من الاحتجاجات إلى المحاكم.. كيف يلتهم القمع الإيراني حقوق الإنسان؟
من الاحتجاجات إلى المحاكم.. كيف يلتهم القمع الإيراني حقوق الإنسان؟
في خضم التوترات الجيوسياسية التي تشعل المنطقة، يبرز ملف حقوق الإنسان في إيران قضية مؤلمة ومعقدة، تثير قلقًا دوليًا متزايدًا وتضع كرامة الإنسان على المحك، في الآونة الأخيرة، ومع تصاعد التوترات إقليميًا، يبدو أن يد القمع في الداخل الإيراني تشتد، مستخدمةً أدوات قاسية، على رأسها عقوبة الإعدام، لقمع أي صوت مخالف أو اشتباه في "تعاون" مع أطراف خارجية.
هذا القلق لم يعد يقتصر على المنظمات الحقوقية، بل وصل إلى أعلى المستويات الدبلوماسية، فقد انتقد وزيرا الدفاع والخارجية الأسترالي والبريطاني، في بيان مشترك صدر من سيدني أخيراً، "تزايد استخدام إيران عقوبة الإعدام والقمع المستمر للنساء والفتيات والمدافعات عن حقوق الإنسان".
هذه الإدانة الدولية لا تعكس فقط قلقًا دبلوماسيًا، بل تسلط الضوء على واقع مؤلم يعيشه الملايين داخل إيران، فالبيان أدان أيضًا "احتجاز إيران الجائر للمواطنين الأجانب"، وهو ما يضيف بعدًا آخر لانتهاكات حقوق الإنسان التي تتسع لتشمل الأبرياء العالقين في صراعات سياسية معقدة.
وتتصدر عقوبة الإعدام قائمة المخاوف الحقوقية المتعلقة بإيران، فبحسب البيان المشترك لأستراليا والمملكة المتحدة، هناك "تصاعد في استخدام عقوبة الإعدام كأداة سياسية خلال النزاع الأخير مع إسرائيل الذي استمر 12 يومًا"، وهذا يعني أن العدالة تُستخدم قناعاً لتصفية حسابات سياسية أو قمع المعارضة، وليس أداة لتحقيق الإنصاف.
2000 معتقل ومصير مجهول
تأتي الأرقام لترسم صورة أكثر قتامة. فقد أعلن رئيس السلطة القضائية الإيرانية، غلام حسين محسني إيجئي، اعتقال حوالي 2000 شخص خلال وبعد الحرب الأخيرة مع إسرائيل، وما يزيد من خطورة الموقف هو ما صرح به إيجئي نفسه للتلفزيون الرسمي: "يواجه بعض هؤلاء الأفراد عقوبات شديدة، بما في ذلك عقوبة الإعدام، في حين قد يُحكم على آخرين بأحكام أخف".
وبحسب مراقبين، تثير هذه التصريحات تساؤلات جدية حول شفافية الإجراءات القضائية، وحق المتهمين في محاكمة عادلة، خاصة عندما تكون التهمة فضفاضة مثل "التعاون مع إسرائيل".
المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في إيران، ماي ساتو، حثت طهران الشهر الماضي على إنهاء ما وصفته بـ"حملة قمع ما بعد وقف إطلاق النار"، هذا النداء الأممي يؤكد أن المجتمع الدولي يراقب بقلق بالغ هذه التطورات، ويدعو إيران إلى الالتزام بالتزاماتها الدولية في مجال حقوق الإنسان.
حقوق الإنسان تحت الحصار
تتجاوز انتهاكات حقوق الإنسان في إيران استخدام عقوبة الإعدام لتشمل قمعًا منهجيًا وفاضحًا لفئات أساسية من المجتمع، على رأسها النساء والفتيات والمدافعات عن حقوق الإنسان.
طالما كانت المرأة الإيرانية في طليعة النضال من أجل الحقوق والحريات، فمنذ عقود، واجهت النساء قيودًا صارمة على حرياتهن الشخصية والاجتماعية، وتكثفت هذه القيود في الآونة الأخيرة، خاصة بعد انتفاضة "المرأة، الحياة، الحرية" التي شهدتها البلاد، يُشير البيان المشترك بين أستراليا والمملكة المتحدة إلى "القمع المستمر للنساء والفتيات"، والذي يتجلى في فرض قواعد صارمة على اللباس، وتضييق الخناق على مشاركتهن في الحياة العامة، واستهداف الناشطات الحقوقيات اللواتي يدافعن عن حقوقهن وحقوق مجتمعاتهن.
لا يقتصر القمع على النساء فقط، بل يمتد ليشمل المدافعين عن حقوق الإنسان بشكل عام. فغالبًا ما يواجه النشطاء، المحامون، الصحفيون، والفنانون الذين ينتقدون السياسات الحكومية أو يدافعون عن حقوق الفئات المهمشة، الاعتقال التعسفي، والاحتجاز لفترات طويلة، والمحاكمات غير العادلة، والأحكام القاسية، بما في ذلك عقوبة الإعدام، حيث تُجبر العديد من الأصوات الحرة على الصمت أو النفي، ما يخلق بيئة من الخوف وتُقوض أي محاولة لتحقيق إصلاحات حقيقية في مجال حقوق الإنسان.
تُعد حرية التعبير والتجمع من الحقوق الأساسية التي تُنتهك بشكل منهجي في إيران حيث تُفرض رقابة صارمة على الإنترنت ووسائل الإعلام التقليدية، وتُحظر التجمعات السلمية، ويتم قمع المتظاهرين بالقوة، وهذه الممارسات تُخنق أي مساحة للمعارضة أو التعبير عن الرأي المختلف، ما يسهم في تفاقم حالة الاحتقان الداخلي.
مسار معقد لحقوق الإنسان
تاريخ حقوق الإنسان في إيران معقد ومتشابك مع التطورات السياسية والاجتماعية في البلاد، وقبل الثورة الإسلامية عام 1979، كانت إيران تحت حكم نظام ملكي يُعرف بانتهاكاته الحقوقية، لا سيما من خلال الشرطة السرية (السافاك) وقمع المعارضة.
بعد الثورة الإسلامية (1979)
تشكيل الجمهورية الإسلامية: بعد الإطاحة بالشاه، تأسست الجمهورية الإيرانية على أساس مبادئ إسلامية، ومع ذلك، سرعان ما بدأت تظهر مخاوف بشأن حقوق الإنسان، خاصة فيما يتعلق بالحريات المدنية والسياسية.
حروب واضطرابات داخلية: شهدت إيران حربًا طويلة مع العراق (1980-1988) وفترات من الاضطراب الداخلي، ما أثر في الحريات وقمع المعارضة بذريعة الأمن القومي.
قوانين الشريعة: تم تطبيق قوانين تستند إلى تفسير معين للشريعة الإسلامية، ما أثر في حقوق المرأة والأقليات الدينية، وفرض قيودًا على الحريات الفردية.
عقوبة الإعدام: ظلت عقوبة الإعدام جزءًا لا يتجزأ من النظام القضائي، وغالبًا ما تُطبق في قضايا المخدرات، الجرائم السياسية، وجرائم "الفساد في الأرض" أو "محاربة الله"، والتي تُستخدم أحيانًا لتبرير إعدام المعارضين.
الاحتجاجات الشعبية: شهدت إيران موجات متكررة من الاحتجاجات الشعبية على مدار العقود الماضية (مثل الاحتجاجات الخضراء عام 2009، واحتجاجات عام 2017-2018، وانتفاضة 2022 بعد وفاة مهسا أميني)، والتي قوبلت بقمع شديد واعتقالات جماعية، غالبًا ما تركز هذه الاحتجاجات على قضايا اقتصادية وسياسية واجتماعية، بما في ذلك الحريات وحقوق المرأة.
الوضع الراهن
تُصدر منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش تقارير سنوية تُفصل انتهاكات حقوق الإنسان في إيران، بما في ذلك الاستخدام المفرط للقوة ضد المتظاهرين، والتعذيب، والاحتجاز التعسفي، والمحاكمات غير العادلة، وسوء معاملة الأقليات العرقية والدينية.
وعبر المفوض السامي لحقوق الإنسان والمقررة الخاصة المعنية بحقوق الإنسان في إيران عن قلقهم المستمر بشأن الوضع. تُشير التقارير الأممية إلى الزيادة المقلقة في عمليات الإعدام، واستمرار القمع ضد حرية التعبير والتجمع.
وتُشير المنظمات الحقوقية إلى أن إيران تُعد من الدول الرائدة عالميًا في عدد حالات الإعدام سنويًا، وغالبًا ما تُنفذ هذه الإعدامات بعد محاكمات لا تفي بالمعايير الدولية للمحاكمة العادلة، (على سبيل المثال، أشارت تقارير في عام 2023 إلى أن إيران نفذت أكثر من 800 عملية إعدام، وهو رقم يُعد الأعلى منذ سنوات).