عام 2023.. السجل الأسوأ في تاريخ السودانيين الحقوقي

عام 2023.. السجل الأسوأ في تاريخ السودانيين الحقوقي

مدير وحدة مكافحة العنف ضد المرأة والطفل: الكثير من المعنفات يحجمن عن الإبلاغ بما لحق بهن

ناشطة حقوقية: الوضع الحقوقي في السودان خلال عام 2023 هو الأسوأ منذ عقود 

ناشط حقوقي: إرساء سلام مستدام هو أولى الخطوات لاستعادة الحقوق وإرساء دولة القانون

ناشطة مدنية: الانتهاكات في تزايد وأعداد المفقودين أكبر في مناطق سيطرة الدعم السريع

السودان- الفاتح وديدي

في أحد أحياء محلية شرق النيل، يونيو الماضي، كانت الناجية (سعاد) تقاوم آلامها الجسدية والنفسية بانتظار بروتوكول علاجي يداوي عنها بعض الآثار التالية لعملية اغتصاب تعرضت لها، بعد اقتحام منسوبي قوات الدعم السريع حيهم العريق بالعاصمة السودانية.

ولأن الوقت لا يرحم والجرعات العلاجية لا تنتظر، اضطر النشطاء وبعض أعضاء الطواقم الطبية بالمنطقة للاستعانة بأحد رجال المليشيا من الموجودين بنقاط الارتكاز، بغية الحصول على الدواء بأسرع السبل.

وليس ثمة سبيل لقياس كم القهر النفسي لدى الأسرة ولجان المقاومة في الحي الذين أجبرتهم الضرورات على الاستعانة بالمغتصبين المحتملين، لإنقاذ (سعاد).

وتجسد الحكاية ربما أحد الأوجه البائسة لحرب كارثية في السودان تدخل شهرها العاشر بلا مؤشرات لنهايتها حتى الآن، ودون ضوء يلوح في آخر النفق، فيما يبدي الفاعلون الدوليون مخاوف بالغة من الأثر المدمّر للقتال على المدنيين في البلاد.

تعنيف النساء

لا تقتصر المأساة على حكاية سعاد -وهو اسم حركي- وحدها، فطبقاً لتقارير رسمية سُجلت 136 حادثة عنف جنسي مرتبط بالنزاع في البلاد حتى ديسمبر الحالي.

لكن الأرقام الموثقة لا تمثل أكثر من 2 في المئة من جملة الحالات، حسب ما تقول مدير وحدة مكافحة العنف ضد المرأة والطفل بالسودان، الدكتورة سليمى إسحق، خلال إفادتها التي خصت بها "جسور بوست"، مشيرة إلى أن الكثير من المناطق لم يحصل بها تحديث للأرقام لانقطاع شبكات الاتصال وصعوبة الوصول للحالات، بالأخص في ولايات دارفور، بالإضافة لتفشي الوصمة الاجتماعية والتي بسببها تحجم الكثير من المعنفات عن التبليغ بالأذى الذي حاق بهن.

وتصف المسؤولة الحكومية الوضع الحقوقي في البلاد أنه الأسوأ خلال الفترة الأخيرة، سيما وأنه قد ألقى بأعباء ثقيلة على النساء والفتيات والأطفال، بوجه الخصوص، مؤكدة أن الأخطار ما زالت محدقة وفي تزايد، خصوصا في ما يلي عمليات الاسترقاق الجنسي وبيع الفتيات واستغلالهن الجنسي، بخلاف حالات التحرش واختطاف الفتيات وإجبارهن على الزواج واحتجازهن مقابل الحصول على فدية، وكافة أشكال العنف الأخرى الموجهة ضد النساء.

وترد التقارير بصورة أساسية من ولاية الخرطوم ومن منطقتي دارفور وكردفان، لكن هذه الأرقام ليست سوى غيض من فيض.

ويبدي خبراء الأمم المتحدة قلقهم من التقارير التي تفيد باستخدام واسع النطاق للاغتصاب والعنف الجنسي ضد النساء والفتيات من قبل قوات الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها.

سليمى إسحق

سجل الفظائع الأسوأ

ويوصف عام 2023 من قبل الفاعلين المحليين بأنه الأشد قتامة، عندما يتعلق الأمر بسجل السودان الحقوقي، إذ اكتنز بانتهاكات جسيمة لحقوق الأفراد والجماعات جراء دوامة العنف المستمر، بما في ذلك انتهاكات للقانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الإنسان.

وتجزم الناشطة الحقوقية رحاب مبارك، خلال حديثها إلى "جسور بوست" بأن عام 2023 أسوأ السنوات التي مرت على السودانيين من حيث الوضع المزري لحقوق الإنسان، مشيرة إلى أن تمدد النزاع في ولايات آمنة ودخول مدن جديدة إلى خط النار فاقم من حدة الوضع.

وتعزي رحاب سلسلة الخروقات الحالية إلى السيولة الأمنية الناجمة عن الحرب، وعمليات الإفراج عن 22 ألفا من السجناء المحكومين والمدانين بجرائم الإعدام والاغتصاب والاتجار بالبشر، في غياب الأجهزة الشرطية وشيوع الفوضى وانعدام القوانين وتطبيقها.

 رحاب مبارك

ويعضد، القانوني والفاعل بمجموعة محامي الطوارئ، محمد صلاح، الرؤية السابقة بالقول إن الوضع الحقوقي في السودان هو الأسوأ منذ عقود، في ظل غياب النظام العدلي وتعاظم الانتهاكات المخالفة للقوانين الدولية مع استمرار سلسلة الإفلات من العقاب، وهو أمر كما يصفه، ظل مستمراً منذ استقلال السودان، فيما كرست له الحرب الجارية بصورة أكبر.

رائحة الموت

وفي وقت يصعب فيه تحديد عدد الأنفس التي أزهقت بدقة نتيجة الصراع، تشير الأرقام المبدئية إلى مقتل حوالي 12.190 شخصا منذ اندلاع الصراع، بحسب مشروع بيانات أحداث ومواقع النزاعات المسلحة بخلاف الأشلاء المتناثرة وأكوام الجثث المتروكة في الشوارع بلا حصر، ما يؤكد أن عدد القتلى أكبر من ذلك بكثير.

فيما أسفرت الاعتداءات في غرب دارفور عن دوافع عرقية بعد هجمات شنتها قوات الدعم السريع والميليشيات العربية المتحالفة معها أدت إلى مقتل مئات المدنيين من مجتمعات المساليت.

رحلة الهروب الجماعي

الملاحظ أن القاسم المشترك المدمر لهذا النزاع هو أثره الوحشي على المدنيين، فعلى خلفية المعارك التي اندلعت في 15 أبريل المنصرم تم اقتلاع أكثر من 6.9 مليون شخص من منازلهم، بينهم حوالي 5.5 مليون شخص شردوا داخل البلاد، وفقاً لمصفوفة تتبع النزوح التابعة للمنظمة الدولية للهجرة، توزعوا بين 6.089 موقعا عبر ولايات البلاد، فيما عبر الحدود أكثر من 1.4 مليون شخص ملتمسين اللجوء في بلدان الجوار، حسب سجلات مفوضية اللاجئين الأممية.

وفي ديسمبر الجاري فقط نزح زهاء 300 ألف مواطن بعدما أجبروا على الفرار من مدينة ود مدني، حاضرة ولاية الجزيرة، التي تمددت إليها رقعة القتال أعقاب دخول قوات الدعم السريع إليها منتصف الشهر الحالي.

وفي مناطق أخرى من دارفور وكردفان، لا تزال الخسائر في صفوف المدنيين في تزايد مستمرّ، تمامًا كما تدمير الهياكل الأساسية المدنية.

اقتصاد يتداعى

أصاب النزاع الاقتصاد بالشلل، ودفع بالملايين إلى براثن الفقر، وأدى إلى التوقف شبه التام للخدمات الأساسية في المناطق المتضررة من الاشتباكات، ومنها خدمات التعليم والرعاية الصحية.

ويشكو السكان في المناطق المنكوبة بالصراع وحتى المناطق الآمنة من شح وندرة في المواد الغذائية والأدوية وارتفاع الأسعار لمستويات قياسية، في ظل تفاقم حالة الأمن الغذائي اليائسة أصلاً، مع انهيار شبكات الكهرباء والمياه والاتصالات في أرجاء واسعة في البلاد، فيما لا يزال الملايين بحاجة إلى المساعدات الإنسانية الحيوية، التي استحال تقديمها في الكثير من الأماكن المتضررة.

ووفقاً لأرقام منظمة الأغذية والزراعة يعاني 17.7 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي الحاد في السودان -ما نسبته 37% من السكان- فيما حذر برنامج الغذاء العالمي في 12 ديسمبر الماضي من أن أجزاء كبيرة من البلاد معرضة لخطر الانزلاق إلى أحوال الجوع الكارثية.

تدمير ممنهج

وبخلاف مآسي النزوح ونقص الأموال والأنفس والخدمات، أسفرت حرب أبريل عن تدمير ممنهج لآلاف المرافق الأكاديمية والاقتصادية والمباني العامة نتيجة الغارات الجوية والقصف المتبادل.

واضطرت ثلاثة أرباع المستشفيات في البلاد إلى الإغلاق بسبب احتلالها أو تضرّرها جراء القصف أو تعرضها لنقص حاد في الإمدادات الطبية.

ووثقت منظمة الصحة العالمية 56 اعتداءً على مرافق الرعاية الصحية. كما قُتل ما لا يقل عن 19 عاملاً في المجال الإنساني، فيما لا يزال العديد من العاملين الآخرين في عداد المفقودين، ما يجعل السودان من بين أخطر دول العالم التي تهدّد سلامة العاملين في المجال الإنساني.

وفي العاشر من ديسمبر الجاري قتل شخصان وأصيب سبعة آخرون في العاصمة الخرطوم، من بينهم ثلاثة من موظفي اللجنة الدولية للصليب الأحمر عندما تعرضت قافلة للمساعدات الإنسانية كانت تحمل شارات اللجنة الدولية بوضوح لنيران القصف من منطقة تابعة للجيش السوداني.

اعتقالات وانتهاكات

ومع استمرار وتوسع رقعة الحرب، يستمر الطرفان في التضييق على المدنيين بالتفتيش المذل الشخصي وانتهاك خصوصية الهواتف وأجهزة المحمول في نقاط الارتكاز، مع حملات للاعتقال من دون سبب في مناطق سيطرتهم، إذ يعتقل منسوبي القوات المسلحة وقوات الدعم السريع المدنيين على أسس عرقية ومناطقية وسياسية دون أي غطاء قانوني، ودون توضيح أماكن وظروف احتجازهم.

وفي وقت سابق أسهمت الناشطة، الفاعلة بلجان المقاومة، رفقة آخرين في تأسيس مبادرة تحمل اسم (مفقود).

وتضطلع المبادرة بتوفير رصد ومعلومات عن الغائبين عن ذويهم بعدما تزايدت أعدادهم بصورة كبيرة.

تقول ثويبة في إفادتها لـ"جسور بوست": "الانتهاكات في تزايد، وأعداد المفقودين أكبر في مناطق سيطرة الدعم السريع".

ثويبة هاشم الجلاد

وبحسب إحصائيات المبادرة فإن جملة المفقودين حتى يوليو الماضي راوحت 350 شخصاً  بمن فيهم النساء والفتيات، كما شكل العنصر الشبابي النسبة الأكبر من المفقودين.

عين على المستقبل

في ديسمبر الجاري أطلقت مجموعة محامي الطوارئ حملة للإفراج عن المعتقلين والإفصاح عن أماكن المخفيين قسرياً، مطالبة بإطلاق سراحهم ووقف اعتقال المدنيين.

وعلى الرغم من الوعود المتكررة من الجانبين بالتحقيق في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وانتهاكات القانون الإنساني الدولي، يسود صمت يصم الآذان في هذا الصدد، ولم يُحاسب أي شخص بعد.

وبالنسبة للمحامي محمد صلاح فإن الفراغ الناجم عن غياب الدستور والمحاكم والأجهزة العدلية وتدمير الأجهزة التشريعية في ظل سلطة الأمر الواقع الحالية هو ما أفضى بنا إلى الحال الماثل.

محمد صلاح

وعلى الرغم من العقود الطويلة من الاضطرابات التي عاشها السودان، واندلاع نزاع في 15 أبريل، الذي أودى بالبلاد في أتون الفوضى، يبذل صلاح روشتة الخلاص من حالة اللا يقين الحالية، ويفتح كوة للمستقبل، مشيراً إلى أن إرساء سلام مستدام هو أولى الخطوات المنتظرة في خارطة الطريق المثالية لاستعادة الحقوق وإرساء دولة القانون مجددا، ومن ثم تشكيل سلطة سياسية وسلطة قضائية تعيد ترميم الأجهزة العدلية وتستعيد النظام العدلي.


قد يعجبك ايضا

ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية