ورطة «بي بي سي» ما زالت مشتعلة

ورطة «بي بي سي» ما زالت مشتعلة

كان من المفترض أن يكون الأسبوع الأول من الشهر الحالي أسبوعاً جيداً لهيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي»، ففي يوم الخميس 6 نوفمبر (تشرين الثاني)، كان من المقرر بث الحلقة الأخيرة من برنامجها الناجح «الخونة المشاهير»، وكان من المتوقع أن يشاهده ملايين البريطانيين وهم يتابعون نجوم البرنامج يتآمرون ويتلاعبون داخل أروقة قلعة اسكوتلندية أنيقة. غير أنه بحلول موعد البث، وكان الفنان الكوميدي آلان كار هو الفائز، كانت الهيئة قد غرقت مجدداً في أزمة جديدة.

في وقت سابق من ذلك الأسبوع، كشفت مذكرة مسرّبة نشرتها صحيفة «تليغراف» البريطانية المحافظة عن سلسلة من الإخفاقات، أبرزها تعديل مُضلل لمقطع من خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترمب قبيل هجوم السادس من يناير (كانون الثاني) 2021 على مبنى الكابيتول الأمريكي. وتصاعدت الفضيحة لتتحول إلى عاصفة سياسية أدت إلى استقالة المدير العام للهيئة ورئيس قسم الأخبار.

ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد. فقد جاءت هذه الضجة الأخيرة في لحظة تستعد فيها بريطانيا لبدء نقاش حول الدور المستقبلي لهيئة الإذاعة البريطانية وتمويلها، مع اقتراب موعد تجديد ميثاقها الملكي في عام 2027.

وفي مشهد سياسي وإعلامي متزايد الاستقطاب، واجهت الهيئة صعوبة في الحفاظ على التزامها بخدمة المصلحة العامة، وأظهرت عجزاً عن التعلم من أخطائها. وإذا لم تثبت «بي بي سي»، وهي إحدى المؤسسات الرمزية في البلاد، قدرتها على التغيير، فقد يجد مستقبلها بأكمله نفسه مهدداً.

وتُعرف الهيئة شعبياً بلقب «العمة بيب»، في حين يستخدم البعض أوصافاً أقل لطفاً، مثل بول مارشال، قطب الإعلام والمستثمر في قناة «جي بي نيوز» اليمينية المتشددة الذي وصفها مرة بأنها «علجوم عملاق».

وتماثل «بي بي سي» في مكانتها الوطنية خدمة الصحة الوطنية «إن إتش إس»، فمنذ النصف الأول من القرن العشرين، لعبت الهيئة دوراً محورياً في حياة البريطانيين.

ولتصوّر تلك الحياة خلال ذلك القرن، يكفي تصفّح أرشيفها الهائل: فقد بثّت خطابات ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني السابق، خلال الحرب العالمية الثانية، على الرغم من تذمره في السر من تحيزها اليساري.

كما نقلت «بي بي سي» مراسم تتويج الملكة إليزابيث الثانية عام 1953، وتتويج الملك تشارلز الثالث بعد سبعين عاماً. وفيها صنع ديفيد أتينبورو مسيرته من خلال «وحدة التاريخ الطبيعي»، وقدمت للعالم برامج محببة مثل «المخبوزات البريطانية العظيمة»، و«عالم البستانيين»، وربما بدرجة أقل «الرقص مع النجوم».

لكن في عصر يزداد تشرذماً، حيث أصبح سؤال «ما معنى أن تكون بريطانياً؟» أكثر تعقيداً، صار موقع هيئة تفخر بشموليتها وحياديتها أكثر هشاشة من أي وقت مضى.

وقد وقعت «بي بي سي» في سلسلة من الأخطاء غير المبررة، إذ باتت الأزمات في السنوات الأخيرة كثيرة. ففي فترة تولّي المدير العام المستقيل تيم دايفي التي امتدت خمس سنوات، اضطر للاعتذار عن مقابلة شهيرة مع الأميرة ديانا أجراها مارتن بشير قبل 25 عاماً، بعدما تبيّن أن المراسل خدع شقيقها للحصول على تلك المقابلة.

وفي عام 2023، تم تعليق عمل المذيع هو إدواردز الذي أقر لاحقاً بذنبه في ثلاث تهم تتعلق بصور غير لائقة للأطفال.

أما وثائقي «بانوراما» الذي تضمّن المقطع المعدّل من خطاب ترامب، فقد تم بثّه قبل أكثر من عام، غير أنه لم يخرج إلى العلن على نطاق واسع إلا بعد التسريب الأخير. ويتمثل جوهر القضية في أن البرنامج دمج أجزاءً من خطاب ترمب تفصل بينها أكثر من خمسين دقيقة، ما أعطى الانطباع بأنه دعا صراحة إلى اقتحام مبنى الكابيتول في السادس من يناير.

وقد أثار التسريب عاصفة سياسية؛ إذ أعاد اليمين إحياء غضبه مما يعده «تحيز بي بي سي»، وطالب بقطع تمويلها، في حين هدد الرئيس الأميركي برفع دعوى بقيمة مليار دولار.

وردّت الهيئة على ترمب، إذ قدمت اعتذاراً وتعهدت بعدم بث البرنامج مجدداً، لكنها رفضت منحه أي تعويض، مضيفة: «نختلف تماماً في وجود أي أساس لدعوى تشهير».

ويقع نموذج تمويل «بي بي سي» في قلب النقاش حول مكانتها في بريطانيا الحديثة. إذ تحصل الهيئة على الجزء الأكبر من تمويلها من رسم ترخيص يبلغ نحو 230 دولاراً سنوياً، تدفعه جميع الأسر التي تشاهد البث التلفزيوني المباشر، سواء شاهدت «بي بي سي» أم لم تشاهدها.

ويرى مؤيدو «بي بي سي» أن هذا الرسم هو ما يجعلها كنزاً وطنياً، لأنه يتيح لها أن تكون مؤسسة إعلامية عالية الجودة تخدم مختلف فئات المجتمع وتقدم معياراً ذهبياً في الأخبار.

أمّا خصومها السياسيون ومنافسوها في قطاع الإعلام، فيرون أن هذا التمويل المضمون يشوّه المشهد الإعلامي، ويمكّن الهيئة من الانتقال من فضيحة إلى أخرى دون مواجهة العواقب التي تتعرض لها المؤسسات الإعلامية الأخرى.

ومن الضروري السعي للحفاظ على هيئة بث مستقلة ذات طموح شمولي، وخصوصاً مع ازدياد انغلاق الناس داخل فقاعاتهم الخاصة. غير أن التحدي يكمن في أن الجودة والكفاءة مكلفتان، وتشير جميع المؤشرات إلى أن «بي بي سي» ستضطر إلى إنجاز المزيد بموارد أقل. فالتضخم وارتفاع تكاليف المعيشة ما يزالان يرهقان البريطانيين، في حين يواصل حزب «الإصلاح» اليميني بقيادة نايجل فاراج كسب الشعبية. وسيظل رسم الترخيص عرضة للهجوم.

وقد تحتاج هيئة الإذاعة البريطانية إلى الإقرار بأن مستقبلها يكمن في اعتماد نموذج تمويل مختلط.

أما الإجابة عن سؤال: «كيف تكون هيئة بث عامة؟» فلن تصبح أسهل، فبريطانيا لن تعود إلى كونها «أمة واحدة تحت جناح العمة بيب»، إن كانت كذلك أصلاً. ومع ذلك، تبقى «بي بي سي» قادرة على تحسين أدائها.

وفي المدى القريب، يتعيّن عليها التركيز على استعادة ثقة الجمهور من خلال تبنّي قدر أكبر من الشفافية. ومن الخطوات المفيدة أن تعالج أخطاءها فور اكتشافها وبشكل علني. كما يمكنها تحسين صورتها العامة وتعزيز قنوات التواصل مع الجمهور.

لقد ظلّت «بي بي سي» في حالة تراجع منذ سنوات، وسيكون من المأساوي أن يتحوّل ذلك إلى دوامة انهيار.


نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط


 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية