حماية الحقوق بين تراجع التمويل وصعود التحديات.. هل تنجح اللامركزية؟
حماية الحقوق بين تراجع التمويل وصعود التحديات.. هل تنجح اللامركزية؟
حين يفر ناشط من منزله ليلًا بعد تهديد مباشر، أو تُجبر صحفية على مغادرة بلدها تحت وطأة الملاحقة القضائية، لا يملك نظام حماية حقوق الإنسان ترف الانتظار، طوال عقدين اعتمدت المنظومة الدولية على أدوات إطفاء حرائق سريعة استجابة للأزمات، لكن اتساع رقعة المخاطر وتراجع التمويل يفرضان اليوم سؤالًا أعمق: كيف تتحول الاستجابة اللحظية إلى أنظمة حماية مستدامة تُدار محليًا وتتكامل دوليًا، فلا ينجو الأشخاص فحسب، بل تبقى حركاتهم قادرة على العمل والشفاء والاستمرار.
تتقاطع ثلاثة اتجاهات ضاغطة، أولها: تضخم حجم الاحتياجات الإنسانية عالميًا مع مستويات تهجير غير مسبوقة، إذ تشير بيانات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين إلى أن عدد المهجرين والنازحين من ديارهم تجاوز 122 مليون شخص بحلول أبريل 2025، وهو رقم يترجم إلى طلب هائل على خدمات الحماية والمرافعة والمساعدة القانونية والأمن الرقمي في البيئات الهشة.
ثانيها: انكماش الموارد المخصصة للحماية مقارنة بالاحتياجات، فوفق نظرة عامة إنسانية عالمية صدرت منتصف 2025، قُدرت المتطلبات المالية السنوية للعمل الإنساني بنحو 44 مليار دولار لمساندة 178 مليونًا من الأشد احتياجًا، مع فجوات تمويلية واسعة تؤثر مباشرة في برامج الدعم والحماية.
أما الاتجاه الثالث، فهو التقلص المستمر في مساحات المجتمع المدني، إذ تفيد متابعات مراقبة الفضاء المدني بأن نسبة صغيرة فقط من سكان العالم تعيش في بلدان تتمتع بفضاء مدني مفتوح حقًا، ما يعني أن المدافعين عن الحقوق يعملون أكثر فأكثر تحت رقابة وتجريم وعسكرة للقوانين.
لماذا لم يعد نموذج الطوارئ كافياً
تكشف تجربة برامج المساعدة الطارئة أن أدوات الإغاثة السريعة تنقذ الأرواح وتوفر متنفسًا حاسمًا، لكنها لا تكفي وحدها حين تتحول المخاطر إلى حالات مزمنة، وتظهر البيانات المرجعية أن برنامج المساعدة الطارئة دعم منذ 2007 أكثر من 17 ألف مدافع ومنظمة وناجٍ في 142 بلدًا، وقال 96 في المئة من المستفيدين إنهم صاروا أكثر أمانًا وتمكن 86 في المئة من مواصلة عملهم لاحقًا، غير أن تجميد التمويل أو تقلبه يترك ثغرات قاتلة في مسارات التعافي وبناء القدرات، ويؤكد الحاجة إلى نموذج جديد يقوم على اللامركزية وتمكين الآليات المحلية والإقليمية وتخصيص دور تكميلي متخصص للمنظمات الدولية.
بين التضييق القانوني وأدوات التجسس التجارية تعددت طرق استهداف الصحفيين والنشطاء، وقد وثقت منظمات تقنية وحقوقية موجات جديدة من الهجمات باستخدام برمجيات تجسس تجارية طالت معارضين ومدافعين، بما يعمق تكاليف الحماية الرقمية.
الضحايا في قلب المعادلة
لا تُقاس الفاعلية بعدد المنح المصروفة فقط، بل بقدرة النُظم على تقليل الخطر وإتاحة التعافي النفسي والاجتماعي والمهني. حين تُفكك الأسر وتُغلق المساحات العامة ويتواصل التهديد عبر الحدود، يصبح الوصول إلى مساكن آمنة ودعم قانوني ونفسي وأدوات حماية رقمية وتدريب متخصص، غير منفصل عن الحق في الحياة والكرامة والعمل المشروع. وتبيّن تقارير مستقلة أن المدافعين البيئيين والسكان الأصليين معرضون على نحو خاص للعنف المميت، ما يفرض مقاربات محلية حساسة للسياقات الثقافية والاجتماعية.
القانون الدولي يوفر الإطار والمساءلة تتعثر
يمتلك المجتمع الدولي إطارًا معياريًا متينًا يبدأ بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان ويتعزز بإعلان الأمم المتحدة بشأن المدافعين عن حقوق الإنسان الصادر عام 1998، إضافة إلى مبادئ إرشادية وسياسات لدى تكتلات إقليمية مثل الاتحاد الأوروبي الذي اعتمد خطوطًا توجيهية عملية للتواصل والدعم الطارئ للمدافعين، لكن الفجوة بين النص والتطبيق تتسع كلما ضعفت آليات التمويل والمتابعة، وتراجع الضغط الدبلوماسي، وتعقدت البيئات القانونية في الدول، فبناء منظومات مستدامة يقتضي من الحكومات والجهات المانحة تفعيل هذه الأطر بإجراءات واقعية، من تأشيرات حماية ومسارات لجوء سريعة إلى تخصيص تمويل مرن طويل الأجل للمخاطر الممتدة.
لامركزية تُعيد القوة إلى الخطوط الأمامية
النقلة المقترحة تقوم على تحويل البرامج الدولية من مزود خدمات مباشر إلى وسيط وشريك ومُيسّر يبني قدرات شركاء محليين وإقليميين لقيادة الاستجابة، وتلعب الجهات الدولية هنا دورًا تكميليًا في سد الفجوات التي يصعب على المستويات المحلية تغطيتها، مثل التمويل متوسط وطويل الأجل لمنفيين يواجهون تهديدًا ممتدًا، ودعم مساكن وملاجئ آمنة داخل البلدان وخارجها، وخدمات الأمن الرقمي المتقدمة، وتمويل للمجتمعات المهمشة، وحلول مبتكرة لتنمية الموارد الذاتية.
ماذا يعني ذلك للمانحين والحكومات؟
يتطلب الانتقال إلى أنظمة حماية مستدامة حزمة سياسات متكاملة؛ أولًا: تمويل مرن متعدد السنوات يتيح التخطيط وبناء القدرات بدل الدوران في حلقة الاستجابة الفورية، ثانيًا: صناديق مناطقية تُدار محليًا مع معايير شفافة ومساءلة واضحة، بحيث تصل الموارد بسرعة لمن هم في أمسّ الحاجة إليها، وثالثًا: شراكات ثلاثية بين منظمات محلية وإقليمية ودولية تضمن التكامل وتوزيع الأدوار تبعًا للقيمة المضافة، ورابعًا: مسارات حماية عابرة للحدود تشمل تأشيرات إنسانية عاجلة وإقامات مؤقتة للمدافعين المهددين، إلى جانب برامج إعادة تموضع مؤقت للمؤسسات الإعلامية ومنظمات المجتمع المدني، وخامسًا؛ إدماج الحماية الرقمية والنفسية معياراً إلزامياً في كل منحة أو برنامج، مع منصات تدريب مفتوحة المصدر وسريعة الاستجابة.
مؤشرات قياس لا تكتفي بعدّ المستفيدين
التحول إلى الاستدامة يقتضي تغيير أدوات القياس، حيث لا تعكس أعداد المنح وحدها أثر الحماية، ولكن ثمة حاجة لمؤشرات تتبع الانخفاض في مستويات الخطر الفردي والمؤسسي بمرور الوقت، واستمرارية المنظمات المحلية في العمل، ومعدلات التعافي المهني والنفسي للناجين، واتساع شبكات التضامن العابرة للحدود، ونجاعة آليات الاستجابة المحلية في سد الفجوات دون انتظار تدخل خارجي، وهكذا تتحول الحماية من استجابة إلى بيئة تمكينية قوامها الوقاية والجاهزية والقدرة على الصمود.
أصوات من الميدان
تُظهر روايات مدافعين وصحفيين ومحامين أن أبسط حلقات الحماية تغيّر المسار من سلفة صغيرة لتأمين سكن آمن أسبوعين ريثما يُستكمل ملف لجوء، إلى تدريب مكثف على الأمن الرقمي يمنع اختراقًا قد يعرّض مصادر للخطر، إلى دعم قانوني يوقف محاكمة تعسفية، وحين تكون الشبكات محلية القيادة وسريعة القرار، تقل الكُلفة الإنسانية ويتراجع الزمن الفاصل بين التهديد والحماية، لهذا تسعى المنظمات المحلية إلى امتلاك القرار المالي والإداري، على أن يبقى الدعم الدولي حاضرًا بوصفه رافعة لا بديلاً.
خارطة طريق عملية
تؤكد المنظمات الإنسانية أنه على المانحين تنويع قنواتهم بعيدًا عن مركزية مفرطة، وتوسيع الشراكات مع صناديق المجتمع المدني المحلية، والاعتراف بالتكاليف الفعلية للسلامة المهنية والنفسية ضمن الموازنات، وعلى الحكومات تحديث أدوات الحماية عبر اتفاقيات ثنائية لتسهيل التأشيرات الإنسانية للمدافعين، وإنشاء نقاط اتصال دبلوماسية مختصة، وتفعيل أدلة إجرائية لتنفيذ الالتزامات الدولية تجاه المدافعين. أما المنظمات الدولية، فمهمتها تمكين شركائها بالأدوات التقنية والإدارية وربطهم بشبكات تمويل متجددة، مع الاستثمار في مشاركة المعرفة وأفضل الممارسات عبر أقاليم متشابهة المخاطر.
تجدر الإشارة إلى أن منظومة حماية الحقوق الحديثة تطورت مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، ثم تعززت بإعلان الأمم المتحدة بشأن المدافعين عن حقوق الإنسان 1998 الذي وضع التزامات واضحة على عاتق الدول لتوفير بيئة تمكينية، وقد اعتمد الاتحاد الأوروبي عام 2004 خطوطًا توجيهية لدعم المدافعين وأدوات عملية للتواصل معهم في الميدان.
على الأرض، ظلّ عبء الحماية موزعًا بين منظمات محلية وإقليمية ودولية، مع دور متنام للوسطاء الخيريين في ربط الموارد العالمية بالحاجات المحلية، لكن العقد الأخير شهد تقلصًا في الفضاء المدني عالميًا، مع تأكيد تقارير رصد أن نسبة محدودة فقط من سكان العالم تعيش في بيئات تسمح بالعمل المدني دون قيود جوهرية، في حين ظل العنف ضد المدافعين، خصوصًا البيئيين والسكان الأصليين، ظاهرة مقلقة وثقتها تقارير مستقلة بأرقام مئات القتلى في عام واحد. في المقابل، واصلت الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية التأكيد على الإطار المعياري، لكن اتساع فجوات التمويل الإنساني كبح قدرة البرامج على الوصول المستدام، ما يعزز وجاهة التحول نحو اللا مركزية.