الأمم المتحدة: انتهاكات جسيمة بحق المدنيين في ميانمار وسط أزمة متعددة الأبعاد
خلال الدورة الـ59 لمجلس حقوق الإنسان
أكدت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان أن الأزمة في ميانمار منذ انقلاب 2021 تمثل واحدة من أسوأ الكوارث الحقوقية والإنسانية في العصر الحديث، مشددة على ضرورة محاسبة المسؤولين عن الجرائم، وتمكين الشعب من بناء دولة مدنية ديمقراطية تحترم التعددية وحقوق الإنسان.
جاء ذلك في تقرير المفوض السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك، حول مراقبة الوضع في ميانمار وتقديم مسارات واقعية لتحقيق طموحات الشعب في العدالة والديمقراطية والحكم المدني، المقدم إلى الدورة الـ59 لمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة المنعقدة في جنيف حتى 9 يوليو الجاري، واطلع «جسور بوست» على نسخة منه.
ورسم التقرير صورة قاتمة للوضع الحقوقي في ميانمار، مشيرًا إلى مقتل أكثر من 6 آلاف و473 مدنيا مدنيا حتى مارس 2025، بينهم نساء وأطفال، واعتقال نحو 29 ألف شخص، واستمرار احتجاز أكثر من 22 ألفا، في ظل انعدام كامل لضمانات المحاكمات العادلة. كما وثق التقرير نزوح أكثر من 3.5 مليون شخص داخليا، ولجوء أكثر من 1.5 مليون خارج البلاد.
ولفت إلى أن الجيش، منذ انقلابه على الحكم المدني في 2021، يواصل استهداف المدنيين بالضربات الجوية والقصف المدفعي، لا سيما في ولاية راخين، التي شهدت انتهاكات مروعة ضد أقلية الروهينغا، شملت القتل والتشويه والاعتقال التعسفي والتعذيب والتهجير القسري.
وأوضح التقرير أن البلاد غارقة في أزمة اقتصادية خانقة، قدرت خسائرها بنحو 93.9 مليار دولار منذ الانقلاب، مع تدهور حاد في قيمة العملة المحلية، وارتفاع التضخم بنسبة متوقعة تصل إلى 30%، وتقلص الاستثمارات الأجنبية. وأدى ذلك إلى وقوع أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر، وارتفاع أسعار المواد الأساسية بنسبة تصل إلى 30% خلال عام واحد فقط.
وعزز الجيش سيطرته على البنك المركزي والقطاعات الاقتصادية الحيوية، مستفيدًا من الاقتصاد غير المشروع، ليجعل من ميانمار أكبر منتج عالمي للأفيون والمخدرات الصناعية، ومنطلقًا لشبكات الاتجار بالبشر والعمل القسري.
ورغم القمع الدموي، سلط التقرير الضوء على ظهور ما وصفه بـ«دوائر التغيير»، تشمل النساء والشباب والمجتمع المدني والإعلام الحر والمعارضة السياسية. وأشاد بدور النساء في خطوط المواجهة، كناشطات وطبيبات ومقاتلات، ورائدات في مبادرات الحوكمة المحلية، لا سيما في ولايات كايه وتشين ومون.
وأشار إلى أن جيل الشباب، الذي نشأ في فترة الانفتاح النسبي قبل الانقلاب، كان الأشد تأثرا بالعنف وفقدان الفرص، إلا أنه تصدى للأزمة بابتكار شبكات إنذار ودعم مجتمعي، وتبنى خطابا جديدا يتحدى الانقسامات العرقية والنمطية الجندرية، ويعزز المشاركة السياسية.
كما أبرز التقرير المبادرات المحلية لإدارة المناطق الخارجة عن سيطرة الجيش، مثل حكومة الوحدة الوطنية، ومجالس الحكم المحلي التي أنشأتها جماعات المعارضة المسلحة في ولايات كاريني وتشين ومون وغيرها، والتي قدمت نماذج بديلة للحوكمة مبنية على التعددية والمساءلة.
وحدد التقرير أربعة مسارات رئيسية لتحقيق التحول الديمقراطي في ميانمار، أولها المساءلة والعدالة الانتقالية، داعيا إلى إحالة الوضع في ميانمار إلى المحكمة الجنائية الدولية، ومحاسبة جميع المسؤولين عن الانتهاكات من مختلف الأطراف، بما في ذلك القادة العسكريين، وأوصى بإنشاء قضاء مستقل يستند إلى المعايير الدولية، وتطوير آليات للعدالة الانتقالية تشمل الاعتراف بالجرائم، وجبر الضرر، وضمان عدم التكرار.
أما المسار الثاني فيتمثل في ضرورة تفكيك النظام القائم على المركزية والتمييز، وتبني حكم مدني اتحادي يضمن مشاركة النساء والشباب والأقليات العرقية في صياغة السياسات. وإصلاح شامل للقوانين، بما فيها قانون الجنسية لعام 1982، وإعادة بناء نظام قضائي مستقل يحمي الحقوق والحريات.
كما ركز التقرير على التنمية المستدامة كمسار ثالث، هو إنهاء هيمنة الجيش على الاقتصاد، وتفكيك شبكات الفساد والاحتكارات العسكرية، وإعادة توجيه الموارد نحو الخدمات العامة. وأكد أهمية الإصلاح الضريبي، وتعزيز الشفافية، ودعم البنية التحتية والتعليم والصحة. كما شدد على ضرورة تعزيز الحوكمة البيئية، وتبني سياسات الزراعة والطاقة المستدامة.
وأشار إلى أن المسار الرابع هو دور المجتمع الدولي والإقليمي، داعيا المجتمع الدولي، خاصة الأمم المتحدة، إلى التحرك الحاسم عبر فرض حظر سلاح شامل، وتوسيع العقوبات المالية، ودعم البدائل الديمقراطية، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، وضمان الحماية للاجئين والنازحين، خصوصًا الروهينغا، وعدم إعادتهم قسريا في غياب ضمانات أمنية وحقوقية.
واختتم التقرير برسالة واضحة مفادها أن شعب ميانمار قد دفع ثمنا باهظا من حياته ومستقبله رفضا للحكم العسكري، ويستحق دعما ملموسا من المجتمع الدولي لتحقيق تطلعاته في الحرية والديمقراطية والعدالة. وأكد أن تفكيك النظام العسكري وبناء دولة مدنية اتحادية هو السبيل الوحيد لإنهاء الأزمة المتجذرة في البلاد.
كما شدد على أن أي إصلاح حقيقي يجب أن ينبع من الداخل، وأن تكون المجتمعات المحلية شريكا فاعلا في بناء مستقبل جديد قائم على الحقوق، والتنمية، والعدالة، والمساواة دون تمييز.