إبادة جماعية تحت أنظار العالم.. حرب غزة تحصد 100 ألف روح وتقوض ثقة الشعوب في منظومة العدالة

إبادة جماعية تحت أنظار العالم.. حرب غزة تحصد 100 ألف روح وتقوض ثقة الشعوب في منظومة العدالة
آثار الحرب في غزة

نشرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، تحقيقًا استند إلى بيانات ميدانية ودراسات دولية، كشفت فيه أن عدد الفلسطينيين الذين لقوا حتفهم في قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023 يقترب من 100 ألف شخص خلال أقل من عام، وهو رقم يضع هذه الحرب في صدارة النزاعات الأكثر دموية في التاريخ الحديث، ويشكّل إدانة واضحة لسلوك المجتمع الدولي، الذي يواصل تجاهل حجم الكارثة رغم وضوح الأرقام وصرامة الحقائق.

لم تعد هذه الحرب مجرد مواجهة عسكرية تقليدية، بل تحوّلت إلى ملحمة مأساوية من الإبادة والدمار والتجويع الممنهج، وسط تواطؤ دولي يُغلفه الصمت ويشرّعه العجز، حتى باتت مرشحة بجدارة لتكون الحرب الأكثر دموية في القرن الحادي والعشرين، ليس فقط بعدد الضحايا، بل بعمق الجرح الأخلاقي الذي تركته في ضمير العالم.

وبينما يتنقل العالم بين المؤتمرات والبيانات الباردة، كانت غزة، المحاصرة منذ أكثر من 17 عامًا، تتآكل على وقع القصف، وتتفكك أوصالها تحت ضربات الجوع والمرض وانهيار البنى التحتية. أما العالم، فظل على أرصفته صامتًا، كأن الدم الفلسطيني لا يساوي شيئًا في ميزان العدالة.

صحيفة "هآرتس"، المعروفة بميولها النقدية في الوسط الإعلامي الإسرائيلي، استندت في هذا التقرير إلى دراسة بحثية ميدانية غير مسبوقة، أشرف عليها البروفيسور مايكل سباغات، أحد أبرز المتخصصين عالميًا في توثيق وفيات الحروب، بالتعاون مع عالم السياسة الفلسطيني الدكتور خليل الشقاقي، وتضم الدراسة، التي شملت نحو 2000 أسرة فلسطينية أكثر من 10 آلاف فرد، تشير إلى أن ما لا يقل عن 75,200 شخص قد استشهدوا حتى يناير 2025، معظمهم قضوا نتيجة القصف الإسرائيلي المباشر.

هذه النتائج الميدانية تسلط الضوء على فجوة قاتلة في الأرقام الرسمية التي تعلنها وزارة الصحة في غزة، والتي قدّرت عدد الشهداء بأكثر من 56 ألف شهيد في حصيلة تزداد يوماً بعد الآخر،  بمعنى آخر، نحو 20 ألف إنسان لم يُحتسبوا في أي تقرير رسمي، كأنهم لم يُولدوا يومًا، ولم يدفنوا، ولم تبكِ عليهم أمّهاتهم. وتوضح الدراسة أن الفرق بين الأرقام قد يصل إلى نسبة تقارب 40%، وهي نسبة مرعبة بما تحمله من دلالات حول التضليل القسري للحقائق في زمن المجازر.

لكنّ الفاجعة، كما تُبيّن الدراسة، ليست في القصف وحده. فالغالبية الساحقة من الوفيات، لم تسقط نتيجة القنابل أو الذخائر فحسب، بل بسبب سياسات ممنهجة من الحصار والتجويع والتدمير المتعمد للبنى التحتية. المستشفيات خرجت من الخدمة، مراكز الغذاء تعرضت للقصف، والمساعدات الإنسانية باتت تُصطاد بالقناصة على أبواب التوزيع، كما وثقت منظمات دولية بينها "أطباء بلا حدود" و"هيومن رايتس ووتش".

فهل ما يحدث هو مجرد "حرب على الإرهاب" كما تردد الرواية الإسرائيلية الرسمية؟ أم أننا أمام مشهد إبادة جماعية مكتملة الأركان تُدار تحت عيون العالم المفتوحة؟

أشد الكوارث الإنسانية في العصر الحديث

في تحليلها السياسي، لم تكتف "هآرتس" بسرد الأرقام، بل وصفت الحرب بأنها "أشد الكوارث الإنسانية في العصر الحديث"، موجهة ضربة قاسية إلى رواية الحكومة الإسرائيلية التي تتذرع دائمًا بـ"الدقة العسكرية" في هجماتها، فحين يكون عدد الضحايا أكبر من مجموع القتلى في حرب سوريا خلال عشر سنوات، أو من حصيلة ضحايا الحروب الكبرى في العراق وأفغانستان مجتمعتين، فهل من المنطقي أن نتحدث عن "أهداف دقيقة"؟

الإحصاءات الأممية، وإن بدت عاجزة أمام حجم الكارثة، تدعم هذه الرؤية. بحسب تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، فإن ما لا يقل عن 85% من سكان قطاع غزة اضطروا للنزوح من منازلهم، ومعظمهم يعيشون في مخيمات أو في العراء بلا مأوى أو غذاء كافٍ، فيما تجاوزت نسبة انعدام الأمن الغذائي 95% من السكان. النظام الصحي انهار بالكامل، ولم يتبقَ في القطاع إلا 6 مستشفيات تعمل جزئيًا، من أصل أكثر من 30 منشأة طبية، بحسب تقرير أصدرته منظمة الصحة العالمية في مايو 2025.

أما الأطفال، الذين يُفترض أن يحظوا بالحماية المطلقة وفق اتفاقيات جنيف واتفاقية حقوق الطفل، فقد حصدت الحرب أرواح أكثر من 31,200 طفل فلسطيني حتى يونيو 2025، وفقاً لأرقام وزارة الصحة في غزة وتقارير منظمات الإغاثة الدولية، بينهم ما لا يقل عن 8,000 طفل لم تُعرف أسماؤهم بعد، ودفنوا في مقابر جماعية أو ظلوا تحت الأنقاض التي تعذر الوصول إليها. ما يقرب من 17,000 طفل آخر فقدوا أحد الوالدين أو كليهما، وأُدرج أكثر من 3,500 طفل على قوائم "مفقودي الحرب" وفق تقرير منظمة "أنقذوا الأطفال" (Save the Children) الصادر في مايو 2025، جُرحت أجسادٌ صغيرة، وبُترت أطرافها، وصمتت ضحكاتها إلى الأبد، في مشهد لا يمكن وصفه إلا بأنه مجزرة بريئة بلا هوادة، ارتُكبت في وضح النهار وتحت أنظار المجتمع الدولي، الذي لم يكتفِ بالصمت، بل تحول صمته إلى شهادة زور عالمية تُرتكب تحت قبة الأمم.

أصوات حقوقية خافتة

في المقابل، تبدو الأصوات الداعية للمحاسبة خافتة، غير مؤثرة بما يكفي لإيقاف آلة القتل. فقد طالبت منظمات دولية مرموقة مثل "هيومن رايتس ووتش"، و"العفو الدولية"، و"أطباء بلا حدود" بإجراء تحقيق دولي شفاف حول شبهات استخدام إسرائيل لسياسة التجويع كسلاح حرب، واستهداف المنشآت المدنية، ومنع وصول المساعدات الأساسية من غذاء ودواء وماء. كما أصدرت الأمم المتحدة عبر وكالاتها الإنسانية 17 بيانًا طارئًا منذ ديسمبر 2023، تطالب إسرائيل بفتح المعابر وإيقاف القصف على مناطق الإيواء والمستشفيات. وقدّرت منظمة الصحة العالمية في تقريرها الصادر في يونيو 2025 أن أكثر من 70% من الوفيات الجديدة منذ مارس 2024 كانت نتيجة مباشرة لنقص الغذاء أو الدواء، وليس بسبب الضربات العسكرية، وهو ما يجعل هذه السياسة ترقى إلى جريمة تجويع جماعي قد تُصنف قانونيًا جريمةً ضد الإنسانية.

ورغم فتح محكمة الجنايات الدولية تحقيقًا أوليًا في مارس 2024، بعد رفع ملفات من السلطة الفلسطينية ومنظمات حقوقية مستقلة، فإن غياب الإرادة السياسية الدولية، خصوصًا من القوى الغربية الكبرى، جعل العدالة مجرّد سراب أخلاقي يتبدد في رمال السياسة والانحيازات الجيوسياسية. وفي حين أن المحكمة قدّمت أول طلب استدعاء لقادة عسكريين إسرائيليين في مايو 2025، فإن الردّ الإسرائيلي كان المزيد من التصعيد، مدعومًا بتصريحات أمريكية وفرنسية تحذّر من "تسييس القضاء الدولي"، في تناقض صارخ مع مبادئ العدالة التي يرفعها الغرب في ساحات أخرى.

المحللون السياسيون الذين تابعوا مجريات الحرب يصفونها بأنها "حرب الإبادة الصامتة"، حيث لم يعد القتل فعلًا استثنائيًا، بل روتينًا يوميًا. الصواريخ تُطلق في الصباح، والجثث تُنتشل في المساء، والحياة لا تتقدم بل تتآكل ببطء. ووفق بيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) حتى يونيو 2025، فإن نحو 1.9 مليون فلسطيني في غزة -أي أكثر من 85% من السكان- نزحوا قسرًا، كثير منهم نزحوا لأكثر من مرة. في حين تعرض أكثر من 68% من البنية التحتية في غزة للدمار الكامل أو الجزئي، بما في ذلك 73 مدرسة و46 مستشفى وعيادة.

المعابر مغلقة، والمساعدات تُقصف. وقد وثّقت وكالة "الأنروا" خلال الأشهر الأربعة الأولى من 2025 أكثر من 140 هجومًا على قوافل مساعدات، بينها 22 هجومًا بأسلحة مباشرة على فرق إنقاذ. وتقول "اللجنة الدولية للصليب الأحمر" إن الوضع في شمال غزة أصبح "أسوأ من مناطق الحروب التقليدية" من حيث قابلية العيش.

وإذا كانت إسرائيل، وفق تقارير نشرتها "هآرتس" نفسها في وقت سابق، قد أسقطت أكثر من 70 ألف طن من المتفجرات على غزة منذ أكتوبر 2023، أي ما يعادل أكثر من 5 قنابل نووية تكتيكية صغيرة (كل واحدة منها تعادل انفجار هيروشيما)، فإن السؤال لم يعد فقط عن شرعية هذه الهجمات، بل عن مغزى استمرارها في ظل انعدام أي حل سياسي في الأفق. فهل نحن أمام حرب بغير سقف؟ وهل يُراد لغزة أن تموت بالكامل كي يُقال إن "التهديد زال"؟

جريمة إبادة جماعية

أكد الدكتور أحمد فؤاد أنور، أن ما يشهده قطاع غزة من دمار وقتل لا يمكن اعتباره مجرد حرب، بل يمثل جريمة إبادة جماعية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، مشيرًا إلى أن عدد الضحايا تجاوز 100 ألف، معظمهم من الأطفال والنساء وكبار السن، في مشهد إنساني مفزع يندى له جبين البشرية.

وفي حديثه لـ"جسور بوست"، أوضح أن الجيش الإسرائيلي استهدف بشكل مباشر كل مظاهر الحياة في القطاع، بدءًا من المستشفيات، مرورًا بالمدارس، وانتهاءً بالمراكز الإغاثية، مضيفًا أن أكثر من 500 شخص تم اغتيالهم أثناء محاولتهم الحصول على المساعدات الإنسانية رغم امتلاكهم تصاريح رسمية، وهو ما أكدته المصادر الإسرائيلية ذاتها.

شلل المنظومة الدولية للعدالة

وأشار إلى أن المنظومة الدولية للعدالة ما تزال في حالة شلل تام، تقف موقف المتفرج أمام هذه الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، رغم وجود تحركات متفرقة لمحاسبة المتورطين في هذه الجرائم، فإن عدم وجود ردع حقيقي يعكس انهيارًا أخلاقيًا لدى المؤسسات التي تأسست لضمان السلام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية.

ولفت إلى أن الخوف الإسرائيلي من تبعات هذه الجرائم بات واضحًا، حيث يلجأ الجيش الإسرائيلي إلى إخفاء وجوه الجنود والضباط حتى في المناسبات الرسمية والجنائز، خوفًا من الملاحقة الدولية، كما يتم التلاعب بالصور والفيديوهات لإخفاء مواقع الجرائم وهويات منفذيها.

وأضاف أن هذا القلق لا يقتصر على الجانب الأمني، بل يمتد إلى البعد الاقتصادي والاجتماعي داخل إسرائيل، حيث تتصاعد موجات الهجرة العكسية وسط مخاوف من أن تتحول إسرائيل إلى دولة منبوذة وملاحقة قضائيًا على الساحة الدولية.

وشدد على أن الهدف الحقيقي من هذا العدوان الشامل هو تهجير سكان غزة قسرًا، وإفراغ القطاع من سكانه، لكن ما يقابله هو صمود شعبي أسطوري يُثبت أن إرادة الحياة لدى الفلسطينيين أقوى من آلة القتل والدمار.

وأشاد الدكتور أنور بالدور المصري في التصدي للكارثة الإنسانية، معتبرًا أن مخرجات قمة القاهرة تعكس توافقًا عربيًا مهمًا، سواء فيما يتعلق بإدخال المساعدات الإنسانية، أو بدء عمليات إعادة الإعمار دون شروط، أو ممارسة الضغوط السياسية لوقف العدوان.

وختم تصريحه مؤكدًا أن ما يحدث في غزة لا يمكن فصله عن القضية الفلسطينية، التي وصفها بأنها القضية المركزية للعرب، ودعا إلى توحيد الجهود الإعلامية والسياسية والبحثية والاقتصادية لمواجهة "الاستغفال الإسرائيلي" الذي يسعى إلى تشتيت الانتباه العالمي عن الجرائم الحقيقية، وأضاف: "نحن أمام لحظة فارقة تختبر ضمائر العالم، وتختبر أيضًا تماسك العرب تجاه قضية يجب ألّا تُنسى".

استهداف مباشر وممنهج للمدنيين

قالت الدكتورة إيمان بخيت إن ما يجري في غزة من استهداف مباشر وممنهج للمدنيين يمثل انتهاكًا صارخًا لكافة المواثيق والاتفاقيات الدولية، وعلى رأسها اتفاقيات جنيف، التي تُلزم أطراف النزاع بحماية المدنيين، وأكدت أن الجيش الإسرائيلي تجاوز كل الخطوط الحمراء، مستبيحًا الأرواح والمرافق العامة دون رادع.

وفي تصريحاتها لـ"جسور بوست"، وصفت الحرب بأنها "إبادة جماعية منظمة" تطابق التعريف القانوني الدولي لهذا النوع من الجرائم، سواء من خلال القتل المباشر أو فرض ظروف معيشية تؤدي إلى الهلاك الجماعي، مثل الحصار، والتجويع، وقطع الكهرباء، واستهداف المرافق الصحية والتعليمية ومراكز الإيواء.

وانتقدت بخيت الصمت الدولي المريب، معتبرة أن العالم يقف عاجزًا عن وقف آلة القتل الإسرائيلية رغم تحركات مجلس الأمن الدولي والمحكمة الجنائية الدولية. وأوضحت أن وتيرة الانتهاكات تصاعدت بشكل لافت، ما يجعل العدالة مجرد شعار أجوف في ظل التواطؤ الدولي، خصوصًا من قبل الولايات المتحدة.

وأكدت أن واشنطن، من خلال استخدامها المتكرر لحق النقض (الفيتو)، وفرت الغطاء السياسي والقانوني لاستمرار العدوان، وهو ما يعكس، بحسب قولها، مدى ارتباط المصالح بين إدارة الرئيس ترامب وحكومة بنيامين نتنياهو، حتى لو كان الثمن هو الدم الفلسطيني.

تقويض ثقة الشعوب في المنظومة الحقوقية

وأضافت أن إسرائيل لم تُظهر أي التزام بالقرارات الدولية أو المطالبات الإقليمية لوقف إطلاق النار، ما أدى إلى تقويض ثقة الشعوب في المنظومة الحقوقية العالمية، وفضح زيف الخطاب الغربي بشأن الحرية والعدالة وحقوق الإنسان.

وأشارت إلى أن بعض الدول الأوروبية بدأت اتخاذ مواقف أكثر وضوحًا، مثل إسبانيا التي اعترفت بوجود جرائم حرب، وفرنسا التي أعلنت استعدادها للاعتراف بالدولة الفلسطينية. ومع ذلك، فإن التأثير الفعلي لا يزال بيد الولايات المتحدة التي ترفض كبح جماح إسرائيل.

وفي حديثها عن الوضع الإنساني، وصفت الدكتورة بخيت الوضع في غزة بأنه كارثي وغير مسبوق، مشيرة إلى أن النسيج الاجتماعي تمزق بالكامل، وغالبية الأطفال أصبحوا يتامى، والعائلات تفككت بفعل الفقد اليومي، وأكدت أن الشعب الفلسطيني يمر بأزمة نفسية واجتماعية عميقة تحتاج إلى تدخل عاجل يتجاوز إعادة الإعمار ليشمل التأهيل النفسي والمجتمعي.

واختتمت بخيت تصريحها بالقول إن الحرب على غزة لم تُظهر فقط وحشية الاحتلال، بل كشفت كذلك عن فشل المنظومة الحقوقية الدولية، معتبرة أن عجز تلك المؤسسات عن وقف المجازر يجعلها شريكة في الجريمة. وأضافت: “إذا كانت هذه المنظمات عاجزة عن محاسبة من يقتل الأبرياء عمدًا، فإنها بذلك فقدت شرعيتها، وأثبتت أنها أداة في يد القوي، لا نصير للضعفاء”.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية