معاناة وجوع بين الأرقام والتقارير.. هل تنقذ الإنسانية ما تبقى في غزة؟

معاناة وجوع بين الأرقام والتقارير.. هل تنقذ الإنسانية ما تبقى في غزة؟
أم فلسطينية تحمل ابنتها التي تعاني من الجوع وسوء التغذية

"المجاعة في غزة وصلت إلى مستويات كارثية، وأكثر من مليوني إنسان يواجهون الجوع".. بهذا التصريح الموجع، دقّت وزارة الصحة في غزة جرس إنذار جديد يضاف إلى سلسلة تحذيرات متصاعدة منذ أشهر، لتسلّط الضوء على واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في القرن الحادي والعشرين، أزمة لم تعد مجرّد أرقام في نشرات الأخبار أو بيانات المنظمات الدولية؛ بل واقع قاسٍ ينهش حياة البشر يومًا بعد يوم، ويهدّد وجودهم وكرامتهم معًا.

ذكرت أحدث بيانات وزارة الصحة في غزة الأحد إلى وفاة 71 طفلاً بسبب الجوع وسوء التغذية، لافتة إلى سقوط أكثر من 900 شهيد و6 آلاف مصاب من الباحثين عن لقمة العيش.

حصار طويل وصراع دموي

أصل المأساة يرتبط بشكل مباشر بالحرب المستمرة منذ السابع من أكتوبر 2023، والتي رافقتها عمليات عسكرية مكثّفة وحصار خانق عطّل كل مظاهر الحياة الطبيعية. أكثر من نصف السكان نزحوا قسرًا داخل رقعة جغرافية محدودة أصلًا، ففقدوا بيوتهم ومصادر دخلهم وسبل عيشهم.

وبحسب تقرير أصدره مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) في يونيو الماضي، فإن القيود المفروضة على دخول الغذاء والدواء والمياه الصالحة للشرب، حوّلت الجوع في غزة من مشكلة تنموية إلى كارثة إنسانية حادة، خاصة بعد تدمير الأراضي الزراعية والموانئ الصغيرة ومخازن الغذاء خلال الهجمات المتواصلة.

أرقام صادمة ترسم ملامح المأساة

تقدّر الأمم المتحدة أن أكثر من 80% من سكان غزة يعتمدون حاليًا بشكل شبه كلي على المساعدات الغذائية، بينما يعاني ما يزيد عن 500 ألف شخص من انعدام الأمن الغذائي الحاد، أي إنهم لا يعرفون من أين ستأتي وجبتهم التالية أو ما إذا كانوا سيتناولونها أصلًا.

في تقرير أصدرته منظمة الأغذية والزراعة (فاو) في مايو 2025، وُصف الوضع الغذائي في شمال قطاع غزة بالأسوأ في العالم» منذ أكثر من عقدين، وأشارت التقديرات إلى أن الأطفال يعانون بشكل خاص؛ أكثر من 30% من الأطفال تحت سن الخامسة مصابون بسوء تغذية حاد، ونسبة التقزم ارتفعت بصورة تنذر بمخاطر صحية طويلة الأمد.

الجوع ليس مجرّد شعور

"أطفالي يبكون طوال الليل من الجوع، وليس لدي ما أقدمه لهم سوى بعض الخبز الجاف إن وجد"، هكذا وصفت أم محمد، وهي نازحة من حي الشجاعية، حياتها اليومية في أحد الملاجئ المزدحمة بمدينة غزة.

وتحدث أبو ياسر، رب أسرة مكوّنة من سبعة أفراد، عن صعوبة تأمين أي طعام يحتوي على بروتين: «لا لحم ولا عدس ولا حتى بيض. كل شيء مفقود أو سعره لا يُحتمل".

هذه الشهادات الإنسانية المؤلمة تُترجم الأرقام الباردة إلى قصص حقيقية لأسر تكافح كل يوم كي تبقى على قيد الحياة.

رأي المنظمات الحقوقية والأممية: كارثة من صنع الإنسان

المنظمات الحقوقية تصف ما يحدث في غزة بأنه تجويع جماعي ممنهج، ففي بيان صدر مطلع الشهر الجاري، قالت منظمة هيومن رايتس ووتش إن القيود الإسرائيلية المفروضة على دخول المواد الغذائية والإنسانية إلى القطاع تمثل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، داعية إلى فتح المعابر بشكل عاجل.

أما المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فعبّرت عن قلقها العميق من «استخدام التجويع أداةً لضغط عسكري وسياسي، معتبرةً ذلك جريمة حرب محتملة.

وفي السياق ذاته، حذّرت منظمة "أنقذوا الأطفال" من أن استمرار الوضع على ما هو عليه سيؤدي إلى «جيل كامل يعاني من أمراض مزمنة وإعاقات جسدية ونفسية بسبب سوء التغذية الحاد.

تداعيات الجوع.. تهديد يتجاوز الصحة

أزمة الجوع في غزة ليست فقط مسألة غذاء؛ بل كارثة تمسّ النسيج الاجتماعي والثقافي والنفسي للمجتمع. فالعائلات التي فقدت مصادر رزقها باتت تواجه صعوبة هائلة في إعالة أبنائها، ما يؤدي إلى تفشي عمالة الأطفال وزيادة التسرب من المدارس.

كما أن سوء التغذية يرفع معدلات الإصابة بالأمراض المعدية والمزمنة، ويُضعف مناعة السكان، خاصة كبار السن والنساء الحوامل، ما ينذر بارتفاع معدلات الوفيات.

التحديات أمام إيصال المساعدات.. بين السياسة والواقع الميداني

حتى الجهود الإنسانية تواجه عراقيل كبيرة؛ فوفق بيانات مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن نسبة ضئيلة فقط من قوافل الإغاثة التي حصلت على تصاريح دخول تصل فعلًا إلى المحتاجين؛ بسبب العمليات العسكرية المستمرة، وقيود الحركة، وتدمير البنى التحتية في قطاع غزة.

منظمات دولية أشارت أيضًا إلى أن معبر كرم أبو سالم -وهو المعبر الرئيسي لدخول الغذاء- يعمل بطاقة أقل بكثير من الحاجة الفعلية، ما يجعل وصول الغذاء والمياه مسألة حياة أو موت يوميًا.

المجتمع الدولي: بيانات بلا فاعلية

في ظل هذا الواقع، تتوالى البيانات الدولية المطالبة بإيصال المساعدات ووقف الأعمال القتالية، لكن معظمها يبقى حبراً على ورق، دون آليات تنفيذ فعالة تلزم الأطراف المتصارعة باحترام القانون الدولي الإنساني.

منظمات الإغاثة تصف الوضع الحالي بأنه سباق مع الزمن لإنقاذ ملايين الأرواح المهددة بالجوع، بينما تؤكد أن أي تأخير إضافي ستكون له عواقب كارثية لا يمكن تداركها.

الأمل في الحلول.. ما بين التدخل الفوري والتغيير طويل الأمد

على المدى القصير، تطالب المنظمات الحقوقية بفتح المعابر بشكل دائم، وتسهيل وصول المواد الغذائية والدوائية دون قيود، وتأمين ممرات آمنة لقوافل الإغاثة.

أما على المدى الطويل، فيبقى الحل الحقيقي في إنهاء الصراع ورفع الحصار المستمر منذ أكثر من 17 عامًا، وإعادة بناء ما دمرته الحروب، وتمكين سكان غزة من استعادة حياتهم الطبيعية بكرامة.

ما يحدث في غزة ليس كارثة طبيعية، بل نتيجة سياسات وتدخلات عسكرية وصمت دولي، جعلت أكثر من مليوني إنسان يواجهون الجوع والموت البطيء، قصص الأمهات اللاتي يكتفين بالنظر إلى أبنائهن الجائعين دون القدرة على إطعامهم، تختصر عمق المأساة الإنسانية.

وفي النهاية، يبقى السؤال: إلى متى سيبقى العالم يتفرج بينما تُزهق الأرواح جوعًا، أمام مرأى ومسمع الجميع؟



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية