حماية المشرق المسيحي.. زيارة البابا ورسائل البقاء

حماية المشرق المسيحي.. زيارة البابا ورسائل البقاء
الإعلامية ربى الحجلي

"العلوية ع التابوت والمسيحية ع بيروت".. هتاف اندفع في شوارع سورية من أفواه ظنّت أنها تحمل مفتاح الخلاص فإذا بها تكشف أعماق حقد لم تُفهم مقاصده، لم يكن مجرد صرخة عابرة بل مرآة للهوة التي سقطت فيها البلاد يوم تحوّل وجع الناس إلى فزّاعة طوائف، ويوم صار الانتماء عبئاً يهدد صاحبه بدل أن يكون جذراً يشدّه إلى أرضه.

"العلوية ع التابوت والمسيحية ع بيروت".. هتاف سمعته سوريا في لحظة غرقها الأولى في العتمة وكنت أظن أنه مرّ كغيره من صرخات الجهل لكن صداه يعود الآن وأنا أرى بابا الفاتيكان مثقلاً بوجع المشرق كله يصل إلى  بيروت المدينة المريضة التي تتنفس بصعوبة وتبحث عن خلاص يشبهها ولا تجده.

يعود صدى ذلك الهتاف ليطرق الذاكرة، لا كاتهام فقط بل كتحذير من المسار الذي تاهت فيه المنطقة. فالعاصمة التي كانت حضناً للمسيحيين والمسلمين معاً لم تعد بخير، وسورية التي أرادت ثورة تغيّر مصيرها وجدت نفسها تدفع أثماناً من لحم نسيجها، كأن المشرق كله يسأل أين الملجأ وأين الخلاص إذا تحوّل التنوع إلى لعنة، وإذا صار الحضور المسيحي نفسه مهدداً بين هجرة قسرية ومصير معلّق. هنا يصبح السؤال أشد وطأة كيف يمكن لأرضٍ تفقد أحد أعمدتها أن تنهض وكيف يُكتب لشعبٍ أن يستمر إذا سمح لصوته أن يتحول إلى معول يهدم ركائز وطن.

في يوم مشحون بالعاطفة دخل البابا لبنان البلد الذي يحكي تاريخ الشرق كله في وجعه. بلد الجراح العميقة حيث المباني تصرخ بأزمة مستمرة والشوارع تحمل قصص الانكسار الطويل وقلوب الناس المنهكة من الفقر والانقسامات السياسية والاجتماعية، كان دخوله أكثر من حدث ديني بل رمز حي للمشرق المسيحي كله من لبنان إلى سوريا، من الكنائس القديمة في بيروت إلى الكنائس التي تشعر بالغربة في دمشق وأريافها ومدنها، حيث أنّ أي شعاع أمل يضيء على لبنان ينعكس مباشرة على سوريا، ويذكر الجميع بأن وجود المسيحيين في المشرق ليس خيارا بل ضرورة استراتيجية وهوية ثقافية واجتماعية لا يمكن تعويضها، ومؤكداً أن استقرار المشرق مترابط وأن أي خطوة إيجابية هنا تعني حماية مستقبل المنطقة بأسرها.

الزيارة تحمل رسالة واضحة رغم الانهيار السياسي في لبنان وفشل الدولة في حماية مكوّناتها فإن المسيحيين لا يزالوا حجر الزاوية في التوازن المجتمعي للمنطقة، ودور الفاتيكان كقوة ناعمة يمكن أن يدعم صمودهم ويحمي هويتهم ويعزز الحوار بين المكونات بدل أن تتحول الهجرة أو الدعوات للترحيل إلى خيار متاح.

لبنان اليوم يشكل مرآة للمشرق كله، كل خطوة نحو الاستقرار هناك تُقرأ في دمشق , وكل رسالة أمل تصل إلى سوريا مؤكدة أن استقرار المشرق المسيحي مرتبط بقدرة الدول على حماية التنوع الاجتماعي والسياسي , وأن أي تراجع في لبنان أو سوريا سيكون له أثر مباشر على المنطقة بأسرها.

التحدي يكمن في تحويل الرمزية إلى فعل،  فتح مسارات للحوار الوطني،  دعم مؤسسات الدولة، واستقرارها وسلامها، وحماية المكونات الوطنية على اختلافها وضمان استمرار المسيحيين في الأرض، من دون هذه الخطوات تبقى الرسائل الرمزية مجرد كلمات في الهواء.

كل ما يحدث في لبنان اليوم ليس حدثا لبنانياً محصورا بل مؤشر مباشر على ما قد يطال سوريا إذا لم يتم تحصين المجتمع الوطني والحفاظ على تماسكه.

أعود لأسأل نفسي أين المفر وأين الملجأ حين تصبح بيروت نفسها بحاجة إلى من يأويها وأين الخلاص إذا كان الذين غنوا للموت يرقصون اليوم فوق خراب امتد من سوريا إلى لبنان.

أشعر بأن المشرق من دون مسيحييه يشبه بيتاً انطفأ مصباحه الأخير وأن وجودهم لم يكن يوماً تفصيلاً اجتماعياً بل ضمانة لروح هذا المكان وحقيقته القديمة وأن أي دعوة لتهجيرهم أو تهميشهم ليست سوى تبديد لآخر ما تبقى من معنى في هذه الجغرافيا التي تتشقق تحت الجميع.

وفي لحظة وصول البابا بدا المشهد وكأن المدينة المنهكة تستدعي من يسند كتفها ومن يذكّرها بأنها لم تُخلق لتُترك وحيدة وأن هذا الحضور ليس زينة تاريخية، بل شرطاً من شروط بقاء المشرق نفسه مهما تعددت جراحه واختلفت تسمياته.


* نقلا عن صحيفة "الرأي اليوم"



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية