المجازر تتكرر في غزة.. هنا يتحوّل الجوع إلى سلاح والنجاة تصبح حلماً صعب المنال

المجازر تتكرر في غزة.. هنا يتحوّل الجوع إلى سلاح والنجاة تصبح حلماً صعب المنال
آثار الدمار في غزة - أرشيف

في دير البلح، حيث كان الأطفال والنساء يصطفون أمام عيادة للحصول على الغذاء، جاءت القذائف الإسرائيلية لتحوّل الطابور الإغاثي إلى مجزرة، وتسقط 15 ضحية على الأقل، معظمهم من النساء والأطفال، ولم يكن المشهد استثناءً، بل فصل آخر من مسلسل طويل، تُستخدم فيه المجاعة سلاحاً، وتُستهدف فيه طوابير الجوع بالرصاص، في ظل صمت دولي متواصل.

استهدفت الغارة عيادة تديرها منظمة "مشروع الأمل" الشريكة لليونيسف، حيث كان عشرات المدنيين ينتظرون المساعدات، ولم تكن المأساة الأولى، إذ وثّقت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان مقتل 798 فلسطينيًا بين 27 مايو و7 يوليو الماضيين خلال محاولتهم الوصول إلى المساعدات، بينهم 615 قُتلوا قرب نقاط توزيع تديرها مؤسسة غزة، و183 على الطرق المؤدية إلى القوافل.

ووصفت رئيسة مفوضية حقوق الإنسان رافينا شمداساني الوضع بأنه "مهزلة مستمرة"، مؤكدة أن المدنيين يُتركون أمام خيارين: الموت جوعًا أو الموت برصاص القناصة، وهو خيار ساخر في واقع بلا بدائل.

ووفق وزارة الصحة في غزة، بلغ عدد الشهداء الفلسطينيين منذ أكتوبر 2023 أكثر من 58 ألف شخص، بينهم أكثر من 70% من النساء والأطفال، إضافة إلى 88,000 جريح، وتشريد نحو 90% من سكان القطاع (1.9 مليون من أصل 2.3 مليون نسمة).

ويُعد الجوع وجهًا آخر للموت في غزة، 54% من السكان في مرحلة "انعدام الغذاء الحاد"، و22% يعيشون على "كارثة غذائية"، بينما يُعالج يوميًا 112 طفلًا من سوء تغذية حاد، وتتوقع التقارير أن 71,000 طفل دون الخامسة بحاجة لعلاج غذائي، منهم 14,100 في حالة حرجة.

انهيار البنية الصحية 

باتت 94% من مستشفيات غزة خارج الخدمة، مع تدمير أو تعطل 28 منشأة طبية خلال أسبوع واحد، ووقوع 697 حادثًا استهدف مرافق صحية منذ بداية الحرب. 

وفيما وصلت 75 ألف لتر من الوقود في 10 يوليو، إلا أن الحاجة الفعلية اليومية للمستشفيات والمخابز وسيارات الإسعاف تُقدّر بثلاثة أضعاف هذه الكمية، ما يهدد بانهيار شامل.

وفي قطاع المياه، تعمل فقط 40% من منشآت المياه، ويعاني 93% من السكان من عدم الوصول الآمن لمياه الشرب، إذ توفر المعدلات اليومية أقل من 15 لترًا للفرد، بينما تشير التقديرات إلى الحاجة لـ3 أضعاف هذه الكمية للحد الأدنى من البقاء.

وتوقفت الدراسة بالكامل لأكثر من 76,000 طالب ثانوي، في حين تظهر تقديرات اليونيسف ومنظمة الصحة أن أكثر من 85% من أطفال غزة يعانون اضطرابات نفسية حادة، أما الاقتصاد، فتراجع بنسبة 88%، مع بطالة تفوق 75% وخسائر تقارب 19 مليار دولار، أي عشرة أضعاف الناتج المحلي للقطاع قبل الحرب.

في غزة، لا يُستخدم السلاح فحسب لقتل المدنيين، بل التجويع والتدمير المنهجي للمرافق الصحية والمائية والتعليمية، ليكتمل مشهد الإبادة في صمت، إنها ليست مجرد حرب، بل تفكيك للحياة، وتحويل الحياة نفسها إلى تهمة يعاقَب عليها من يطلبها، حتى بلقمة خبز أو جرعة دواء.

جرائم تحاصر الحق في الحياة

قالت خبيرة حقوق الإنسان، الدكتورة أسماء رمزي، إن ما يجري في قطاع غزة لا يمثل فقط مأساة إنسانية متصاعدة، بل يكشف عن خرق منهجي وخطِر لأحكام القانون الدولي الإنساني، ويستوجب تحركًا جادًا من المجتمع الدولي، يتجاوز البيانات والتصريحات التقليدية إلى فرض إجراءات ملزمة، تشمل العقوبات القانونية والتدخلات القضائية، وإلا فإن الصمت العالمي سيتحول إلى شراكة غير معلنة في الجريمة.

وأكدت رمزي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن الحق في الغذاء والحياة ليس ترفًا ولا منّة تُمنح، بل هو حق أساسي وأصيل، تحميه المعاهدات والمواثيق الدولية، ولا يجوز أن يكون رهينة للتجاذبات السياسية أو أوراق تفاوضية في يد أطراف النزاع، إن استخدام الجوع سلاحاً، وحرمان السكان من الحصول على الغذاء أو استهدافهم خلال سعيهم إلى لقمة تسد رمقهم، يُعد انتهاكًا فجًّا للقانون الإنساني، بل ويصنَّف ضمن فئة جرائم الحرب الواضحة.

وأوضحت أن القانون الدولي الإنساني، وبصورة خاصة اتفاقيات جنيف لعام 1949 والبروتوكولات الإضافية لها، يجرّم بشكل لا لبس فيه استهداف المدنيين، أو استخدام أساليب تُفضي إلى حرمانهم من الغذاء والماء والرعاية الطبية، مشيرة إلى أن مبدأ التمييز بين المدنيين والمقاتلين هو حجر الأساس في قواعد الحرب، وأي اعتداء على طوابير الغذاء، أو قصف مناطق توزيع المساعدات، دون ضرورة عسكرية حقيقية أو استهداف مشروع، يمثل انتهاكًا صارخًا لهذا المبدأ ويقع ضمن الأفعال التي يمكن ملاحقتها جنائيًا أمام المحكمة الجنائية الدولية.

وعند سؤالها حول مسؤولية المجتمع الدولي، شددت الدكتورة رمزي على أن حماية المدنيين في أوقات النزاع، وبخاصة في ما يتعلق بالحق في الغذاء والحياة، مسؤولية جماعية تقع على عاتق عدة أطراف، أولها الأمم المتحدة ومجلس الأمن، الذي يملك بموجب الفصل السابع من ميثاق المنظمة صلاحيات التدخل لفرض وقف إطلاق النار أو تسهيل مرور المساعدات الإنسانية، وثانيها اللجنة الدولية للصليب الأحمر، التي يقع على عاتقها مراقبة امتثال أطراف النزاع للقانون الدولي وتوثيق الانتهاكات، إلى جانب دور الجهات المانحة في ضمان تمويل عمليات إغاثة محايدة، تُنفَّذ دون شروط سياسية أو عراقيل لوجستية.

وأشارت إلى أن النظام القضائي الدولي، وفي مقدمته المحكمة الجنائية الدولية، يملك صلاحية فتح تحقيقات وملاحقة مرتكبي جرائم الحرب، بما في ذلك استهداف المدنيين خلال تسلّمهم المساعدات، وهو ما بدأ يتحرك بالفعل أخيرًا، لكن بوتيرة بطيئة، لا توازي حجم المأساة ووتيرتها.

وفيما يتعلق برواية إسرائيل المستمرة لتبرير قصف مناطق توزيع الإغاثة، ترى رمزي أن الذرائع المتكررة، مثل الادعاء بوجود مقاتلين في المنطقة أو الاشتباه في استخدام المساعدات لأغراض عسكرية، لا تصمد قانونيًا أو إنسانيًا أمام حجم الخسائر في الأرواح، وخصوصًا أن الضحايا في الغالب هم من النساء والأطفال. وأشارت إلى أن غياب المحاسبة الدولية الفعلية، والدعم السياسي غير المشروط من بعض القوى الكبرى، أفرغ النظام الدولي من أدوات الردع، وسمح بارتكاب انتهاكات ممنهجة دون تبعات تُذكر.

وفي ما يخص سبل الحماية الفعلية للمدنيين وضمان وصول الغذاء إلى المحتاجين دون تحوّله إلى فخ مميت، أكدت رمزي أن على المنظمات الدولية توسيع آليات المراقبة الميدانية، وإنشاء مناطق آمنة تحت إشراف مباشر من الأمم المتحدة لتوزيع الإغاثة، مع فتح ممرات إنسانية مستقلة محمية قانونيًا، لا تخضع لمزاج أطراف النزاع. كما دعت إلى الضغط الدبلوماسي من خلال قرارات دولية ملزمة تفرض فتح المعابر دون شروط مسبقة، وتيسير وصول الوقود، وتوفير طرق بديلة عبر الجسور الجوية أو البحرية.

وشددت على ضرورة التوثيق القانوني المستمر لكل انتهاك، قائلة إن "ما لا يوثَّق اليوم، قد يُطمَس غدًا، ويجب ألّا يُترك أي دليل على جرائم الحرب خارج أرشيف العدالة"، داعيةً إلى أن يكون الصمت الدولي أقلّ، والضمير الإنساني أكثر حضورًا، لأن ما يحدث في غزة اليوم ليس فقط مأساة، بل اختبار حاسم لإنسانيتنا جميعًا.

استهداف طوابير الإغاثة

قالت خبيرة حقوق الإنسان والباحثة في الشأن الفلسطيني-الإسرائيلي، الدكتورة إيمان بخيت، إن ما يجري في قطاع غزة يتجاوز حدود الانتهاك، ليشكل نمطًا من القتل الممنهج ضد المدنيين، تحت غطاء "توزيع المساعدات"، مؤكدة أن الحكومة الإسرائيلية تقوم، بشكل يومي، بقصف فلسطينيين مدنيين جائعين أثناء انتظارهم الحصول على مساعدات غذائية، رغم أن هذه النقاط يشرف عليها مقاول أميركي، وتخضع للحماية الإسرائيلية المباشرة، وتقع ضمن مناطق سبق أن حددها الجيش الإسرائيلي نفسه لتسلّم المعونات، ورغم التزام السكان بتلك التعليمات، فإن النتيجة كانت تحويل طوابير المساعدات إلى أفخاخ موت مروعة، لا فرق فيها بين طفل أو امرأة أو شيخ. 

وأشارت بخيت، في تصريحات لـ"جسور بوست"، إلى أن الجوع في غزة أصبح قاتلًا بحد ذاته، ما يدفع السكان للمخاطرة بالذهاب إلى هذه المواقع، رغم علمهم المسبق بإمكانية تعرضهم للقصف، وهو ما تستغله إسرائيل لتصفية أكبر عدد ممكن من المدنيين، في مشهد لا يمكن وصفه إلا بأنه إعدام جماعي ببطء، وتحت أعين العالم بأسره.

وأضافت أن الموقف الدولي، حتى اللحظة، لم يرقَ إلى الحد الأدنى من المسؤولية الإنسانية أو القانونية، فما يحدث يُوصف بأنه "يرقى إلى جرائم حرب" في البيانات، لكن من دون أن تترجم هذه العبارات إلى إجراءات حقيقية على الأرض، كفرض عقوبات أو تفعيل آليات المساءلة، وهذا التقاعس، وفق بخيت، ليس جديدًا، بل هو استمرار لنمط دولي مألوف، يتمثل في الإدانة دون ردع، والتعاطف دون تدخل فعّال، منذ الأيام الأولى للحرب.

وأوضحت الدكتورة بخيت، أن استهداف المدنيين خلال تسلّمهم المساعدات الإنسانية هو جريمة حرب موصوفة في القانون الدولي الإنساني، وتحديدًا في اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر بشكل صريح استخدام التجويع سلاحاً في النزاعات، وتفرض حماية كاملة للمدنيين في حالات الحرب، سواء كانوا مقيمين في منازلهم أو ضمن مناطق النزاع أو يتنقلون للحصول على احتياجاتهم الأساسية، كما تنص الاتفاقية على أنه لا يجوز استهداف أي تجمع مدني، لا سيما إذا كان الغرض منه تلقي مساعدات إنسانية.

وحول مسؤولية المجتمع الدولي، شددت على أن هناك التزامات قانونية ملزمة تقع على عاتق الدول الموقعة على اتفاقيات جنيف، بموجبها يُفترض أن يتحرك مجلس الأمن الدولي لاتخاذ قرارات ملزمة تشمل فرض عقوبات، أو إنشاء ممرات إنسانية آمنة، أو نشر قوات أممية لمرافقة قوافل الإغاثة وضمان وصولها. كما يقع على عاتق منظمات دولية كالأونروا، والصليب الأحمر، والهلال الأحمر، ومنظمة الصحة العالمية، مسؤولية أخلاقية وإنسانية في تأمين الحماية للعاملين في مجال الإغاثة، وضمان وصول المساعدات دون عراقيل.

وبيّنت بخيت أن إسرائيل لا تتوقف عن استخدام الذرائع المتكررة ذاتها لتبرير استهدافها للمدنيين، منها ادعاء وجود مقاتلين بين الجموع التي تنتظر الغذاء، أو الزعم بأن المقاومة الفلسطينية هي المسؤولة عن إطلاق النار أو القصف، إلا أن معظم هذه الادعاءات ثبت بطلانها ميدانيًا وتوثيقيًا، خاصة أن معظم الهجمات تقع ضمن مناطق خاضعة لرقابة الجيش الإسرائيلي نفسه، وتُنفذ بأسلحة دقيقة التوجيه، وليس بنيران عشوائية. وقالت إن استمرار هذا النمط من الرواية الإسرائيلية الزائفة لا يُعد مجرد تضليل، بل يمثل تمويهًا قانونيًا لجريمة حرب، هدفه التهرب من المحاسبة وتوفير غطاء سياسي لاستمرار القتل الجماعي.

وأكدت الدكتورة بخيت، أن استهداف المدنيين في أثناء تسلّمهم المساعدات الغذائية يُعد جريمة حرب مكتملة الأركان، لا يغير من طبيعتها أي تبرير. وأن استمرار الإفلات من العقاب نتيجة الحسابات السياسية، والرضوخ للضغوط الدولية، يمثل خيانة للعدالة ولقيم القانون الدولي، ودعت المجتمع الدولي إلى الانتقال من الإدانات اللفظية إلى مواقف عملية، عبر تفعيل الآليات القانونية والإنسانية المنصوص عليها، بما في ذلك اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية، وفرض تدابير رادعة على إسرائيل لوقف المجازر اليومية بحق سكان غزة المحاصرين.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية