بين نار القصف والمجاعة.. أجساد الصغار في غزة تخوض معركة البقاء

بين نار القصف والمجاعة.. أجساد الصغار في غزة تخوض معركة البقاء
طفلة تصرخ طلبا لمساعدة غذائية في غزة

في قلب الحصار المتواصل منذ أكثر من 17 عامًا، وعلى وقع غارات جوية متكررة ودمار يكاد يغطي كل زاوية، يقف آلاف الأطفال في قطاع غزة عاجزين أمام كارثة صامتة: "سوء التغذية الحاد" فأجساد الصغار النحيلة تحولت إلى خطوط مواجهة جديدة، ترسم بخطوطها العظمية خريطة ألم مستمر، لم يعد يلتقطه سوى تقرير أممي أو عدسة مصور إنساني.

وبحسب أحدث تقارير وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، تضاعفت معدلات سوء التغذية بين الأطفال دون سن الخامسة في قطاع غزة بين شهري مارس ويونيو، فقد أجرت مراكز الأونروا الصحية نحو 74 ألف فحص خلال هذه الفترة، كشفت عن أكثر من 5500 حالة سوء تغذية حاد شامل، و800 حالة سوء تغذية حاد وخيم.

ورغم الجهود، تؤكد الوكالة أنها عالجت بالفعل أكثر من 3500 طفل منذ بداية العام الجاري، إلا أن هذه الأرقام لا تكشف سوى جانب من الحقيقة المرة: الجوع يزحف بسرعة أكبر من قدرة المنظمات على التدخل.

انهيار المنظومة الصحية

تعمل ستة فقط من مراكز الأونروا الصحية في غزة حاليًا، إلى جانب 22 نقطة طبية متنقلة، وهذه المرافق تُكافح للبقاء وسط نقص حاد في الأدوية، حيث نفد نحو 57% من الإمدادات الطبية الأساسية، بما في ذلك أدوية ضغط الدم والمضادات الحيوية والأدوية المضادة للفطريات. 

وتقول الأونروا في بيانها: "الأطفال يموتون أمام أعيننا؛ لأننا لا نملك الإمدادات الطبية أو الغذاء المستدام لعلاجهم".

أمام هذا الواقع، يشير تقرير منظمة الصحة العالمية إلى أن ما تبقى من القطاع الصحي في غزة "يعمل بما لا يزيد عن 20% من طاقته المعتادة". وتحذر المنظمة من خطر انهيار كامل للخدمات الطبية إذا استمرت القيود المفروضة على دخول الوقود والأدوية.

الجوع كسلاح صامت

منذ اندلاع الحرب الأخيرة في أكتوبر 2024، شددت السلطات الإسرائيلية الحصار إلى مستويات غير مسبوقة، ووفقًا لتقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) الصادر في مايو 2025، يعيش نحو 1.7 مليون شخص في غزة بلا أمن غذائي، منهم 600 ألف في حالة "انعدام أمن غذائي كارثي"، ما يعني أنهم يعتمدون بشكل شبه كامل على المساعدات الإنسانية التي تصل متقطعة.

الأخطر أن تقريرًا أصدرته منظمة" أنقذوا الأطفال (Save the Children)" في مارس 2025، حذّر من أن سوء التغذية المزمن سيؤدي إلى تبعات طويلة الأمد، مثل تأخر النمو العقلي والجسدي، وتراجع القدرات التعليمية، ما يهدد جيلاً كاملاً بالضياع.

وبين ركام الأبنية ونقص مياه الشرب، يجد الأهالي أنفسهم أمام تحدٍّ شبه مستحيل: إطعام أطفالهم، تقول أم محمود (32 عامًا)، وهي أم لثلاثة أطفال: "أطفالي يسألون عن الطعام أكثر مما يسألون عن المدرسة.. صرنا نحتفل بالحصول على وجبة دجاج وكأنها عيد".

وتضيف: "ابني الصغير لم يعد يقوى على اللعب.. يقضي وقته مستلقيًا، وعيناه غائرتان.. الأطباء قالوا إنه بحاجة لعلاج غذائي سريع، لكنه غير متوفر".

حصار طويل الأمد

بدأ الحصار الإسرائيلي على غزة عام 2007 بعد سيطرة حركة حماس على القطاع. لكن جذور الأزمة أعمق؛ فقد شهدت غزة ثلاث حروب كبرى بين 2008 و2014، إضافة إلى جولات قتال متكررة لاحقًا، دمّرت البنى التحتية، بما فيها المستشفيات ومحطات المياه والكهرباء.

وفي السنوات الأخيرة، سُمح بدخول مساعدات إنسانية محدودة وفق آلية رقابة مشددة، لكنها لم تغطِّ سوى جزء يسير من الاحتياجات المتزايدة.

وتقدّم الأونروا يوميًا نحو 15 ألف استشارة صحية، ووصل عدد الاستشارات منذ بداية الحرب الأخيرة إلى أكثر من 9 ملايين استشارة، غير أن استمرار هذا العمل يزداد صعوبة مع وجود 188 منشأة للأونروا داخل ما يسمى "المنطقة العسكرية الإسرائيلية" أو مناطق صدرت بشأنها أوامر تهجير.

ويشير تقرير برنامج الغذاء العالمي (WFP) الصادر في أبريل 2025 إلى أن 85% من سكان غزة يعتمدون كليًا على المساعدات الغذائية، لكن البرنامج نفسه اضطر لتقليص مساعداته مرات عدة بسبب نقص التمويل.

أصوات دولية

أعرب الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في مايو الماضي عن "قلق بالغ" إزاء تدهور أوضاع الأطفال، مطالبًا بفتح ممرات إنسانية دائمة، بينما دانت منظمة العفو الدولية (Amnesty) استخدام الحصار كسلاح جماعي يعاقب المدنيين، وهو ما يعتبر انتهاكًا صريحًا للقانون الدولي الإنساني.

في المقابل، تؤكد الحكومة الإسرائيلية أن الإجراءات الأمنية ضرورية "لمنع تهريب الأسلحة إلى غزة"، لكن منظمات دولية تعتبر أن هذه السياسات تسببت فعليًا في مجاعة متصاعدة.

وأجري 74,000 فحص للأطفال دون سن الخامسة بين مارس ويونيو 2025، 5,500 حالة سوء تغذية حاد شامل، 600,000 شخص في مستوى "انعدام أمن غذائي كارثي"، نفاد 57% من الأدوية الأساسية في غزة، 1.7 مليون يعيشون بلا أمن غذائي.

مسار قاتم.. وأمل هش

لا تزال المنظمات الأممية تدعو لزيادة التمويل الإنساني، وإدخال الوقود والأدوية دون قيود، وإنشاء ممرات آمنة لنقل الغذاء والجرحى، لكن حتى هذه اللحظة، تبقى الاستجابة أقل من المطلوب بكثير.

وفي قطاع صغير مكتظ يسكنه أكثر من مليوني نسمة، تحوّل الجوع إلى سلاح صامت يفتك بأكثر الفئات هشاشة، وفيما تنقل الشاشات مشاهد القصف والانفجارات، يبقى الجوع والأمراض أقل ظهورًا، لكنه لا يقلّ فتكًا.. فهنا، أجساد الأطفال لم تعد فقط ضحايا للحرب، بل صارت سطورًا دامية في دفتر المواجهة المفتوحة مع الحصار.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية