غلاسكو وتحذيرات بوريس جونسون.. سقوط الحضارة العالمية
غلاسكو وتحذيرات بوريس جونسون.. سقوط الحضارة العالمية
إميل أمين
قبل انطلاق أعمال قمة غلاسكو للمناخ، أطلق رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون تحذيرا شديد اللهجة للإنسانية برمتها، حث فيه زعماء العالم على ضرورة تصعيد تصديهم للتغيرات المناخية.
جونسون وبحسب وكالة رويترز، أشار إلى أن الحضارة العالمية يمكن أن تنهار بنفس سرعة انهيار الإمبراطورية الرومانية القديمة، ما لم يتم فعل المزيد.
لدى جونسون قناعة بأن الأجيال القادمة تخاطر بالجوع والصراع والهجرة الجماعية، إذا لم يتم إحراز تقدم في معالجة تغير المناخ.
في هذا السياق يبقى السؤال الأكثر إزعاجا كيف يمكن للعقل البشري أن يتصور انهيارا للحضارة والسقوط المروع الذي يتحدث عنه جونسون، في عالم يحفل بالبنى الاجتماعية والسياسية، العلمية والثقافية، الفكرية والاقتصادية التي يعيشها عالمنا المعاصر، هل ستنهار الحضارات بعد صرخة مدوية في ميدان معركة هرمجدون أم أنها ستنهار مع نشيج يطول عهده، أي من خلال أصوات الغليان المترددة المكتومة في الصدور تارة، والمرتفعة عند البكاء تارة أخرى؟
الشاهد أنه لا توجد صورة أفضل لدورات حياة الحضارات من تلك التي تقدمها لوحات مسار إمبراطورية، وهي سلسلة من خمس لوحات رسمها الفنان الأمريكي “توماس كول”، ومعلقة في معرض نيويورك للمجتمع التاريخي.
كان كول مؤسسا لمدرسة هدسون ريفر، وواحدا من رواد رسامي القرن التاسع عشر للمناظر الطبيعية، تمكن كول بطريقة جمالية من استيعاب نظرية مازالت تأسر أذهان معظم الناس حتى يومنا هذا: “نظرية دورة الحضارة”.
يصور كل مشهد من هذه المناظر الخيالية فوهة نهر عظيم تقبع تحت نتوء صخري.
تصور اللوحة الأولى التي أعطيت عنوان “الحالة المتوحشة” برية خضراء ممتلئة بمجموعة من الصيادين وجامعي الثمار وهم يتحركون بجهد في وجود بدائي قبل فجر عاصف.
أما اللوحة الثانية التي حملت عنوان الحالة الأركادية أو الرعوية، فتمثل لوحة زراعية قطع السكان الأشجار وزرعوا الحقول، كما شيدوا هيكلا يونانيا رائعا .
فيما اللوحة الثالثة وهي الأكبر من بين تلك الرسوم، فتحمل عنوان إتمام إمبراطورية.
هذه اللوحة محفوظة داخل مخزن رخامي كبير، بينما أستبدل الفلاسفة – المزارعون المغتبطون الذين تمثلهم اللوحة السابقة، بحشد من التجار الذين يرتدون ملابس أنيقة، وبحكام وبمواطنين استهلاكيين، وتمثل اللوحة منتصف نهار دورة الحياة.
تأتي بعد ذلك لوحة الدمار، حيث تظهر اللوحة مدينة مغطاة بالسنة اللهب، بينما يفر المواطنون الهاربون من أمام حشد من الغزاة الذين يرتكبون أعمال الاغتصاب والنهب تحت سماء المساء الكئيبة.
يطلع القمر أخيرا فوق لوحة الخراب، ولا يظهر إنسان حي في هذه اللوحة.
هل قصة الحضارات متشابهة؟
ظل المؤرخون والمنظرون السياسيون وعلماء الأجناس البشرية والجماهير بشكل عام يفضلون على مدى قرون عديدة التفكير بشأن صعود الحضارات وهبوطها بأشكال دورية وتدريجية، ويبدو أنها بالفعل تتشابه عبر مراحل: حكم العائلة الملكية، حكم الملك الواحد، الاستبداد، الأرستقراطية، حكم الأقلية، الديمقراطية، حكم الرعاع.
هل كان من الأفضل لتلك الجمهورية الوليدة في عصر كول أن تلتزم مبادئها الريفية الأولى وأن تقاوم مغريات التجارة والفتوحات والاستعمار، أي أن تقاوم العولمة؟
في أوائل القرن العشرين ذهب الشاعر الفرنسي الكبير شارل بودلير إلى أن التكنولوجيا التي يعيش الغرب على واقعها ويرى أنها مبلغ الأمل في حياة إنسانية أفضل سوف تدمر ثقافته، ولم يكن وحده من ذهب ذلك المذهب إذ انضم إليها لروائي الروسي الكبير “ليو تولستوي”، وأكد الأمر نفسه الأديب الروسي الأشهر “فيدور دوستويفسكي” الذي قطع بأن الحضارة الغربية تتجه نحو انهيار مأساوي.
أما جاكوب بورك هارت أحد أبرز المؤرخين في القرن التاسع عشر، فقد شبه أوربا في عصره بروما القديمة حال انحلالها، وما بين روما وبين بروكسيل وواشنطن يلحظ المرء الثراء المادي، غير أنه ثراء مصحوب بحالة واضحة من الانحلال الأخلاقي والديني في ذات الوقت.
هنا يعن لنا أن نطرح علامة استفهام ولا ندعي أو نزعم أننا نملك بشأنها إجابات جامعة مانعة، شافية وافية: “هل أتت المادية على الروحانية؟ هل أراد الغرب التحلل من كل قيمة إيمانية وروحانية وأعتبر الإنسان هو المثال الأعلى كما ذهب نيتشه الفيلسوف الألماني الملحد الذي مضى في خطاه “أودلف هتلر” الزعيم النازي، ذاك الذي قادته رؤاه الشوفينية القاتلة إلى إطلاق شرارة حرب كونية قضت على أكثر من ستين مليون نسمة حول العالم؟
قبل بضعة أعوام قليلة رفض الأوربيين أن يتضمن دستور الإتحاد الأوربي الإشارة إلى أن أوربا لها جذور مسيحية، واليوم ترفض الحضور الإسلامي بنفس الدرجة والقوة، فيما تصحو حركة العداء للسامية من جديد، فهل يعني ذلك أن حالة العلمانية الجافة ساعدت أو تساعد على سرعة انهيار الحضارة الغربية؟
أحد أهم المفكرين الفرنسيين المعاصرين “ريجيس ديبريه” يحدثنا في أحد كتبه عما أسماه “الأنوار التي تعمي”، بمعنى أن الإغراق في العلمانية قد أزاح بعيدا جدا كل قيم إنسانية وروحية، الأمر الذي ولد على جانب آخر من الإنسانية ردود أفعال أصولية متطرفة عانى ويعاني منها الأوربيين، ولهذا يرفض الرجل العلمانية الجافة المسطحة بنفس قدر رفضه للأصوليات المغرقة في الكراهية، والساعية إلى عزل وإقصاء الآخر.
هنا قد يقول قائل: “وما علاقة ذلك بالبيئة والمناخ؟
الجواب ببساطة ويسر أن مجتمعا إنسانيا غير قابل لبعضه البعض، وطبقاته الحضارية غير مرتاحة الواحدة للأخرى، حكما لن يقيم وزنا للطبيعة الغاضبة ، من منطلقات براجماتية غير مستنيرة ، ما يعني أن جونسون على حق وأن انهيارا أسرع من انهيار الإمبراطورية الرومانية يمكن أن تجري به المقادير في وقت قريب.. فأنظر ماذا ترى .