"جسور بوست" تضع 13 عاماً من حياة التونسيين تحت المجهر

13 عاماً على ثورة الياسمين.. كيف عاشها التونسيون؟ (1)

13 عاماً على ثورة الياسمين.. كيف عاشها التونسيون؟ (1)
مظاهرة ضد الرئيس التونسي الأسبق، زين العابدين بن علي- 14 يناير 2011

-محلل سياسي: ما بين 2011 و2021 تمتع التونسيون بالحريات لكن المطالب الاقتصادية والاجتماعية لم تتحقق بشكل كبير

-الناطق الرسمي باسم "النهضة": تونس لم تعش احتراماً لقيمٍ كونيةٍ وإنسانيةٍ وللحقوق والحريات كما حدث بين 2011 و2021

-المنسق العام لائتلاف "صمود": ما بين 2011 و2021 كان هناك انفتاح في الحريات والمناخ السياسي والتعددية لكن أيضاً اغتيالات وإرهاب وصراع

-خبير اقتصادي ومالي: الأوضاع الاقتصادية والمالية في تونس قبل 2011 كانت أفضل بكثير من الآن

المغرب- سامي جولال

13 عاماً مرت على اندلاع الثورة التونسية، المعروفة بـ"ثورة الياسمين"، التي أسقطت نظام الرئيس التونسي الأسبق، زين العابدين بن علي، الذي حكم البلاد طيلة 23 سنة متواصلة، وشجعت شعوب بلدان عربية أخرى على الخروج في احتجاجات مليونية ضد ما اعتبروه "استبداداً، وفساداً، وسوءاً في الأوضاع المعيشية"، تعرف اليوم بـ"ثورات الربيع العربي"، وأنهت حكم رؤساء عرب مكثوا على كرسي الرئاسة لعقود.

خلال هذه الأعوام الـ13، مرت تونس بحقبتين، انطلقت الأولى في 14 يناير 2011، تاريخ هروب بن علي من البلاد، والتي شهدت تحسناً كبيراً على مستوى تمتع التونسيين بالحريات بمختلف أنواعها، واختيار الشعب ممثليه في البرلمان ورئاسة الجمهورية عبر آلية الانتخابات النزيهة والشفافة، وتداولاً سلميّاً على السلطة، ووضع دستور جديد قسم السُلطات وابتعد بالبلاد عن نظام حكم الفرد الواحد، لكن كانت هناك محدودية في الجانبين الاقتصادي والاجتماعي، وصراع متواصل بين العديد من القوى الموجودة على الساحة.

وانتهت هذه الحقبة في 25 يوليو 2021، عندما قام الرئيس التونسي الحالي، قيس سعيّْد، باتخاذ إجراءات استثنائية علق بموجبها عمل البرلمان المنتخب ثم حله لاحقاً، وأقال الحكومة، قبل أن يحل المجلس الأعلى للقضاء، ويحتكر جميع "السُلَط"، ليدخل البلاد في حقبة جديدة، ما اختلفت حوله الآراء، بين من يعتبرون ذلك "انقلاباً على مبادئ الثورة، والمسار الديمقراطي، الذي تسلكه البلاد منذ عام 2011، ومن يرون أنه "تصحيح لمسار الثورة بعد الأزمة السياسية الحادة، التي كانت تشهدها البلاد وقتها".

في هذا الملف، وضعت "جسور بوست" 13 عاماً من حياة التونسيين تحت المجهر، وذلك في مجالات عديدة، السياسية والحقوقية والمعيشية والاقتصادية والمالية وغيرها، وأجرت حوارات مطولة مع مجموعة من الشخصيات التونسية، منها من يتخصص في التحليل السياسي، ومن يتخصص في التحليل الاقتصادي والمالي، ومن ينتمي إلى المشهد الحزبي، ومن ينشط في المجتمع المدني، يمثلون مختلف وجهات النظر، ويقدمون شرحاً وتحليلاً لأوضاع تونس بأوجهها المتعددة منذ 2011 حتى الآن.

واندلعت الثورة التونسية في 17 ديسمبر 2010، بعد إضرام الشاب التونسي، محمد البوعزيزي، النار في نفسه، أمام مقر ولاية سيدي بوزيد (وسط غرب البلاد)، احتجاجاً على ما اعتبره "استهدافاً لمصدر رزقه من طرف الشرطة"، إذ كان يعمل بائعاً متجولاً في سوق المدينة، و"رَفْض مسؤولين محليين قبول شكواه"، واستمرت الثورة نحو شهر، لتنتهي في 14 يناير 2011 بهروب الرئيس التونسي الأسبق، زين العابدين بن علي، من البلاد، بعد 23 عاماً متواصلة قضاها على رأس الحكم.

الحقبة من 14 يناير 2011 إلى 25 يوليو 2021:

حريات وضعف اقتصادي واجتماعي 

يرى المحلل السياسي التونسي، سالم بولبابة، أنه "بعد انتصار الثورة، وفرار الرئيس التونسي الأسبق، زين العابدين بن علي، كان هناك نوع من التوجه نحو تحقيق المطالب"، مبرزاً أن "هذا دور النخب السياسية والثقافية، التي يجب أن تبلور وتعاود التأسيس".

وأضاف بولبابة، في حديثه مع "جسور بوست"، أنه "كان هناك اتجاهان، اتجاه نحو السير في طريق انتخابات مباشرة بناءً على مقتضيات الدستور التونسي القديم، لكن كان هناك كثيرون يطالبون بتأسيس جديد، ولذلك أجريت انتخابات المجلس الوطني التأسيسي (23 أكتوبر 2011)، التي أفرزت لاحقاً دستور 2014، بعد 3 سنوات من السجالات والنقاشات الحادة، وتحققت الحريات في مجال حرية التعبير، وحرية الصحافة، والحريات السياسية، بينما لم تتحقق المطالب الاقتصادية والاجتماعية بشكل كبير، بسبب نقص الثقافة الديمقراطية عند الكثير من النخب السياسية والثقافية، وحتى في الإعلام، وغيره من المجالات الأخرى، إذ تحولت هذه الحرية والديمقراطية إلى فوضى، وأصبح هناك تقريباً نوعا من الفوضى في كل شيء، في البرلمان، وفي الإعلام، إذ لم يعد هناك احترام لأبسط القواعد الأخلاقية والمهنية، إلى جانب انفلات مطلبي كامل في كل المجالات، وتغول نقابي كبير جدّاً، رغم محدودية إمكانيات البلاد، وصارت الطبقة السياسية تتقاسم السلطة بطريقة غنائمية، وأصبحت السلطة كأنها غنيمة بين الأحزاب السياسية".

سالم بولبابة

وتأسس المجلس الوطني التأسيسي التونسي باعتباره برلماناً مؤقتاً بعد الثورة، وتكون من 217 عضواً، اختارهم التونسيون عبر انتخابات أجريت في 23 أكتوبر 2011، وحل في مراكزها الثلاثة الأولى حزب "حركة النهضة" (إسلامي) بـ89 مقعداً، متبوعاً بحزب "المؤتمر من أجل الجمهورية" (يساري) بـ29 مقعداً، ثم قوائم "العريضة الشعبية للحرية والعدالة والتنمية" (مستقلة) بـ26 مقعداً، وبلغت نسبة المشاركة في تلك الانتخابات 54,1%.. أوكلت للمجلس الوطني التأسيسي مجموعة من المهام، على رأسها مهمة وضع دستور جديد للبلاد، إذ تمت المصادقة عليه في 27 يناير 2014، بموافقة 200 نائب من أصل 217، ليعوض دستور 1959، الذي أوقف العمل به بعد الثورة، ومهمة انتخاب رئيس جديد للبلاد، وهو ما تم في 12 ديسمبر 2011، حيث انتخب زعيم حزب "المؤتمر من أجل الجمهورية"، المنصف المرزوقي، رئيساً مؤقتاً للبلاد، بموافقة 153 عضواً من أعضاء المجلس الوطني التأسيسي، وانتهت مهام المجلس في عام 2014.

حرية وفوضى

أردف بولبابة أن "الإسلاميين (حركة النهضة) فازوا في البداية، في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، التي أجريت يوم 23 أكتوبر 2011، وشكلوا تحالفاً ضم بعض الأحزاب العلمانية، في حين انتصر العلمانيون (نداء تونس) في الانتخابات التشريعية لعام 2014 وشكلوا تحالفاً آخر مع حركة النهضة الإسلامية، لكن هذا التحالف كان (هشّاً)".

وأجريت أول انتخابات تشريعية تونسية بعد الثورة أواخر أكتوبر 2014، وبلغت نسبة المشاركة فيها 69%، وحل في مراكزها الثلاثة الأولى حزب "حركة نداء تونس" (علماني ليبرالي) بـ85 مقعداً، متبوعاً بحزب "حركة النهضة" (إسلامي) بـ69 مقعداً، ثم  حزب "الاتحاد الوطني الحر" (ليبرالي) بـ17 مقعداً.

وأبرز بولبابة أنه "كانت هناك حرية، لكن كان هناك نوع من الفوضى، التي لم يكن المواطن التونسي يتفاعل معها، ولم يكن يريدها أساساً، وأن العنف استشرى بطريقة كبيرة، وكذلك الإرهاب، وأنه كان هناك انفلات كبير، وتعطلت عجلة الإنتاج في البلاد ومراكز الإنتاج الرئيسية، من بينها شركة فوسفاط قفصة، التي تعطلت لسنوات طويلة"، وفق بولبابة، الذي تحدث أيضاً عن "قطع الطرقات، وغلق بعض المصانع، ما جعل البلاد غير مهيأة للاستثمار، بفعل التغول النقابي، وصارت التعيينات تخضع للمحاصصة الحزبية، والنقابية، وغيرها، وكان الأداء السياسي باهتاً، والتحالفات الحكومية تتغير بسرعة"، موضحاً أن "تونس شهدت أكثر من 12 حكومة في فترة قليلة، وأنه تقريباً لم يكن هناك استقرار سياسي، ما كان عاملاً مانعاً لإيجاد نوع من الاستقرار على مستوى الأداء، ونوعاً من الاستقرار الاقتصادي، ودفع عجلة التنمية، وتطبيق البرامج الاقتصادية والاجتماعية، وغيرها".

وبعد الثورة التونسية، تعاقبت على البلاد 14 حكومة، وهي حكومة محمد الغنوشي الأولى (17-27 يناير 2011)، وحكومة محمد الغنوشي الثانية (27 يناير-7 مارس 2011)، وحكومة الباجي قايد السبسي (7 مارس-22 ديسمبر 2011)، وحكومة حمادي الجبالي (24 ديسمبر 2011-13 مارس 2013)، وحكومة علي العريض (13 مارس 2013-23 يناير 2014)، وحكومة مهدي جمعة (29 يناير 2014-6 فبراير 2015)، وحكومة الحبيب الصيد الأولى (6 فبراير 2015-6 يناير 2016)، وحكومة الحبيب الصيد الثانية (6 يناير-أغسطس 2016)، وحكومة يوسف الشاهد الأولى (28 أغسطس 2016-6 نوفمبر 2018)، وحكومة يوسف الشاهد الثانية (14 نوفمبر 2018-28 فبراير 2020)، وحكومة إلياس الفخفاخ (28 فبراير-3 سبتمبر 2020)، وحكومة هشام المشيشي (3 سبتمبر 2020-25 يوليو 2021)، وحكومة نجلاء بودن (11 أكتوبر 2021-1 أغسطس 2023)، وحكومة أحمد الحشاني (1 أغسطس 2023-الآن).

وبيَّن بولبابة، أنه "رغم هامش الحرية، الذي كان موجوداً، كان الوضع الاقتصادي صعباً جدّاً، وكان عدم الاستقرار السياسي مهيمناً على المشهد بشكل كبير، وأن الشعب التونسي سئم في كثير من الأحيان السجال والتهارج السياسي، الذي كان موجوداً، وأن البلاد كانت في حالة ارتباك وفوضى كبيرة، ولم يكن هناك طرف يضبط الأمور بطريقة جيدة"، مبرزاً أنه "اكتشف حقيقة مفادها أن هناك نقصاً في الثقافة الديمقراطية، وأن النخب غير واعين، خاصة بأهمية الديمقراطية، إذ يمدحون الديمقراطيات الغربية، وعندما أهداهم الشعب التونسي فرصة لتحويل مطالبه إلى تأسيس جديد قائم على المؤسسات، لم يستجيبوا لها (أي للمطالب)، وظلوا يعيشون في صراعات قديمة، في حين أنه بعدما أهداهم الشعب الحرية، كان من المفروض أن تتطلع تلك النخب إلى المستقبل، للاستجابة لتلك المطالب، وتبني مشروع حضاري للمستقبل، ولكن رأينا هذه النخب تعود إلى صراعات الماضي، المتمثلة في صراعات إيديولوجية، وثأر تاريخي يعود إلى سنوات الدراسة الجامعية"، وفق بولبابة، الذي أردف أن "ذلك يخص كل الأطياف، إسلامية، ويسارية، وعلمانية، وقومية، وغيرها".

وأوضح أن "هذا السجال جعل البلد منفتحاً على التدخلات الخارجية، وأن تلك الأطياف كانت تتحدث عن قضايا لا علاقة لها بشهداء الثورة التونسية، على مستوى التشغيل، والبناء، والحق في الصحة، وغيرها من الأمور الأخرى، وأصبحت تتحدث عن الشعارات، وعن مسائل ثانوية تجاوزها الزمن، والتاريخ، وعالم اليوم كذلك، تتعلق بالمساواة في الميراث، وطبيعة الدولة، ومسائل دينية، ما يعني تطرفاً من كل الجوانب، وأنه تم الانزياح بذلك عن المطالب الحقيقية".

