكن الأمر سهلاً في البداية، لكن كنت دائماً أؤمن بأن ضاحي يمكنه أن يكون شخصاً عادياً في هذا المجتمع، ونحن فقط بحاجة إلى توفير البيئة المناسبة له".

بعد اكتشاف إصابته، بدأت العائلة رحلة العلاج المبكر والتدخل الطبيعي في مركز "التدخل المبكر" في الشارقة، وهو مركز يتبع منهجاً علمياً متقدماً يساعد في التأهيل المبكر لأصحاب الهمم. 

تقول والدته: "لقد كانت رحلة طويلة ومليئة بالتحديات، لكني كنت دائماً أقول لزوجي: إنه فقط يحتاج إلى الوقت والفرص ليتعلم ويظهر قدراته، لم أسمح أبداً لوجود المتلازمة بأن يحدد مصير ضاحي، بل كان لدينا أمل كبير في قدرته على تجاوز أي عقبة".

التعليم في مدارس خاصة

في بداية رحلة ضاحي التعليمية، لم يكن الوضع سهلاً، كان في البداية يتلقى تعليماً بسيطاً في مدارس خاصة توفر خدمات تتناسب مع حالته الصحية، وعلى الرغم من التحديات التي واجهتها الأسرة في البداية بسبب قلة الوعي المجتمعي بقدرات أصحاب الهمم، فإن الدعم الحكومي قدم لها الدعم الذي جعل الأمور أفضل. 

وتضيف: “رفضنا أن نتقبل فكرة أن ضاحي لا يستطيع أن يحقق شيئاً في حياته.. كان من المهم بالنسبة لنا أن نعلمه ونقدم له أفضل فرص في الحياة، وفي كل مرحلة، كنا نبحث عن الفرص التي تتناسب مع إمكانياته، حتى وجدنا المدارس التي كانت على استعداد لتوفير التعليم المناسب له”.

في دولة الإمارات، تم إعطاء الأولوية منذ سنوات عديدة لدعم أصحاب الهمم، وذلك من خلال سياسات واضحة تُعنى بتحقيق دمجهم في المجتمع، واليوم، وبفضل هذه السياسات، أصبح ضاحي قادراً على تحقيق الكثير من أحلامه. فهو لا يتوقف عند كونه طالباً متفوقاً فقط، بل يطمح للعمل في القطاع المهني بمجرد تخرجه. 

مراكز للتدريب والتأهيل

يتلقى ضاحي تدريباً مهنياً منتظماً في أحد مراكز التدريب والتأهيل، والذي يقدم له فرصاً للتطوير، حيث يتعلم كيفية استخدام التكنولوجيا في مهنته المستقبلية، سواء في الرسم أو في مجال الطهي أو الرياضة، وهي مجالات يحبها ويشعر أنها تناسبه.

وتضيف والدته: "ضاحي حساس وذكي، لديه مشاعر صادقة، وحب للحياة، لكنه بحاجة لفرص حقيقية، ولتغيير نظرة البعض في المجتمع"، بينما يشيد ضاحي بدور الحكومة الإماراتية في تقديم الدعم له ولعائلته، "الدولة وفرت لي كل شيء، التعليم، التدريب، وحتى الفرص للاندماج في المجتمع، وهذه العوامل جعلتني أرى نفسي كشخص عادي، ولدي قدرة على النجاح".

تعد قصة ضاحي مثالاً حياً على ما يمكن أن تحققه دولة الإمارات لأصحاب الهمم من خلال دعمها المستمر، وجهودها الكبيرة في مجال تمكين هذه الفئة، ليس فقط على مستوى التعليم ولكن في مختلف جوانب الحياة اليومية، ورغم التحديات التي قد تواجه ضاحي في المستقبل فإنه مفعم بالأمل والطموح.

وفي الختام، أكدت والدة ضاحي أن أكبر طموحاته هي أن يُصبح شخصاً مستقلاً وقادراً على العمل والمساهمة في المجتمع الإماراتي، الذي لطالما كان حاضناً وداعماً له ولغيره من أصحاب الهمم، وهو اليوم يخطو بثقة نحو المستقبل، حاملاً معه حلماً لا يتوقف عند أي حدود، بدعم من عائلته، ومن وطنه الذي يضع تمكين جميع أبنائه في قلب أولوياته.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية