أزمة مياه الضفة الغربية.. حين يتحول العطش إلى أداة لاقتلاع الفلسطينيين من أرضهم
أزمة مياه الضفة الغربية.. حين يتحول العطش إلى أداة لاقتلاع الفلسطينيين من أرضهم
تشهد الضفة الغربية المحتلة واحدة من أخطر أزماتها المعيشية والإنسانية في العقود الأخيرة، مع تفاقم نقص المياه الناجم عن تصاعد هجمات المستوطنين الإسرائيليين المتطرفين على الينابيع والآبار وخطوط التوزيع.
وفي وقت يعد فيه الماء أساس الحياة ومصدراً للزراعة وبقاء المجتمعات، يجد الفلسطينيون أنفسهم أمام معركة يومية من أجل الحصول على بضع لترات تسد احتياجات أسرهم، فيما تشير منظمات حقوقية ودولية إلى أن الأزمة ليست مجرد عارض مؤقت بل نتيجة سياسة ممنهجة تستهدف إضعاف الوجود الفلسطيني على أرضه.
في مدينة رام الله، العاصمة الإدارية للسلطة الفلسطينية بالضفة الغربية، يضطر السكان إلى التزاحم عند صنابير عامة لتعبئة أوعية بلاستيكية بعدما جفّت صنابير المنازل، مشهد يختزل معاناة آلاف الأسر التي تحولت حياتها إلى بحث دائم عن الماء، وفقا لوكالة "رويترز".
وتقول أم زياد، وهي سيدة خمسينية: الماء أساس الحياة، لكن المستوطنين قطعوا المياه عن كفر مالك وعن مناطق أخرى توزع على الضفة، فصرنا ننتظر ساعات طويلة أمام الصنابير العامة.
وفي القرى المحيطة برام الله وسلفيت ونابلس، تكررت شكاوى المزارعين من فقدان مياه الري، ما انعكس على الحقول والمحاصيل، ويؤكد عبد الله بعيرات، وهو من سكان قرية كفر مالك، أن المستوطنين يدخلون إلى محطات المياه في عين سامية، يكسرونها ويخلعون الكاميرات ويقطعون المياه لساعات، هذه المياه تسقي 70 ألف فرد، لكننا اليوم بلا مصدر ثابت.
أرقام مقلقة
تُظهر بيانات الأمم المتحدة حجم الكارثة المتصاعدة، فقد سجل مكتب الشؤون الإنسانية "أوتشا" خلال النصف الأول من العام الجاري 62 واقعة تخريب طالت آباراً وخطوط أنابيب ومحطات توزيع مياه، كما وثقت المنظمة 925 حادثة عنف نفذها مستوطنون ضد فلسطينيين وممتلكاتهم في الأشهر السبعة الأولى من العام، بزيادة 16 في المئة على العام السابق، وهو ما يعكس اتجاهاً تصاعدياً.
أما مصلحة مياه القدس فقد أكدت أن محطة عين سامية، التي تخدم نحو 20 قرية فلسطينية وبعض أحياء رام الله، باتت هدفاً متكرراً، ما يهدد حياة عشرات الآلاف.
أزمة المياه ليست وليدة اللحظة. فمنذ احتلال الضفة الغربية عام 1967، أخضعت إسرائيل الموارد المائية لسيطرة عسكرية واقتصادية محكمة، وبموجب اتفاقيات أوسلو الثانية عام 1995، تم إنشاء لجنة مشتركة للمياه، لكنها عملياً أبقت الكلمة الأخيرة بيد الجانب الإسرائيلي، ووفق دراسات حقوقية، فإن إسرائيل نادراً ما توافق على مشاريع فلسطينية جديدة لتطوير أو توسيع البنية التحتية للمياه، ما جعل الفلسطينيين رهائن شبكة هشة تعتمد على تصاريح نادراً ما تصدر.
تقرير أصدرته منظمة "بتسيلم" الحقوقية الإسرائيلية في أبريل 2023، وصف أزمة المياه في الضفة بأنها "نتيجة مقصودة لسياسة تنطوي على تمييز"، مؤكداً أن المستوطنين يعيشون في وفرة مائية بينما يحرم الفلسطينيون من الحد الأدنى للاحتياجات.
السيطرة على الينابيع
أشارت منظمات حقوقية محلية ودولية إلى أن المستوطنين سيطروا في السنوات الأخيرة على معظم الينابيع الطبيعية في الضفة الغربية، مانعين الفلسطينيين من الوصول إليها. ويعد نبع عين سامية مثالاً صارخاً على ذلك، حيث تحول من مصدر حياة لأجيال فلسطينية إلى منطقة مغلقة أمام أصحاب الأرض.
وفي موازاة ذلك، تتوسع المستوطنات حول القرى الفلسطينية بوتيرة متسارعة، ما يضاعف الضغط على الموارد الشحيحة، وتعتبر الأمم المتحدة ومعظم دول العالم أن هذه المستوطنات غير قانونية بموجب القانون الدولي وتشكل عقبة أمام حل الدولتين.
أزمة المياه تضرب في عمق الحياة اليومية للفلسطينيين، ففي ظل انقطاعات متكررة، يعتمد كثيرون على شاحنات خاصة لنقل المياه بتكلفة مرتفعة، ما يثقل كاهل الأسر محدودة الدخل، وتنتشر خزانات المياه البلاستيكية فوق أسطح المنازل، لتخزين ما يصل من مياه أمطار أو كميات محدودة من الشبكة العامة.
يقول وفيق سليم، وهو رجل ستيني من رام الله: إذا استمر المستوطنون في قطع المياه فنحن سنضيع. أهم شيء الماء. بدونه لا يمكن أن نعيش ولا أن نزرع.
وفي القطاع الزراعي، أدى نقص المياه إلى جفاف مساحات من الأراضي الزراعية، وتراجع إنتاج الزيتون والخضراوات، ما انعكس على الأمن الغذائي وزاد اعتماد السكان على المساعدات.
المواقف الدولية والقانونية
تؤكد الأمم المتحدة أن الاعتداء على مصادر المياه يمثل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني الذي يلزم قوة الاحتلال بضمان رفاه السكان المدنيين، وقد شددت تقارير صادرة عن مجلس حقوق الإنسان على أن حرمان المجتمعات من الموارد الأساسية، مثل الماء، قد يرقى إلى "عقاب جماعي".
منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية" حذرتا مراراً من أن سياسات إسرائيل في الضفة الغربية، بما في ذلك السيطرة على المياه، تشكل جزءاً من نظام فصل عنصري يميز ضد الفلسطينيين.
أما على المستوى الأوروبي، فقد صدرت بيانات عن الاتحاد الأوروبي في مناسبات عدة تدين الاعتداءات على البنية التحتية للمياه وتعتبرها "إجراءً غير مقبول يقوّض فرص السلام"، ومع ذلك، لم تترجم هذه الإدانات إلى ضغوط ملموسة توقف الانتهاكات.
مسؤوليات متبادلة وجدلية قائمة
الجانب الإسرائيلي، ممثلاً في وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق، يزعم أن السلطة الفلسطينية مسؤولة عن تزويد السكان بالمياه، مشيراً إلى أن إسرائيل تنقل 90 مليون متر مكعب سنوياً، كما ألقت باللوم على "سرقة فلسطينية" للمياه في تفسير الأزمة. غير أن منظمات محلية ودولية تؤكد أن هذه الكميات لا تكفي، فضلاً عن أن قطع المستوطنين للخطوط وتخريب الينابيع يفاقم المشكلة ويجعل من الصعب الحديث عن مسؤولية فلسطينية كاملة.
ويرى مراقبون أن تصاعد الهجمات على مصادر المياه يرتبط بجهود أوسع لدفع الفلسطينيين إلى الرحيل من أراضيهم عبر جعل حياتهم غير ممكنة، فالماء، باعتباره عنصراً لا غنى عنه، يستخدم كسلاح غير معلن لفرض واقع جديد على الأرض، ويكتسب هذا البعد أهمية خاصة في ظل دعوات بعض الساسة الإسرائيليين منذ أكتوبر 2023 لضم الضفة الغربية رسمياً.
أزمة المياه في الضفة الغربية ليست أزمة خدماتية بحتة، بل تعكس صراعاً أعمق على الأرض والموارد والوجود، وبينما يواصل الفلسطينيون كفاحهم اليومي لتأمين حاجاتهم الأساسية، تبقى أعين العالم على مسؤولية إسرائيل كقوة احتلال في حماية حقوق السكان المدنيين.