الحزب الثالث في أمريكا وتبعاته المستحيلة

الحزب الثالث في أمريكا وتبعاته المستحيلة

في خضم الجدل ذي الطابع الشخصي المُغلف بتباين مصالح، بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب وحليفه السابق الملياردير إيلون ماسك، دعا الأخير في الخامس من يونيو (حزيران) الحالي، عبر منصة «إكس» التي يملكها، إلى ضرورة بناء حزب ثالث يمثل ما أسماه مصالح الطبقة الوسطى، وأظهرت النتيجة الأوّلية تأييد ما يقرب من 81 في المائة من مجموع المستطلعة آراؤهم، وهم 5 ملايين و631 ألف مشارك، لهذه الفكرة بعد ساعات قليلة من إطلاق الدعوة.

ومع ذلك فمن العسير تقبل تلك النتيجة باعتبارها نقلة في التفكير الجماعي الأميركي بشأن طبيعة النظام السياسي ذي الحزبين، الذي تعيش في ظله الولايات المتحدة طيلة 150 عاماً مضت، فعدد مَن شارك في الاستطلاع الافتراضي قليل جداً مقارنة بعدد الأميركيين، ولا يتجاوزون نسبة 17 في الألف من المائة، أي 17 أميركياً مقابل كل 100 ألف، ما يجعل الاستنتاج بتأييد شريحة معقولة من الأميركيين لإنشاء أو لظهور حزب ثالث ينتشر في كل الولايات أو غالبيتها العظمى على الأقل، ويمثل مصالح الطبقة الوسطى، وهم الغالبية في المجتمع، أمراً متسرعاً بعض الشيء.

بداية، فدعوة ماسك ليست جديدة، وهناك بالفعل أحزاب أخرى منها الخضر والأحرار «لبريتاريان» والدستور، توصف بأنها ثالثة غير الحزبين «الديمقراطي» و«الجمهوري» الكبيريْن المهيمنَيْن على الحياة السياسية، والغالبية العظمى من تلك الأحزاب الصغيرة تُعد تجمعات سياسية محلية، حيث تظهر في ولاية أو أكثر، ولكن دون أن تصل إلى حد الانتشار في الولايات الأميركية كلها. وبعضها يدعو إلى انفصال ولايات كبرى عن النظام الفيدرالي، وغالبيتها العظمى بلا برامج حزبية تعكس مصالح وتطلعات قطاع كبير من الأميركيين، تتيح لها أن تكون منافساً جاداً لنظام الثنائية الحزبية المسيطر.

وكانت هناك محاولة في يوليو (تموز) 2022، لإنشاء حزب قوي بمسمى «إلى الأمام» برئاسة المرشح الديمقراطي السابق للرئاسة أندرو يانغ، وكريستين تود ويتمان الحاكمة الجمهورية السابقة لولاية نيوجيرسي. وتُبرز دراسات رصينة حول مستقبل النظام السياسي الأميركي، أن التفاؤل بقرب ظهور حزب ثالث ذي منحى فيدرالي هو تفاؤل غير واقعي، فالمسألة ليست سيطرة حزبَيْن كبيريْن وحسب، بل ترتبط أساساً بالدستور والنظام الانتخابي، وسيادة مبدأ «الغالب يحصد الكل»، ودور المندوبين الحزبيين في اختيار الرئيس عبر ما يعرف «بالكلية/ المجمع الانتخابي»، الذي يحدد الفائز بغض النظر أحياناً عن عدد الأصوات الشعبية التي يتحصل عليها كل مرشح. كما تلعب وسائل الإعلام دوراً في ترسيخ الثنائية الحزبية من خلال قواعد المناظرات في الانتخابات الرئاسية، حيث تمتنع عن استضافة أي مرشح لغير الحزبين الكبيرين. ومن ثمَّ فإن وجود حزب ثالث أياً كانت نسبة التصويت الشعبي التي حصل عليها مرشحه في الانتخابات الرئاسية، لن تتوافر لديه فرصة الفوز؛ فالقرار بيد المندوبين وليس الناخبين.

ومن بين العوائق التي يواجهها مرشحو الأحزاب الثالثة، المواقف الراسخة لقوى الضغط والأغنياء المانحين للحملة الانتخابية، لا سيما الأغنياء جداً من أمثال الملياردير ماسك، وهم كُثر ولهم أولويات لحماية مصالحهم، وأن يوجه التمويل لمن يُتصور أنه سيحمي تلك المصالح، أياً كانت توجهاته في القضايا الكبرى التي تهم أغلبية الشعب مثل الصحة والتعليم والوظائف والبيئة.

السؤال المهم في حالة ماسك، هل يمهد لإنشاء حزب فيدرالي يتحمل تكلفة بنائه وصياغة برنامج يحقق مصالح مَن وصفهم بالطبقة الوسطى الأميركية، التي يتجاهل الحزبان المسيطران مصالحها العامة؟ والمؤكد أن الأمر لا يتوقف عند حد توفير الملايين أو ربما المليارات من الدولارات التي يتطلبها إنشاء حزب فيدرالي، كما أنه أبعد من مجرد حشد شعبي عبر منصة «إكس» التي يسيطر عليها ماسك نفسه، فتغيير القوانين في الولايات المتعلقة بتنظيم الانتخابات شرط ضروري، يتبعه شرط آخر أكثر أهمية يتعلق بتغيير قانون الانتخابات الرئاسية بحيث يعتمد التمثيل النسبي، والأصوات الشعبية، وليست أصوات المندوبين في المجمع الانتخابي، وهو الأمر المستحيل حدوثه، فالحزبان «الجمهوري» و«الديمقراطي» رغم اختلاف أولوياتهما السياسية والاجتماعية، لن يسمحا بتغيير أي قانون، يسمح بولادة أحزاب جديدة تنهي ما يتمتعان به من سطوة سياسية وبرلمانية.

الشيء المؤكد في حالة ماسك والأكثر شهرة به أنه شخص متقلب في المواقف السياسية، ما بين ليبرالية اقتصادية، ولا مبالاة بحقوق العمال والموظفين الفيدراليين، وثيق الصلة بمؤسسات الدولة الأميركية العميقة وغير العميقة، ولشركاته مصالح كبرى مع وكالات ووزارات مهمة، مثل «ناسا» الفضائية، ووزارة الدفاع، وشركات التكنولوجيا الكبرى، وانخراطه في العمل السياسي يكلفه الكثير، وهو يتعرض الآن لتهديدات رسمية وشبه رسمية بسحب الكثير من العقود الحكومية من شركاته، وهي بمليارات الدولارات. بل الأكثر من ذلك هناك أصوات محسوبة على الرئيس ترمب تنادي بمصادرة بعض شركاته، لا سيما «سبيس إكس» التي تعرف وتتعاون في الكثير من المجالات ذات الطابع الحساس في الصناعات العسكرية وغير العسكرية، ووصل الأمر بالدعوة إلى سحب جنسيته الأميركية، نظراً لمولده في دولة جنوب أفريقيا التي تعتبرها إدارة الرئيس ترمب دولة معادية سياسياً، نظراً لدورها ومواقفها القوية لمناصرة غزة، وإدانة كبار المسؤولين الإسرائيليين المتورطين في حرب الإبادة الجماعية للفلسطينيين.

قد تكون الدعوة إلى إصلاح النظام الانتخابي الأميركي دعوة رشيدة تحقق المصالح الحقيقية لغالبية الأميركيين، التي يتم تجاهلها من النخبة السياسية الراهنة، سواء الجمهورية أو الديمقراطية، بيد أن الأمر لا يتعلق برشادة الفكرة وحدها، بل بالآليات والإمكانات الفعلية لتحويلها إلى واقع يضرب بجذوره في الحياة السياسية الأميركية ككل، وهي آليات وفقاً لتركيبة النظام السياسي عصية على ماسك، كما كانت وما زالت عصية على مَن سبقوه في هذا المجال.
 


نقلاً عن الشرق الأوسط



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية