"دارفور" النازف.. الإقليم السوداني الغني بالثروات ينزلق في بئر المجاعة
وسط تحذيرات أممية من كارثة إنسانية
وكأنه إقليم منكوب، فمع أنه منجم للثروات الطبيعية، إلا أن الحروب والصراعات جعلته يتجرع مرارة الانعدام الغذائي ويترنح على حافة المجاعة.
قبل أيام، حذرت وكالة الأغذية التابعة للأمم المتحدة، الأطراف المتحاربة في السودان من وجود خطر جدي مع انتشار المجاعة والموت على نطاق واسع في إقليم دارفور إذا لم تسمح بدخول المساعدات الإنسانية إلى المنطقة الغربية الشاسعة.
ودارفور (غربي السودان) إقليم يتجاوز عدد سكانه 9 ملايين نسمة، وتبلغ مساحته نحو 20 بالمئة من مساحة البلاد، وينقسم إداريًا إلى 5 ولايات وهي: الشمال وعاصمتها الفاشر، والغرب وعاصمتها الجنينة، والشرق وعاصمتها الضعين، والوسط وعاصمتها زالنجي، والجنوب وعاصمتها نيالا.
وسكان دارفور موزّعين على عدد من القبائل العربية والإفريقية منها المحاميد، والمساليت، والرزيقات، التي ينحدر منها قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، أحد أطراف الحرب التي اندلعت في السودان قبل نحو عام.
ويتسم الإقليم بالثروات المعدنية والثروة الحيوانية والمراعي الطبيعية والموارد المائية، إذ يختزن فيه 6 بحيرات من المياه الجوفية، بخلاف مادة اليورانيوم التي تقدر بيانات غير رسمية مخزونه بنحو 6 ملايين طن، كما تطفو ولاية شمال دارفور على بحر من الذهب.
ورغم كل هذه الثروات الطبيعية التي تحتضن "دارفور"، فإن نيران الحرب لا تهدأ منذ عقود، وتجددت قبل نحو عام، في ظل استمرار نزاعات جماعات مسلحة تتصارع على السلطة والثروة في الإقليم.
وانزلق السودان إلى حالة من الفوضى في منتصف أبريل 2023، عندما اندلعت التوترات المستمرة منذ فترة طويلة بين الجيش بقيادة عبدالفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع شبه العسكرية بقيادة محمد حمدان دقلو، وتحولت إلى معارك شوارع في العاصمة الخرطوم.
كما امتد القتال إلى أجزاء أخرى من البلد العربي، لا سيما المناطق الحضرية وإقليم دارفور، فيما أفادت الأمم المتحدة بسيطرة قوات الدعم السريع، على معظم أنحاء دارفور ومحاصرة مدينة الفاشر، العاصمة الوحيدة في دارفور التي لا تسيطر عليها.
ويستكمل إقليم دارفور النازف رحلة أخرى مليئة بالدماء بعد سنوات سوداء شهدها مع اندلاع نزاع مسلح منذ فبراير 2003، بين الحكومة وحركات مسلحة، على إثرها قاد الرئيس السابق آنذاك عمر البشير، حملات مواجهات ضارية، قادته إلى ملاحقات دولية إثر اتهامات ينفها بـ"ارتكاب إبادة جماعية"، قبل أن يوقع اتفاق سلام في عام 2010.
أرقام صادمة
خرج إقليم دارفور من رحم الصراعات وهو يفقد مزيدا من بريق ثرواته، وجاءته النكسة الجديدة مع الحرب التي لا تريد أن تهدأ، وخلّفت أرقاما صادمة، وفق بيانات أممية حديثة.
وفي مايو الجاري، ذكر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا" في تقرير، أن أكثر من 8.8 مليون شخص فروا من منازلهم منذ اندلاع القتال بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في منتصف أبريل 2023.
ونزح ما يقدر بنحو 6.8 مليون شخص داخل البلاد، بينهم أكثر من 30 بالمئة في إقليم دارفور وحده، على النحو التالي: في ولايات جنوب دارفور (11 بالمئة)، وشرق دارفور (10 بالمئة)، بخلاف نزوح من شمال دارفور (9 بالمئة) ووسط دارفور (4 بالمئة).
ومؤخرا تصاعدت الاشتباكات المسلحة المستمرة بين الجيش وقوات الدعم السريع بمدينة الفاشر في ولاية شمال دارفور، ما ينذر بتنامي أعمال النزوح.
وبحسب التقرير الأممي ذاته، "لا يزال الحصول على الغذاء يمثل الحاجة ذات الأولوية للنازحين في جميع أنحاء البلاد، تليها خدمات الرعاية الصحية والمياه والمرافق الصحية المتردية، لا سيما في أنحاء إقليمي دارفور وكردفان".
كما كشف التقرير أنه لم يحصل نحو 121 ألف شخص على مساعدات إنسانية خلال الشهر الماضي في ولايتي شمال وجنوب دارفور بسبب القيود المفروضة على حركة الشاحنات وانفلات الأوضاع الأمنية.
ولم يتلق 1280 شخصًا في ولاية شمال دارفور، الذين جرى استهدافهم بالغذاء ومآوي الطوارئ والمواد غير الغذائية والإمدادات الصحية، مساعدات إنسانية لأسباب مرتبطة بمخاطر أمنية.
نفق مظلم
وحملت التصريحات الأممية مخاوف كارثية لإقليم دارفور رغم غناه بالثروات، ففي 26 مايو الجاري، حذر مدير منظمة الإغاثة الدولية في السودان، كاشف شفيق، من تسارع الوضع الإنساني المتدهور في شمال دارفور بسبب المواجهات المسلحة.
وتحدث شفيق في تصريحات صحفية عن أن السكان المحليين يفرون إلى الصحراء بحثا عن الأمان، ومع تضاؤل إمدادات الغذاء والمياه يموت كل يوم ما بين 30 إلى 50 شخصاً، وأصبح تهديد المجاعة الذي يلوح في الأفق حقيقة واقعة.
وتوقع شبح المجاعة وَرَدَ أيضا على لسان مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك، في 17 مايو الجاري، الذي قال إنه تواصل مع طرفي الصراع الذي أدى لمقتل الآلاف وتشريد الملايين بهدف التهدئة، وفق بيان أممي آنذاك.
وقالت المتحدثة باسم المفوضية السامية لحقوق الإنسان، رافينا شامداساني، إن تورك "حذّر القائدين من أن القتال في الفاشر، حيث يوجد حاليا أكثر من 1.8 مليون شخص من السكان والنازحين داخليا المحاصرين والمعرضين لخطر المجاعة الوشيك، سيكون له تأثير كارثي على المدنيين".
مجاعة على الأبواب
وحذرت فرق إغاثة دولية من أن المجاعة ستدق الأبواب مع اقتراب موسم الأمطار الذي عادة ما يبدأ من يونيو ويستمر حتى سبتمبر، إذ تكون ذروة الأمطار الموسمية والفيضانات بين أغسطس وسبتمبر من كل عام بالسودان.
وتهدف خطة الأمم المتحدة للاستجابة المشتركة إلى الوصول إلى 15 مليون شخص هم الأكثر تضررا، ولكن هناك حاجة إلى 2.7 مليار دولار بشكل عاجل للقيام بذلك، وحتى الآن لم تلقَ هذه الاستجابة سوى 12 بالمئة من الإجمالي.
وحذر المتحدث باسم "الأوتشا"، يانس لاركيه، من عدم القدرة على توسيع عمليات فرق الإغاثة في الوقت الحالي بدون تمويل فوري لـ"درء المجاعة ومنع المزيد من الحرمان".
وفي 15 مايو الجاري، حذرت الأمم المتحدة من أن فرصة تجنب حدوث المجاعة في مناطق الصراع تضيق بسرعة مع قدوم موسم العجاف وبدء موسم الأمطار الشهر المقبل، ما سيجعل الوصول إلى طرق النقل الحيوية غير ممكن.
وسبق أن حذر برنامج الأغذية العالمي في بيانات عدة من أن السودان قد يواجه "أسوأ أزمة جوع في العالم" مع دخول الصراع عامه الثاني، مؤكدا أن نافذة منع حدوث المجاعة تغلق بسرعة دون اتخاذ إجراءات فورية.
وأعادت وكالة الأغذية التابعة للأمم المتحدة، تحذير الأطراف المتحاربة في السودان من "وجود خطر حقيقي مع انتشار المجاعة والموت على نطاق واسع في دارفور وأماكن أخرى في السودان إذا لم تسمح بدخول المساعدات الإنسانية إلى المنطقة الغربية الشاسعة".
وقالت المتحدثة الإقليمية باسم برنامج الأغذية العالمي ليني كنزلي في مؤتمر صحفي عقد في وقت سابق من الشهر الحالي إن ما لا يقل عن 1.7 مليون شخص في دارفور يعانون من مستويات الطوارئ من الجوع، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد مستقبلا.
تاريخ كارثي
ومطلع مايو الجاري، أعرب نائب منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في السودان طوبي هارورد، عن خوفه من أن يعيد التاريخ نفسه في دارفور بعد مرور 21 عاما على الصراع الذي أدى إلى تمزيق النسيج الاجتماعي في الإقليم.
وكشف طوبي هارورد أنه تم إجلاء الموظفين الدوليين التابعين للأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية من دارفور بعد اندلاع الحرب في أبريل 2023، بينما واصل العديد من الموظفين السودانيين المحليين الشجعان تنفيذ البرامج في ظل ظروف صعبة للغاية.
وقال هارورد: "لا يمكننا توفير حجم ونطاق المساعدات الإنسانية المطلوبة ما لم يكن لدينا المزيد من الموارد المالية لشراء وتخزين المساعدات على الأرض قبل موسم الأمطار، ولا يمكننا الوصول إلى الأشخاص الأشد ضعفا الذين يحتاجون إلى المساعدات ما لم تكن لدينا إمكانية الوصول التي توفرها الأطراف المتحاربة".
ومؤخرا ناشدت منظمات حقوقية دولية، حكومات العالم بسرعة التحرك لحماية المدنيين العالقين وسط أعمال العنف المتصاعدة في مدينة الفاشر بإقليم دارفور، كما اتهمت قوات الدعم السريع في السودان بارتكاب إبادة جماعية في مدينة الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور.
ومن المقرر انعقاد مؤتمر في مصر أواخر يونيو المقبل، يضم كل القوى السياسية المدنية السودانية، بحضور الشركاء الإقليميين والدوليين المعنيين، بهدف التوافق ووقف الحرب الدائرة في السودان.
سياسات كارثية
بدوره، قال الخبير السياسي من دارفور، ياسر آدم عيسى، لـ"جسور بوست"، إن سياسات الدولة إبان عصر الرئيس السابق عمر البشير من خلال تسليح القبائل العربية ضد القبائل الإفريقية هي اللعنة التي أورثت الإقليم الدمار والدماء على مدى العقود الماضية.
وأشار عيسى إلى إقحام طرف جديد في المعادلة السياسية، ويتمثل في الحركات المسلحة التي وقعت مع الحكومة الانتقالية اتفاق جوبا لسلام السودان عام ٢٠٢٠، والذي بمقتضاه شاركت الحركات المسلحة في الحكم وتورطت بشكل ما في اشتباكات دامية وعنصرية ضد القبائل الإفريقية.
وقال عيسى: "دارفور على شفا مجاعة حقيقية بسبب الاضطرابات العسكرية والأوضاع الأمنية المتردية التي تحول دون دخول المساعدات الإنسانية وهو الكابوس الذي سيتحول إلى قنبلة تنفجر في وجه الإقليم والسودان كله".
ويرى مراقبون أن اتفاق جوبا للسلام ساهم في نشر السلاح بدارفور، لأنه أعاد الجماعات المسلحة إلى معسكرات النازحين في الإقليم السوداني، حيث كان المسلحون قبل الاتفاق يعيشون في المناطق النائية البعيدة في جنوب السودان وليبيا، لكنهم عادوا بعد الاتفاق إلى دارفور، وباتوا يرتكبون جرائم بشعة ضد المدنيين.
ويتسم الصراع التاريخي في دارفور بالطبيعة العرقية بين القبائل العربية والإفريقية وتزايد حدته على مدى سنوات الغياب التام لمؤسسات الدولة وإفلات الجناة من العقوبة وانتشار السلاح.