حين تتجاوز الدول معاييرها: فرانشيسكا ألبانيز نموذجًا

حين تتجاوز الدول معاييرها: فرانشيسكا ألبانيز نموذجًا
سعيد حمد الشقصي- رئيس التحرير

لعقود طويلة ظلّ المقررون الأمميون بمنأى عن الاستهداف السياسي، ولم يتعرضوا نتيجة لمحتوى تقاريرهم إلى تهديدات أو ضغوط من قبل أي دولة، وخاصة الدولة الكبرى، التي لطالما قدمت نفسها كضامنة للحقوق وللسلم والأمن الدوليين، إلا أن واقع اليوم قد تغير، ولم يعُد أحد من المقررين بمنأى عن الاستهداف والتعرض للعقوبات والضغوط، حتى الشخصية منها.

وضمن هذا السياق، تواصل الولايات المتحدة استهداف المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، فرانشيسكا ألبانيزي، ورغم أن واشنطن حتى اليوم فشلت في إزاحتها إلا أنها مستمرة في بذل كل ما يمكن لتحقيق هذا الهدف.

بدأت هذه الجهود بحملة إعلامية شرسة لتشويه صورة المسؤولة الأممية، بمشاركة إسرائيل طبعًا، مرورًا بتسويق اتهامات مفبركة بحقها، وصولًا إلى استخدام لهجة تحذيرية مع الأمم المتحدة في محاولة لعرقلة التجديد لها في منصبها.

الموقف الأمريكي لم يكن مفاجئًا، بل جاء امتدادًا طبيعيًا للدعم اللامحدود الذي تقدمه واشنطن إلى تل أبيب منذ السابع من أكتوبر، والذي يتناقض تمامًا مع ما تعلنه من رغبتها في إنهاء الحرب الدامية على غزة، فلم تكتفِ الولايات المتحدة باستخدام الفيتو مرارًا وتكرارًا داخل مجلس الأمن لحماية إسرائيل ومنع أي إدانة دولية لجرائمها، بل تجاوزت ذلك إلى ملاحقة المسؤولين الأمميين والدوليين الذين تجرأوا على انتقاد سياسات الاحتلال واتخذوا مواقف صلبة في وجه آلة الحرب الإسرائيلية.

شملت هذه الملاحقات أربعة من قضاة المحكمة الجنائية الدولية الذين أصدروا مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، رغم أن قراراتهم لم تستهدف إسرائيل وحدها، بل طالت أيضًا قيادات في حركة حماس، إلا أن واشنطن رأت في هذه القرارات "تهديدًا مباشرًا" لها ولحليفتها المقرّبة.

وذهبت الولايات المتحدة إلى أبعد مدى في سابقة نادرة في تاريخ دعمها لتل أبيب، حين فرضت عقوبات على فرانشيسكا ألبانيزي، لا لشيء سوى لأنها أدت دورها كمقررة مستقلة تابعة لمجلس حقوق الإنسان الأممي، بكل مهنية وجرأة.

لم تكن "جريمة" السيدة الإيطالية إلا رفضها الصريح للحرب الوحشية على غزة، التي وصفتها بأنها "ذات أبعاد أسطورية"، وكرّست العامين الماضيين في إعداد تقارير تدين الحكومة الإسرائيلية بارتكاب إبادة جماعية ممنهجة بحق المدنيين في قطاع غزة.

رأت واشنطن في تقارير ألبانيزي استهدافًا سياسيًا لها، فقررت معاقبتها، ضاربة عرض الحائط بالحصانة الدولية التي يتمتع بها المقررون الخاصون.

ففي رأيها الاستشاري الصادر عام 1999، أكدت محكمة العدل الدولية أن المقررين الخاصين يُعدّون "خبراء في مهام للأمم المتحدة"، وبالتالي يحق لهم التمتع بكافة الامتيازات والحصانات الدبلوماسية.

أخطأت الإدارة الأمريكية في تقديرها، إذ اعتقدت أن العقوبات ستكبح صوت ألبانيزي، لكنها صمدت في وجه واحدة من أعنف حملات التشويه التي شنتها إسرائيل ضد مسؤول أممي.

ورغم أن تلك العقوبات لم تحقق أهدافها، فإنها أدت إلى استقالة بعض أعضاء لجنة التحقيق الدولية المكلفة برصد الانتهاكات الإسرائيلية في فلسطين المحتلة، ما اعتُبر ضربة موجعة للمسار الأممي في مساءلة مرتكبي الجرائم.

وفي الوقت الذي تفرض فيه واشنطن العقوبات، ارتفعت أصوات من أنحاء العالم تطالب بمنح فرانشيسكا ألبانيزي جائزة نوبل للسلام، وهي الجائزة ذاتها التي لطالما عبّر رئيس الدولة التي عاقبتها عن رغبته في نيلها.

أي مفارقة هذه؟ 
بل أي عدالة تلك التي تُعاقب من يُدين الإبادة، ويُكافأ من يتستر عليها؟



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية