أم عمارة.. أول محاربة وطبيبة في الإسلام قامت بدور "الهلال الأحمر" في العصر الحديث
حقوقيات في زمن النبوة"13"
يقال "لو حكمت النساء العالم لاختفت الحروب"، ولكن ماذا لو اضطرت لخوضها؟
قديمًا وقبل مجيء الإسلام، كانت تُسبى وتغتصب وتقتل، لكنّ ثمة تحولا هائلا أحدثه الإسلام في العقل العربي وكيانه، فأعاد توزيع الأدوار والمسؤوليات في إطار ديني وقيمي يرى أن البشر سواسية وأن لا فرق بين رجل وأنثى إلا بالتقوى والعمل الصالح، وهو ما يعرف لدى مواثيق الأمم المتحدة بـ"المساواة بين الجنسين".
من الشخصيات التي لها حضور في السيرة النبوية وتحتاج إلى قراءة متجددة، وإضاءة كاشفة تبدد غبش التقييم المتسرع لمواقفها الحرة، الصحابية الجليلة نسيبة بنت كعب من بني مازن بن النجار، الملقبة بأم عمارة.
وتُعد أم عمارة رضي الله عنها وأرضاها أول من فتحت باب الجهاد النسائي، لتخط بدمها صفحة مشرقة تؤكد الولادة الثانية، وتتيح للمرأة سبل المشاركة في الحياة العامة، فكانت بداية النموذج الإسلامي لتحرير المرأة عملية على أرض المعارك، لا مجرد بيانات وخطب يكذبها واقع الحال.
كانت رضوان الله عليها تقوم خلال الحروب الإسلامية بالدور الذي تقوم به منظمات الصليب الأحمر في العهد الحديث، فكانت تحمل الماء وأدوات الإسعاف للمقاتلين، كما اشتركت في الدفاع عن الرسول، ويمكن القول إن "أم عمارة" هي أول محاربة من النساء في الإسلام، وقد قال عنها النبي: "ما التفت يميناً أو شمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني، ومن يطيق ما تطيقينه يا نسيبة".
نهر الإبهار لا زال يفيض، القصة تبدأ من حضورها رضوان الله عليها بيعة العقبة الكبرى التي اشترط فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحميه قومها مما يحمون منه أبناءهم ونساءهم، وكيف أن قومها أبدوا استعدادهم للتصدي لجبهة الشرك، وبذل الدماء والأموال في سبيل ما يؤمنون به.
حضرت أم عمارة هذا اللقاء التاريخي ووافقت على شروطه وهي امرأة حديثة عهد بالإسلام، ولا تزال الأدوار الاجتماعية التي حددها المجتمع الجاهلي للمرأة ثابتة وراسخة، فالرجل هو القيّم الطبيعي على البيت، والمرأة تابع له وعليها إطاعة أوامره.
لذا فإن الغاية من خروجها يوم أحد كانت منسجمة مع صورة المرأة في المجتمع آنذاك، فهي خرجت لتنظر ما يصنع الناس، ومعها سِقاء فيه الماء، أي أن مشاركتها لن تتعدى سقاية المقاتلين وتتبع أطوار النزال، فما الذي جرى؟
تقول أم عمارة: "لما انهزم المسلمون اِنحزْتُ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعلت أباشر القتال، وأذبُّ عن رسول الله بالسيف، وأرمي بالقوس، حتى خلُصت إليّ الجراح".
لا شك أن اندفاعتها بالغة الحماس، كانت استشعارا للمسؤولية أمام الشروط التي تضمنتها بيعة العقبة الثانية، وكذلك شروط النصرة وافتداء النبي -صلى الله عليه وسلم- وحمايته.
موقف قوي دال على أن من حق المرأة أن تفجر عطاءها، وتُبرز تضحيتها دون اعتداد بالأدوار المحددة سلفا، فخط العقيدة لا يحتمل التمييز بين الجنسين.
يقول الدكتور محمد عمارة -رحمه الله- في تعقيبه على بيعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للنساء: "فكل ما تستطيعه المرأة وتطيقه فطرتها وأنوثتها من العمل العام، بابُه مفتوح أمامها، طالما لم يؤدِ ذلك إلى طمس للفطرة، أو مخالفة لثابت الدين، وهي في هذه الضوابط الموضوعة على المشاركة في العمل العام، تستوي مع الرجال الذين لا يجوز أن تطمس مشاركتهم في العمل العام فطرة الذكورة والرجولة، ولا أن تخالف ثواب الدين، "التحرير الإسلامي للمرأة. ص33".
وهكذا غيرت أم عمارة تلك القاعدة التي تقول إن الحرب والجهاد شأن من شؤون الرجال، لا تستطيع النساء المشاركة فيه، أو تحمل أعبائه وقسوته، وأكدت عمليًا أن ساحة الجهاد والكفاح الوطني تتسع للرجال والنساء، فالكل يحمل المشاعر الوطنية، والكل يستطيع أن يؤدي واجباته، دفاعاً عن دينه ووطنه وكرامته.
جهادها وصبرها
حكايا ربما ظننت من قوتها وغرابتها أنها محض خيال وهي قصص وثقتها الأحاديث والتي تروي وتشهد بشجاعتها في المعارك وصبرها على مقتل ولدها على يد مسيلمة الكذاب.
فروت كتب السيرة أن أم عمارة وقفت تقاتل بينما الناس يمرون منهزمين، ولم يكن معها ترس تحمي به نفسها من ضربات السيوف، فرأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلا مُوَليا معه ترس فقال: يا صاحب الترس، ألقِ ترسك إلى من يقاتل، فأخذته المازنية، نعم.. ألقِ ترسك إلى من يقاتل، لأن قوة المؤمن في قلبه، وصنع الملاحم ليس مهمة ذكورية خالصة، فكم من ملحمة أحرزت فيها النساء قصب السبق، وألهب إيمانهن وحماستهن قلوب الرجال.
لم يكن حضور أم عمارة في بيعة العقبة مجرد تمثيلية للنساء في حدث بالغ الأهمية، وإنما تأكيد على دورهن في بناء الأمة، الذي هو امتداد طبيعي للبناء الأسري.. وحين يتطلب المنعطف الحاسم قرارا مصيريا، فلا شك أن التضحية بأولي القربى لصالح الدين ونصرة العقيدة هو الاختيار الأمثل، سواء لمن هاجروا، أو لمن آووا ونصروا لا فرق.
لذا كانت مواقف أم عمارة تجاوبا مع هذا التصور وتلك القناعة، لذا حين جاءها نعي ابنها حبيب، الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم رسولا إلى مسيلمة، فقتله الكذاب شر قتلة، لم تزد على أن قالت: من أجل مثل هذا الموقف أعددته، وعند الله احتسبته.
لقد بايع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة صغيرا، ووفّى له اليوم كبيرا، واستمرارا في ترسيخ النموذج الفريد للمرأة المسلمة، وتأكيد أن إعلاء كلمة الله غاية يستوي في السعي إليها الرجال والنساء، فقد حرصت على حضور المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واجتهدت يوم اليمامة أن تصل إلى مسيلمة لولا أن يدها قُطعت وأثخنتها الجراح، فعادت إلى المدينة بيد واحدة وابن وحيد، وسجل حافل بالمكرمات.
ورغم قوة إيمانها وتسليمها بقضاء الله وقدره، فإنها حزنت على ولدها "حبيب" الذي أرسله النبي -صلى الله عليه وسلم- برسالة إلى مسيلمة الكذاب فقتله بعد أن أهانه وعذبه.
سأله الكذاب: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول: نعم، فيقول له: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع شيئاً، أخذ الكذاب يقطع بسيفه في جسم الفتى المؤمن الصابر، فلا يزيده التعذيب إلا عزماً وصلابة وإيماناً وإحساناً حتى مات، وعلمت بموت ولدها فنذرت ألّا يصيبها غسل حتى يقتل مسيلمة، ووفت بنذرها.
طبيبة المجاهدين
وإلى جانب دور أم عمارة البطولي في المعارك، وشرف الدفاع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت أم عمارة تقوم بواجبها الإنساني في تمريض المجاهدين، حيث كانت تحمل الأربطة على وسطها، وكلما أصاب أحد المجاهدين جرح، جرت إليه وضمدت جراحه، وطلبت منه أن ينهض بسرعة ليستأنف الجهاد في سبيل الله، وكما فعلت مع الجميع، فعلت مع ابنها الذي جرح في أُحد، وقالت له بعد أن أسعفت جراحه: قم وانهض إلى الجهاد، وعندما شاهد النبي "صلى الله عليه وسلم" ما أصاب ولدها أشار إلى أحد المشركين، وقال: "هذا ضارب ابنك" فسارعت إليه وضربته في ساقه فوقع على الأرض وأجهزت عليه.
وعاشت تجاهد في سبيل الله بكل ما أوتيت من عزم وقوة، وكلمة الحق على لسانها، والسيف في يدها، ووعاء الماء في اليد الأخرى، والأربطة حول وسطها تضمد بها الجراح أثناء الغزوات، وكانت كلماتها ترفع همم المجاهدين، وتشد من أزر المقاتلين، فيكون النصر حليفهم، والسداد رفيقهم.
الثأر من مسيلمة الكذاب
وتمضي السنون وترتفع راية الإسلام ويفتح المسلمون مكة، ويلتحق النبي -صلى الله عليه وسلم- بالرفيق الأعلى، وينقلب المرتدون المنافقون على أعقابهم، فكانت معركة اليمامة وهي من أشرس المعارك على المسلمين وفيها قتل ابنها حبيب، فمضت تطلب قتل عدو الله مسيلمة الكذاب، فإذا به قتيل، وإذا عبدالله ابنها الآخر هو الذي أخذ بثأر أخيه وخلّص الإسلام من رأس الفتنة.
تذكرت وعد النبي الكريم، ووعده حق، أنها معه في الجنة، هي وأهلها، وتذكرت ردها عليه، بألّا يشغلها أمر من أمور الدنيا أو تجزع لصروفها ومصائبها، ولكن تصبر وتحتسب لتنال في نهاية المطاف جزاء المحسنين الصابرين.
وفاتها
توفيت أم عمارة في خلافة عمر رضي الله عنهما عام 13هـ، ماتت ولكن ستظل السيرة الطيبة لهذه الفارسة النبيلة على كل لسان إلى يوم الدين، وسيذكر المسلمون لها هذه المواقف النبيلة.
المراجع :
- الاستيعاب - أسد الغابة - حلية الأولياء - الطبقات الكبرى - الإصابة في تمييز الصحابة - نصب الراية - سنن الترمذي - مسند الحارث - زوائد الهيثمي - البداية والنهاية.