سوريا في البيت الأبيض
سوريا في البيت الأبيض
لم تكن صورة الرئيس السوري أحمد الشرع في البيت الأبيض في مقابل دونالد ترامب صورةً عادية، ولكنها خلاصة ما حدث من تغيّرٍ في كل شيء في المعادلات والحسابات، تطوي عقودًا مضت وتفتح سنواتٍ أخرى قادمة على النقيض تمامًا من سوريا القديمة.. معاكسات لا يمكن أن تُقاس بالعلوم السياسية وحدها، بل الجغرافيا أيضًا حاضرة فيها، فعندما دخل الشرع إلى المكتب البيضاوي طوت خطواته التي قطعها هناك عهود سوريا القديمة تمامًا.
لا يمكن أن يُحصر هذا الحضور في استثناءٍ واحد، ولكن في استثناءاتٍ لا نهاية لها؛ لم يسبق لأيٍّ من قاطني قصر الشعب في سوريا أن فعلها، واستقلّ طائرته الرئاسية قاصدًا الولايات المتحدة للقاء رئيسها. حتى هنا، هناك أيضًا استثناءٌ في الأشخاص؛ في رئيس سوريا الذي لم يتخيل أحد قبل سنواتٍ أن الرجل الذي لا يتجاوز نطاق تأثيره مساحةً محدودة في إدلب، هو ذاته الذي يقصد اليوم البيت الأبيض، ولا ترامب الذي استقبله بعدما كان يطارده قبل سنوات.
في تلك الصورة معادلاتٌ وتغيّرات تتجاوز الرجلين، وتنظر إليها أطرافٌ إقليمية بعين الحذر مرةً، وبعين الحسرة مرةً أخرى، وينظر إليها السوريون بأعين الأمل مراتٍ في أن تؤدي إلى بداية واقعٍ جديدٍ لبلدهم الذي لا يزال في خطواته الأولى نحو التعافي من سنوات الحرب.
طرفٌ ينظر ويترقب بحذرٍ إلى تحركات الشرع في واشنطن، يتابعها وينتظر تأثيراتها، بينما يتحرك هو في سوريا يُمكّن السلطة الجديدة فيها، يسيطر على أراضٍ، يُحرّض أطرافًا ومكوناتٍ في مجتمعها، ويمضي في طريقٍ يريده أن ينتهي به إلى فرض رؤيته ومطالبه عليها، يخشى أن يتحرك الرجل فيُجهض كل ذلك ويؤثر في رجلٍ ليس من السهل أن تُقابله بالاعتراض.
فيما يتحسر طرفٌ آخر على سوريا التي مضت من تحت وصايته، وقُطعت أذرعه فيها، وفقد نفوذه، وخرجت ميليشياته وعناصره وفصائله التي استقدمها من دول جوار سوريا، فقتلت ودمّرت وهجّرت السوريين، وخسر الورقة التي كان يُحرّكها كيف شاء في صراعاته. لا "أسد جديداً" في سوريا، بل هو الرجل الذي حاربهم لعقدٍ من الزمن وانتهى منتصرًا في قلب دمشق.
هو اللقاء الثاني بين الرجلين، تبادلا المصافحة في المرة الأولى وكان لقاؤهما الأول عابرًا، أما لقاؤهما الثاني فكان خاصًا في كل شيء، بقدر خصوصيتهما معًا؛ الأول رئيسٌ أنهى عقودًا من سوريا التي تُعادي كل ما هو أمريكي، وتتحرك لحسابات الآخرين بقدرٍ أكبر من أن تتحرك لحساباتها، والثاني هو الرئيس الذي يُنظر إليه كمخططٍ لشرق أوسطٍ جديدٍ من غزة إلى لبنان فسوريا.
وكما تُقاس السياسة والتحرك فيها بالنتائج، كانت مخرجات اللقاء سريعة، بدايةً من تفاهماتٍ حول دمج قوات سوريا الديمقراطية "قسد" ضمن صفوف الجيش السوري، والتوصل إلى اتفاقٍ أمنيٍّ مع إسرائيل بهدف تعزيز الاستقرار الإقليمي، وتمديد تجميد العمل بقانون "قيصر" لمائةٍ وثمانين يومًا أخرى.
لم يمر اللقاء أيضًا دون أن يُطلق ترامب تعهّدًا من جملة تعهداته في ملف سوريا، فقال للصحفيين الذين تابعوا اللقاء: "سنفعل كل ما في وسعنا لجعل سوريا ناجحة". ستكشف الفترة المقبلة ماذا سيفعل ترامب ليجعل سوريا ناجحة.
يمسك ترامب بلحظة نادرة هي في قلب استراتيجية أمريكية أوسع للتوازن في الشرق الأوسط، فيها ترتيبات للأوراق، نتائجها لا تتعلق به وحده ولكنها تصل إلى موسكو وطهران وتل أبيب ودمشق والعراق ولبنان.











