تحت الشمس الحارقة.. مزارعات تونسيات يبحثن عن مظلة حماية قانونية
تحت الشمس الحارقة.. مزارعات تونسيات يبحثن عن مظلة حماية قانونية
تحت أشعة الظهر الحارقة، حيث يلتقي الغبار بالعرق، تقف المزارعات التونسيات على أطراف الحقول، ينسجن خيوط جهدهن بصمت ثقيل، أكتاف محملة بتعب المواسم، وأيد تشق التراب لتصنع قوت يومهن، فيما تغيب أسماؤهن عن دفاتر الحقوق الإنسانية، ويظل حضورهن أساسياً في الحقل وهشاً في القانون.
ولا تزال القوانين والممارسات الاجتماعية تلهث خلف واقعٍ يضع حدودًا لحقوق المزارعات التونسيات في الأرض والدعم والتمثيل، فتجعل من عملهن ضرورة يومية لا مفر منها بدون اعتراف قانوني، ومن عطائهن ركيزة للإنتاج الزراعي محرومة من الحماية والإنصاف.
وتعيش المزارعات في تونس أوضاعًا مهنية واجتماعية صعبة وبأجور زهيدة تبلغ 15 دينارًا يوميًا (نحو 5 دولارات)، إذ تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن عدد العاملات في المجال الزراعي يفوق 600 ألف عاملة، يمثلن 75% من عدد العاملين في هذا القطاع، ويزيد هذا العدد في مواسم جني المحاصيل كجمع الزيتون وغيره.
وتُظهر دراسات ومسوحات محلية أن نسبة النساء صاحبات المشاريع الزراعية لا يتجاوز نحو 6% فقط، فيما تمتلك النساء أقل من 8% من إجمالي الأراضي الزراعية، وذلك رغم أن ثلاثة أرباع الطلبة في المعاهد الزراعية والفلاحية من الإناث.
وبحسب بيانات المعهد الوطني، ترتفع معدلات الفقر في الريف مقارنة بالمدن، ما يجعل المزارعات عرضة بشكل أكبر لهشاشة الدخل والافتقار إلى الخدمات والائتمان والتهميش الاقتصادي والإقصاء الاجتماعي.
ويوصي الخبراء والنشطاء الحقوقيون بضرورة تعديل سياسات الملكية والتسجيل العقاري، فضلا عن تبسيط إجراءات تسجيل الأراضي باسم النساء، وتنظيم حملات توعية قانونية في القرى لتشجيع التوثيق الرسمي للعقود الزراعية.
كما أشاروا أيضًا إلى إدماج المزارعات في مجالس إدارة الجمعيات التعاونية الزراعية وبرامج التوجيه القانوني المجانية عند النزاع على الأرض، وتنظيم برامج تدريب على تقنيات مقاومة الجفاف، إدارة مياه الري، التسويق، لرفع العائد من مساحة أرض صغيرة.
يأتي ذلك إضافة إلى العمل مع مؤسسات المجتمع المدني والدين لتقليل الممارسات التقليدية التي تحرم النساء من حقوقهن في الميراث الزراعي، عبر حملات توعوية وقوانين تحمي الملكية المتساوية.
وتعد المزارعات التونسيات نبض الريف وعموده الفقري، ومن ثم فإن حماية حقوقهن في الأرض ليست هبة إنسانية فحسب، بل استثمار اقتصادي واجتماعي، يحتاج إلى قوانين تُترجم إلى إجراءات تسجيلية سهلة، وأموال تُحول إلى قروض صغيرة مدروسة، وسياسات تقر بتأثير المرأة الفعلي وتمنحها أدوات القرار.
ظاهرة اجتماعية متجذرة
وبقوله إن "معاناة المزارعات في تونس لم تعد حالة معزولة، بل ظاهرة اجتماعية متجذرة منذ سنوات"، أشار الوزير التونسي السابق وأستاذ علم الاجتماع مهدي مبروك، في حديث لـ"جسور بوست"، إلى أن العاملات الفلاحيات اللائي يعملن في الحقول لا يمتلكن شبرًا واحدًا من الأرض التي يزرعنها.
وأكد مبروك أن الارتفاع المتواصل لتكاليف الإنتاج الزراعي دفع الفلاحين والمقاولين إلى الاعتماد على يد عاملة زهيدة الأجر، غالباً ما تكون نسائية، في ظل غياب شبه تام لأي تغطية قانونية أو اجتماعية تحمي هؤلاء النساء، وهذا الفراغ جعل عملهن ضرورة اقتصادية بلا ضمانات، وحياة يومية بلا أمان.
ولا تتوقف المأساة عند حدود الأجور المتدنية، بل تمتد إلى المخاطر القاتلة التي ترافق رحلة العمل نفسها، فبحسب مبروك، تتعرض العاملات الفلاحيات سنويًا لعشرات حوادث المرور، نتيجة نقلهن في شاحنات مخصصة للبضائع لا للأشخاص، تسير على طرق ريفية وعرة، من دون أي معايير سلامة أو تأمين، وفي كل مرة تنقلب فيها شاحنة، تُزهق أرواح نساء كن في طريقهن لكسب لقمة العيش.
ورغم محاولات متكررة من جمعيات نسوية ومنظمات مدنية للدفاع عن حقوق المزارعات، والمطالبة بتمتيعهن بالتغطية الاجتماعية من تقاعد ومعاش وتأمين، يوضح مبروك أن معظم هذه الجهود اصطدمت بجدار الواقع، وظلت بلا نتائج ملموسة، لتبقى أوضاع النساء الفلاحيات غارقة في هشاشة مالية واجتماعية وقانونية.
ويلفت إلى أن بعض التشريعات التي وُضعت لمساندة العاملات في القطاع الزراعي بقيت حبرًا على ورق، كما فشلت محاولات إنشاء تعاونيات نسوية كان يُفترض أن تحسن ظروف النقل وتدافع عن الحق في الحماية الاجتماعية، ويعزو ذلك إلى صعوبة تنظيم هؤلاء النساء وقدرتهن المحدودة على تشكيل قوة ضغط حقيقية تؤثر في السياسات العمومية أو في قرارات مجلس النواب.
وعلى المستوى الدولي، يشير مبروك إلى وجود مبادرات تقودها منظمات وجمعيات تسعى إلى دعم المزارعات، سواء عبر التكوين أو المطالبة بحقوقهن، إلا أن هذه المساعي، رغم أهميتها، لم تتجاوز حتى الآن حدود النوايا الحسنة، ولم تنعكس تغييرًا فعليًا في حياتهن اليومية.
ويخلص مبروك إلى أن وضع المزارعات في تونس هو وضع مأساوي بامتياز، يشبه ما تعانيه نساء كثيرات في بلدان عربية ومغاربية أخرى، لكنه يبدو أكثر حدة في تونس نظرًا لأهمية القطاع الزراعي في الاقتصاد الوطني واعتماده الكبير على اليد العاملة العائلية والرخيصة.
وفي حديثه لـ"جسور بوست"، أعرب مبروك عن أمله في أن تشهد السنوات المقبلة تحسنًا حقيقيًا في أوضاع المزارعات، بما يضمن لهن المساواة في الأجر مع الرجال، مشيرا إلى أن هجرة الرجال للأعمال الزراعية جعلت النساء العمود الفقري لهذا القطاع، ومع ذلك ما زلن الأكثر استغلالاً والأقل حماية، في ظل غياب سياسات عمومية جادة تعترف بدورهن وتسعى فعليًا إلى إنصافهن.
تغذي دوائر الفقر
ومن جانبه حذر أستاذ الاقتصاد في تونس، الدكتور رضا شكندالي، في حديث لـ"جسور بوست"، من أن هشاشة الأوضاع الاجتماعية للعاملات في القطاع الزراعي لم تعد شأنًا إنسانيًا معزولًا، بل تحولت إلى كلفة اقتصادية حقيقية يدفع ثمنها الاقتصاد التونسي بأكمله، بصمت بطيء لكنه عميق الأثر.
ويؤكد شكندالي أن غياب الحماية الاجتماعية، وافتقار العاملات لظروف عمل لائقة وآمنة، ينعكس مباشرة على الإنتاجية داخل القطاع الفلاحي، إذ يُكرس أنماط الشغل غير المنظم، ويحد من قدرة الزراعة على الإسهام الفعلي في النمو الاقتصادي، كما يقلص من موارد الدولة الجبائية، في وقت تعاني فيه المالية العمومية من ضغوط متزايدة.
ولا تتوقف التداعيات عند حدود الحقول، بحسب شكندالي، بل تمتد إلى عمق المشهد الاجتماعي والاقتصادي في البلاد، فضعف دخول العاملات الفلاحيات يُضعف الطلب الداخلي، خصوصًا في المناطق الريفية المهمشة، ويعمق الفوارق الجهوية بين الداخل والساحل، ويغذي دوائر الفقر والهشاشة، بما يهدد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي على المدى المتوسط والبعيد.
ويشدد أستاذ الاقتصاد على أن الإبقاء على هذا الوضع يعني عمليًا استمرار نموذج فلاحي قائم على العمل الهش منخفض الكلفة، بدلاً من الاستثمار في رأس المال البشري، وتطوير مهارات اليد العاملة النسائية التي تشكل العمود الفقري للإنتاج الزراعي في تونس اليوم.
ويضيف أن هذا النموذج لا يسمح برفع القيمة المضافة للقطاع، ويجعل أي تحسن في الإنتاج وقتيًا وهشًا، وسريع التلاشي مع أول أزمة مناخية أو مالية.
وفي قراءة أوسع للمشهد، يرى شكندالي أن تحسين أوضاع العاملات الفلاحيات لا يمكن فصله عن أي رؤية جدية للإصلاح الاقتصادي، فتمتيع النساء بالحماية الاجتماعية، وضمان أجور عادلة، وتوفير نقل آمن وظروف عمل إنسانية، كلها خطوات تمثل استثمارًا مباشرًا في الإنتاج، لا عبئًا إضافيًا على الدولة كما يُروج أحيانًا.
ويخلص شكندالي إلى أن إنصاف العاملات في القطاع الفلاحي هو شرط أساسي لدعم النمو وتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة، تنطلق من الريف ولا تستثني نساءه، فاقتصاد يقوم على تهميش من يزرعن الأرض سيظل اقتصادًا هشًا، مهما بلغت مساحة الحقول أو حجم المواسم.