قانون انتخابي "معرقِل"

أفاد بولبابة أن "القانون الانتخابي ساهم أيضاً في هذا، لأن القانون الانتخابي، الذي كان موجوداً (وضع في عام 2014، وتم استبداله بقانون انتخابي آخر في عام 2022)، لم يكن يسمح لأي حزب يتصدر نتائج الانتخابات التشريعية بأن يحكم لوحده، وكان قانوناً معرقِلاً، وجعل كل حزب يفوز في حاجة إلى تحالفات، ليستطيع أن يحكم، وهذا ما جعل البعض يساومون حول الوجود في التشكيلة الحكومية، مقابل شروط كانت أحياناً شخصية أو خاصة".

وقام الرئيس التونسي، قيس سعيد، في 15 سبتمبر 2022، بإصدار المرسوم رقم 55 لسنة 2022 المتعلق بتعديل القانون الانتخابي، الذي تم بموجبه إدخال تعديلات مهمة على القانون الأساسي رقم 16 لسنة 2014، منها أن الاقتراع أصبح على الأفراد في دوائر انتخابية بمقعد واحد، في دورة واحدة، أو دورتين إذا لم يحصل مرشح على الأغلبية المطلقة 50+1 في الدورة الأولى، عوض الاقتراع على القوائم الحزبية في دورة واحدة، وتوزيع المقاعد بناءً على التمثيل النسبي وقاعدة أكبر البقايا، وإقصاء حاملي جنسية أجنبية إلى جانب الجنسية التونسية من الترشح في دائرة انتخابية داخل البلاد، وإمكانية سحب الثقة من النواب، ومنع أعضاء الحكومة، ورؤساء الدواوين، ورؤساء الجمعيات الرياضية، وأئمة المساجد، من الترشح للانتخابات قبل مرور سنة على مغادرة مناصبهم، بعدما كان هذا المنع يهم فقط رؤساء البعثات والمراكز الدبلوماسية والقنصلية، ومحافظي الولايات والمسؤولين المحليين فيها، والقضاة، إلى جانب المنع من الترشح في الوقت نفسه للانتخابات التشريعية، والرئاسية، والجهوية، والبلدية، إذا تم إجراؤها في وقت واحد.

كما أصبح النظر في الطعون الخاصة بالترشحات من اختصاص المحاكم الإدارية، التي تتبع لها الدوائر الانتخابية، بينما أسندت هذه المهمة إلى المحكمة الإدارية في تونس العاصمة عندما يتعلق الأمر بالمرشحين في الخارج، إضافة إلى إلغاء تمويل الحملات الانتخابية من المال العام، وتشديد عقوبات الجرائم ذات الطبيعة الانتخابية، وخفض عدد النواب وزيادة الدوائر الانتخابية، واللجوء إلى انتخابات جزئية لتعويض العاجزين أو الموتى، وإضافة مجموعة من الوثائق المشترطة للترشح، وضرورة الحصول على تزكيات من 200 ناخب و200 ناخبة، يتم تقديمها مع موجز البرنامج الانتخابي ضمن ملف الترشح.

اغتيالات وإرهاب

من جانبه، قال المنسق العام لائتلاف "صمود" (ائتلاف مواطني يتكون من جمعيات وشخصيات مستقلة، وعمله هو الانتباه المواطني)، حسام الحامي، إنهم "في ائتلاف صمود كانوا من الناس، الذين عارضوا المسار، الذي جاءت به منظومة دستور 2014، وأنه رغم المكتسبات التي تحققت بعد الثورة التونسية، خاصة في مجال حرية التعبير، وحرية التنظيم، والحريات العامة والفردية، ورغم التحسن، كان الوضع الاقتصادي يعرف تقهقراً متواصلاً على مدى العشرية السابقة".

وأضاف الحامي، في حديثه مع "جسور بوست"، أن "الفترة ما بين 2011 و2021 مسار مخاض انتقال ديمقراطي، حدث بعد ثورة قام بها الشعب التونسي، وأدت إلى سقوط النظام السابق، وبروز منظومة جديدة، وفرَّت، بفضل تضحيات الشعب التونسي ودماء الشهداء، تغيير المنظومة السياسية، وانفتاحاً في مجال الحريات، ومنها حرية التعبير، وحرية التنظيم، وانفتاحاً في المناخ السياسي بصفة عامة، إلى جانب التعددية، والتداول السلمي على السلطة، وغيرها من الأمور الأخرى ذات الصلة، لكن مع الأسف في هذه الفترة حاولت حركة النهضة -بحسب الحامي- السيطرة على المجال السياسي وبقية المجالات في الدولة، وفرض نوع من التغول، وكان هناك مخاض كبير بين القوى الديمقراطية والقوى الرجعية، وكانت فترة صعبة شهدت العديد من الاغتيالات السياسية، وعمليات إرهابية، واستهداف الجنود في تونس، والأمنيين، وحتى المدنيين، وكان هناك نوع من الصراع المتواصل بين العديد من القوى الموجودة على الساحة".

حسام الحامي

وتابع أنه "مع الأسف، في هذا الإطار وقع الجانب الاقتصادي وضاع، والأمر نفسه بالنسبة للمجالات الاجتماعي، والثقافي، والبيئي، وغيرها من المجالات الأخرى، التي ضاعت -وفق الحامي- داخل الصراع السياسي، الذي كان فيه جزء كبير من المرجعيات، التي تختلف حول طبيعة المجتمع، وكيف يجب أن تكون تونس، وهل هي دولة مدنية، أم دولة إسلامية، وغيرها من التفاصيل الأخرى"، مبيِّناً أن "الطبقة السياسية، بصفة عامة وبأطرافها المتعددة، قامت بالعديد من الأخطاء، وأن هذا ما أعد المناخ المناسب لما حدث يوم 25 يوليو 2021، وللنقلة التي حاول الرئيس، قيس سعيد، القيام بها".

وأبرز الحامي أنهم "دعوا في ائتلاف صمود، قبل 25 يوليو 2021، إلى تغيير النظامين السياسي والانتخابي، عبر العديد من الندوات واللقاءات في الجهات، والعمل المباشر مع المجتمع، والمجتمع المدني، والأحزاب السياسية، لكن هذا لم يكن -بحسبه- كافياً".

رد النهضة

من جهته، قال الناطق الرسمي باسم حزب "حركة النهضة" والقيادي في جبهة الخلاص الوطني (تأسست في 31 مايو 2022، وتجمع قوى سياسية معارضة للرئيس التونسي، قيس سعيد، وتواجه الإجراءات الاستثنائية، التي بدأها في 25 يوليو 2021)، عماد الخميري، إنهم في النهضة يرفضون الوسم، الذي توصف به حقبة كاملة (من 14 يناير 2011 إلى 25 يوليو 2021)، بأنها حقبة ليست فيها إلا السواد كما يراها البعض، وهم تحكمهم -بحسب الخميري- خلفيات إيديولوجية معادية للثورات العربية، ولكل ما أنجز فيها، لأن الثورة التونسية المجيدة بشَّرت بكل القيم التي ناضل من أجلها التونسيون والتونسيات، وأيضاً العرب على امتداد تاريخهم، والمتمثلة في بناء دولة قانون، وأن تكون لديهم مؤسسات ديمقراطية ممثلة، وأن يكون للإرادة الشعبية حكمها، واستقلال القضاء، وحرية الإعلام.

وأشار إلى أن "تونس لم تعش في تاريخها على الإطلاق احتراماً لهذه القيم الكونية والإنسانية، وللحقوق والحريات، كما حدث ما بين عامي 2011 و2021، ولم تعش في العقود، التي خلت، فترة أزهى وأفضل مما عاشته خلال هذه السنوات العشر، سواء في عقود الاستعمار الغاشم، أو في عقود بدايات دولة الاستقلال، التي تكرس فيها الحكم الفردي والاستبدادي، وانتزعت من المواطن كل الحقوق، التي ينتفع بها أي مواطن حر"، وفق الخميري، الذي أوضح أنه "ما بين عامي 2011 و2021، بُذل جهد كبير في تأسيس الدولة العادلة والديمقراطية، وبناء المؤسسات الدستورية، والقضاء العادل، والإعلام الحر التعددي، وفسح المجال أمام التونسيين والإنسان العربي، ليمارسوا لأول مرة في تاريخهم حريات وحقوقاً سلبت منهم على امتداد عقود".

وأضاف الخميري في حديثه مع "جسور بوست"، أن "مطالب الثورة ليست سياسية فقط، وإنما اجتماعية أيضاً، وأن التونسيين ثاروا على نظام الاستبداد والفساد، الذي كان مستشرياً في تونس لعقود، وطالبوا بعدالة اجتماعية للأفراد والفئات"، متابعاً أنهم “في النهضة يقرون، بناءً على تقييم موضوعي، أن المنجز الاقتصادي والاجتماعي، ما بين عامي 2011 و2021، لم يكن في مستوى المنجز السياسي، وأن هذه العشرية ربما عرفت محدودية في الجوانب الاقتصادية، والاجتماعية، والتنموية، ويعتبرون أن الديمقراطية لا يمكن أن تستمر وتتفوق، إذا لم تمش على ساقيها، بمعنى أن يكون هناك إنجاز سياسي يقابله إنجاز اقتصادي تنموي اجتماعي.”.

عماد الخميري

وأوضح أن "السبب وراء ذلك، هو أن فترة التأسيس للديمقراطية والنظام الديمقراطي في تونس بعد الثورة، تخلفت في وضع نظام انتخابي يفرز أغلبية لها القدرة على الحكم، دون أن تبني تحالفات مع أقليات، ودون أن تضطر للتنازل عن برنامجها الاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي"، مبيناً أنه "يقصد أغلبية مريحة، تتيح للحزب المتصدر لنتائج الانتخابات التشريعية تنفيذ البرنامج، الذي وعد به جماهير الشعب، في حين أن النظام الانتخابي المعتمد على طريقة أكبر البقايا، الذي اعتمد منذ 2011، وبقي مستمراً في كل الاستحقاقات الانتخابية، يمكن -بحسب الخميري- أن تجرى به انتخابات يكتب من يفوزون فيها دستوراً، باعتبار أنه نظام لا يسمح بهيمنة مدرسة فكرية أو سياسية في كتابة الدستور، ولكن لا يمكن أن يستمر لإفراز جهة يُرجَع لها بالنظر في حكم الناس، وفي الوعود الانتخابية، التي بشرت بها".

وتابع الخميري أن "هذا النظام الانتخابي ظل لا يفرز أغلبية لها القدرة على الحكم، سواء في الانتخابات التشريعية لعام 2014، التي تصدر نتائجها حزب "نداء تونس"، واضطر لبناء تحالفات مع أحزاب أخرى، أو في الانتخابات التشريعية لعام 2019، التي تصدر نتائجها حزب "حركة النهضة"، لكن بـ25% فقط من الأصوات، ما اضطره إلى البحث عن تحالفات"، مبرزاً أنه في البحث عن التحالفات يضيع البرنامج الانتخابي، وتضيع الجهة التي يمكن أن نحاسبها على حكمها، وأن هذا ما يحصل الآن حينما يعتبر البعض أن حركة النهضة هي من حكمت خلال العشر سنوات ما بين 2011 و2021، بينما العديد من الأطراف حكمت، وكل المكونات السياسية الموجودة الآن كان لها ضلع في الحكم، بما في ذلك الاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر منظمة نقابية في تونس)، الذي كان -وفق الخميري- شريكاً في هذه السنوات العشر، التي وصفها في ما بعد بأنها عشرية سلبيات، أو عشرية سواد، كما أطلق عليها أعداء المشروع الديمقراطي والثوري.

وردّاً على من يقولون إن "حركة النهضة، والأحزاب والأطراف، الذين دخلت معهم في تحالفات سياسية ما بين عامي 2011 و2021، كان يحكمهم بالدرجة الأولى هاجس الوصول إلى السلطة، وتقاسموا المناصب بشكل غنائمي"، أوضح الخميري أن "تلك التحالفات أفرزها صندوق الانتخاب وانتخابات شرعية غير مطعون فيها، شاركت فيها أعداد كبيرة لأول مرة في تاريخ تونس، سواء الانتخابات التشريعية لعام 2011، أو 2014، أو 2019، وكانت نسب المشاركة فيها مرتفعة، وعبرت عن انخراط التونسيين والتونسيات في هذه الاستحقاقات الانتخابية".

وصرح الخميري بأن تلك التحالفات فرضها القانون الانتخابي، لأنه لا يمكن أن تكون هناك أغلبية، وأن ذلك ما عابه على القانون الانتخابي، وبالتالي فإن العيب -بحسب الخميري- في القانون الانتخابي، وليس في تلك التحالفات، مبرزاً أن "الذي لم يجعل من تلك التحالفات الحكومية قادرة على الذهاب بعيداً، هو عدم وجود مَرْكَزَة لحزب أو لتيار سياسي معين، يفوز في الانتخابات، ثم يشرع في تنفيذ برنامجه، ويحاسَب طبق الوعود، التي أطلقها في الانتخابات التشريعية، والبرنامج الانتخابي، الذي بشر به".

وأكد أن "كل حاكم سيظل متهماً بتقاسم السلطة وبالغنيمة، بمن فيهم الذين يحكمون الآن ما بعد 25 يوليو 2021، وأنه لا يظن أنهم بعيدون عن هذا الاتهام، وعن فكرة أن تكون السلطة بالنسبة إليهم أيضاً مغنماً"، موضحاً أن "الطرف الوحيد، الذي يحكم على أداء الحزب السياسي، وأداء فرد أو جهة في الحكم، هو الشعب، بانتخابات حرة، ونزيهة، وشفافة، وأن الذي يحكم أيضاً على فساد أية جهة هو القضاء المستقل البعيد عن سيطرة الأحزاب والأفراد، وهذا ما كانت حركة النهضة، تبشر به"، وفق الخميري، الذي بيَّن أنها "كانت تبشر بقضاء مستقل، وبعودة الاحتكام للإرادة الشعبية، لتكون وحدها من تحكم على برامج الناس وإنجازاتهم، في حين أن ما رأوه بعد 25 يوليو 2021، يعد مصادرة للإرادة الشعبية في أن يكون حكمها وصوتها هما الأعلى".

تدهور الاقتصاد

من جانبه، قال الخبير الاقتصادي والمالي التونسي، عز الدين سعيدان، إن "الوضع الاقتصادي والمالي للبلاد، يمكن حصره في التصنيف الائتماني لتونس، الذي انتقل من +bbb مع توجه إيجابي في سنة 2010، وكان على بعد درجة واحدة من تصنيف a، إلى -ccc مع توجه سلبي الآن، وأن هذا يختزل تقريباً ما حدث على المستوى الاقتصادي والمالي".

وأضاف سعيدان، في حديثه مع "جسور بوست"، أن "الأوضاع الاقتصادية والمالية في تونس قبل 2011، كانت أفضل بكثير مما هي عليه الآن، وأن المؤشرات الأساسية تدل على ذلك، لكن منذ 2011 إلى حد الآن، لم تدخل تونس في أية إصلاحات تذكر، ولم يكن هناك تحسن في الأوضاع الاقتصادية والمالية، وازدادت الأوضاع سوءاً".

عز الدين سعيدان

تعمق الفوارق وتراكم الديون

أفاد سعيدان بأنه "لا بد من التذكير أن من أسباب قيام الثورة، أو نقاط الضعف الأساسية، التي كانت موجودة في تونس قبل الثورة، نجد الفوارق الاجتماعية، التي كانت بين فئات المجتمع التونسي وبين الجهات، ثم مشكلة البطالة، خاصة بطالة الشباب حاملي الشهادات الجامعية"، متابعاً أنه "مع الأسف تعمقت هذه الفوارق الاجتماعية والجهوية بشكل كبير منذ 2011 حتى الآن، وارتفعت البطالة بشكل كبير، خاصة بطالة الشباب حاملي الشهادات الجامعية، وأنه من الأشياء التي تبدو واضحة جدّاً في الوضع الاقتصادي والمالي هو تراكم الديون على مستوى الدين العمومي بصفة عامة والدين الخارجي بشكل خاص، إذ ارتفع مستوى التداين بشكل كبير جدّاً خلال 13 سنة، التي مرت"، بحسب سعيدان، الذي بيَّن أن "هذا من أهم الأسباب، التي أدت إلى الانخفاض الواضح في التصنيف الائتماني للبلاد، الذي تمت مراجعته 11 مرة إلى الأسفل منذ 2011 حتى الآن".

وكانت نسبة البطالة في تونس في عام 2010 في حدود 13%، في حين بلغت عند نهاية الثلاثي الثاني من سنة 2022، أي قبيل الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد، 17,9%، بينما بلغت عند نهاية الثلاثي الثالث من سنة 2023 (15,8%)، وفق معطيات رسمية.

وكان إجمالي الدين العام التونسي يبلغ قبل الثورة 25.639 مليار دينار، أي 40.7% من الناتج المحلي الإجمالي، 10.089 مليار دينار منها ديون محلية، و15.551 مليار دينار ديون خارجية، وأعلنت وزارة المالية التونسية، في وقت سابق، أن الدين العام بلغ في نهاية أكتوبر 2021 نحو 102.2 مليار دينار، ما يعادل 81.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وتتوقع الحكومة التونسية وصول تراكم الدين العام للبلاد في 2024 إلى نحو 140 مليار دينار، أي نحو 79.8% من الناتج المحلي الإجمالي.

نمو اقتصادي سالب

أوضح سعيدان أن النمو الاقتصادي أصبح شبه غائب، وأن تونس الآن في وضع ركود اقتصادي، أو حتى تراجع اقتصادي، لأن نسبة النمو الأخيرة المسجلة في نهاية الثلاثي الثالث للسنة الفارطة (2023)، كانت ناقص 0,2% مقارنة مع الثلاثي نفسه من سنة 2022، وهي نسبة -وفق سعيدان- سلبية، وتدل على أن الاقتصاد يمر بظروف صعبة، وبظروف تراجع وركود، وفي الوقت نفسه هناك ارتفاع كبير في مستوى التضخم المالي، الذي قال إنه تجاوز منذ أشهر قليلة مستوى 10%، وتراجع الآن إلى 8,1%.

وفي الفترة ما بين بداية الألفية الحالية واندلاع الثورة التونسية (17 ديسمبر 2010-14 يناير 2011)، ظل الاقتصادي التونسي يحقق نسب نمو لا تقل عن 5%، في حين انخفضت النسبة إلى 3,1% في 2021، بحسب بيانات رسمية، وتوقع رئيس الحكومة التونسية، أحمد الحشاني، عبر بيان لحكومته في 17 نوفمبر 2023، أن تبلغ نسبة النمو الاقتصادي في 2023 نحو 1,2%، و3% خلال 2024.

وضع معيشي صعب

وأبرز سعيدان أن الوضع المعيشي صعب، بسبب غياب النمو، وبسبب ارتفاع البطالة، ولأن الدولة التونسية أعطت الأولوية القصوى لتسديد ديونها الخارجية"، موضحاً أنه "لا بد من الذكر أنه رغم هذه الظروف الصعبة، فإن تونس لم تتأخر في تسديد ديونها، الخارجية بالأساس، ولم يكن هناك أي تعثر إلى حد الآن، ولكن ذلك كان ربما -وفق سعيدان- على حساب تزويد السوق الداخلية بالمواد الأساسية، ومنها الدقيق، والحبوب بصفة عامة، والأرز، والقهوة، والسكر، والزيت النباتي، والأدوية، والعديد من المواد الأساسية، التي أصبحت إما مفقودة، أو تعرف ندرة واضحة في السوق الداخلية، مبرزاً أن "الذي عقّد الأمور أكثر، هو وضع الجفاف القاسي، الذي تعيشه تونس منذ 4 سنوات متتالية، وأيضاً تبعات كوفيد-19، مثل بقية بلدان العالم، وتبعات الحرب في أوكرانيا، التي تسببت في ارتفاع كبير في أسعار المحروقات، التي تستورد تونس جل احتياجاتها منها، وفي ارتفاع كبير في أسعار الحبوب، التي تستورد تونس كذلك جل احتياجاتها منها، وأن ذلك أثقل كاهل ميزانية الدولة وكاهل المؤسسات العمومية المعنية بكل تلك المواد".

صعوبة الاقتراض  

تابع سعيدان أنه "حسب أرقام الميزانية، تبدو سنة 2024 صعبة جدّاً، لأن تونس مطالبة بتسديد نحو 8 مليارات دولار من الديون العمومية للسنة القادمة، وتحتاج تقريباً إلى 9 أو 9,5 مليار دولار من القروض الإضافية الضرورية بالنسبة للسنة القادمة، نصفها تقريباً من الخارج، ونصفها الآخر من السوق الداخلية"، مبيِّناً أن تعبئة هذه الأموال ستكون عملية صعبة جدًّا، خاصة في ظل غياب أي اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وأنه حتى ما يسمى بالمراجعة، التي تتم في إطار الفصل الرابع لصندوق النقد الدولي، وكانت مبرمجة لشهر ديسمبر من السنة الفارطة، لم تتم في تونس، التي أصبحت -وفق سعيدان- مصنفة ضمن ما يسمى بالقائمة السلبية لصندوق النقد الدولي، لأنه لم تتم أية مراجعة للأوضاع الاقتصادية والمالية في تونس من طرف صندوق النقد الدولي منذ 31 شهراً.

وقام صندوق النقد الدولي، قبل أيام، بوضع تونس في قائمة الدول السلبية، وذلك للمرة الأولى منذ انطلاق تعامل البلاد مع الصندوق في عام 1958، لأنها لم تستكمل مشاوراتها معه بموجب المادة الرابعة الخاصة بمراجعة الأداء الاقتصادي، في وقت يشهد تعثر المفاوضات بين الطرفين، لمنح تونس قرضاً بقيمة 1,9 مليار دولار.

وانتهت الحقبة الأولى من تاريخ تونس بعد الثورة في 25 يوليو 2021، عندما قام الرئيس التونسي الحالي، قيس سعيّْد، باتخاذ الإجراءات الاستثنائية المذكورة، ما أدخل البلاد في حقبة جديدة، سنسلط عليها الضوء بشكل موسع ومفصل في الجزء الثاني من هذا الملف.

 

 


قد يعجبك ايضا

ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية