فضل الصحافة علينا
فضل الصحافة علينا
يُروى أن العلامة محمد ناصر الدين الألباني قد أُعجب بعلم الحديث أيما إعجاب لما قرأه في «مجلة المنار» لمحمد رشيد رضا، الأمر الذي غيّر مساره المهني من «مُصلّح ساعات» إلى مُحَدِّث لا يُشقُ له غبار. حاول والده صرفه عن «صنعة المفلسين» (الكتابة والقراءة) - كما قال - لكن ما كان يُنشَر بأسلوب صحافي جذاب قد زاد ولعه بعلم الحديث.
عندما نلتفت إلى الوراء، نجد أن «الصحافة» كانت الجسر الذي عبر عليه أعلام الأمة في طريقهم نحو المجد والشهرة، والنافذة التي أطلت منها ألمع عقول المبدعين.
كان مجرد «النشر» في الصحف «شهادة تقدير» تُقَدِّم للمجتمع خيرة شعرائه وأدبائه وكتابه ومفكريه. وقد اعترف الشاعر والأديب والوزير والسفير غازي القصيبي بأن قصيدته قوبلت بالتجاهل، أكثر من مرة، في صباه، فاضطر للاستعانة بأخيه الأكبر باعتباره «خبيراً بالنفس البشرية»، حسب تعبيره، ليقترح عليه تفخيم منصبه وعمره، فنُشرت ونالت الاستحسان. وقد عرّفتنا الصحف على القصيبي وغيره.
الصحافة المهنية مرآة الوعي لأنها نبض الشارع وهموم الناس. ولم تقتصر فوائد الصحافة على الإعلام فحسب، بل امتدت أدواتها، مثل «الهرم المقلوب» ومهارة التبسيط والاختصار، لتثري مجالات عدة كالتعليم، والإدارة، والتسويق، وأساليب العرض عموماً.
الصحافة المسؤولة تصنع التغيير وتغذي العقول وتحمي الحريات وتعزز الشفافية وتحفظ ذاكرة الأمم. «الصحافة الحرة» هي التي تقول لمتخذ القرار إن هناك امتعاضاً أو غلياناً شعبياً ينبغي احتواؤه. وهي التي تخبره بأنه يسير نحو طريق مسدود!
الصحافة المهنية تقدم لنا المبادرات الكبرى. وقد ذكر الأمير طلال بن عبد العزيز آل سعود، أنه تحمّس لفكرة إنشاء الجامعة العربية المفتوحة، الأولى من نوعها، بعد تقرير قرأه في «الشرق الأوسط» اللندنية عن الحاجة الماسة لهذا النوع من التعليم.
عندما تتجول في متحف الصحافة الأميركي (نيوزيم)، تشعر بالفخر بأنك كنت يوماً ما صحافياً، ففيه عروض شائقة لكل ما نشرته الصحافة الأميركية بطريقة مبتكرة وجاذبة لمختلف الأعمار. وعند خروجك، يمكنك أن تأخذ نسخاً من صحف أعيد طبعها، فيها مانشيتات تاريخية مثل «هبوط الإنسان على سطح القمر» وفضيحة «واترغيت». وما زلت أحتفظ بوجبات رواد الفضاء (البيتزا والستيك المجففة) وغيرها من منتجات وذكريات لأحداث مهمة، فتدرك أن الصحافة لم تكتفِ بالتغطية، بل أسهمت في صناعة الحدث، ومنحه الزخم اللازم للاستمرار.
وعلى النقيض هناك «صحافة صفراء» مرئية ومسموعة ومطبوعة، حاولت إحباط أفضل الكوادر والمشاريع الرائدة، إما لتعارضها مع مصالح الملاك، أو بسبب تسرع صحافي همّه تحقيق الشهرة على حساب تقديم مادة تحترم القارئ.
ما نشاهده الآن من صوت وصورة هو عمل صحافي في جوهره، فالصحافة لا تموت... بل تتجدد منصاتها.
نقلاً عن الشرق الأوسط