التسامح في خطر.. كيف يؤجج خطاب الكراهية النزاعات الدينية؟

التسامح في خطر.. كيف يؤجج خطاب الكراهية النزاعات الدينية؟

أثر خطاب الكراهية الديني.. اضطرابات نفسية وعنف مجتمعي

مصطفى عبدالكبير: “خطاب الكراهية الدينية” تهديد للنسيج الاجتماعي وحقوق الإنسان الأساسية

علاء الغندور: خطاب الكراهية الديني له عواقب وخيمة من اضطرابات نفسية إلى عنف طائفي

 

في قلب العالم المعاصر، حيث تمتزج الثقافات وتتقارب المجتمعات كالألوان على لوحة فنية زاهية، تُلقي الكراهية الدينية بظلالها الداكنة، مشوهة جمال هذا التلاحم الإنساني. 

مثل شرارة صغيرة تشعل حريقًا هائلًا، يمكن لخطاب الكراهية الدينية أن يتحول إلى موجة من العنف والاضطهاد والتمييز، مهددًا سلامة المجتمعات واستقرارها. 

وسلط التقرير الذي اطلعت "جسور بوست" على نسخة منه، والمقدم إلى مجلس حقوق الإنسان في دورته الـ56، الضوء على دوافع تدنيس الكتب المقدسة وأماكن العبادة والرموز الدينية، وأسبابه الجذرية وآثاره على حقوق الإنسان، باعتباره مظهرا من مظاهر الكراهية الدينية التي قد تشكل تحريضا على التمييز أو العداء أو العنف، وتدابير الردع، في الإنترنت أو خارجه، لأعمال الكراهية الدينية.

وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن خطاب الكراهية الدينية قد ازداد بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، مدفوعًا بالأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. 

في عام 2023، رصدت المفوضية السامية لحقوق الإنسان زيادة بنسبة 30% في حوادث الكراهية الدينية مقارنة بالعام السابق. 

هذه الأرقام تكشف عن واقع مرير، حيث يصبح التنوع الديني والعرقي فريسة سهلة للتحريض والخطاب العدائي. 

في الولايات المتحدة، شهدت جرائم الكراهية ضد المسلمين ارتفاعًا بنسبة 67% بين عامي 2015 و2017، وفقًا لمكتب التحقيقات الفيدرالي هذه الجرائم تتراوح بين الهجمات الجسدية وتخريب المساجد وصولًا إلى التهديدات عبر الإنترنت.

وفي أوروبا، أبلغت وكالة الحقوق الأساسية التابعة للاتحاد الأوروبي عن تزايد الهجمات المعادية للسامية، حيث ارتفعت بنسبة 13% في عام 2022 وحده. 

العنف الناتج عن الكراهية الدينية لا يقتصر فقط على الأفراد، بل يمتد ليطول المجتمعات بأسرها، ففي ميانمار تعرضت أقلية الروهينغا المسلمة لحملة عسكرية وصفتها الأمم المتحدة بأنها تطهير عرقي، هذه الحملة أسفرت عن مقتل الآلاف ونزوح أكثر من 700 ألف شخص إلى بنغلاديش. 

هذه الأحداث في ميانمار تعد مثالًا صارخًا على كيف يمكن لخطاب الكراهية الدينية أن يؤدي إلى كوارث إنسانية ضخمة. 

في الهند، شهدت البلاد تزايدًا في العنف الطائفي بين الهندوس والمسلمين، مع تسجيل العديد من الحوادث العنيفة التي تؤججها خطابات الكراهية المنتشرة عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. 

ووفقًا لمنظمة "Human Rights Watch"، فإن خطابات الكراهية التي يلقيها السياسيون وقادة المجتمع كانت وراء تصاعد الهجمات ضد المسلمين في الهند، بما في ذلك الاعتداءات الجسدية والقتل. 

تأثير خطاب الكراهية الدينية يمتد أيضًا إلى التمييز في الحياة اليومية، حيث يعاني الأفراد من مختلف الأديان من التمييز في العمل والتعليم والإسكان. 

في تقريرها لعام 2022، أفادت منظمة العفو الدولية بأن المسلمين في فرنسا يواجهون تمييزًا ممنهجًا في سوق العمل، حيث تكون فرص توظيفهم أقل بنسبة 50% مقارنة بغير المسلمين، هذا التمييز يعمق الفجوة الاقتصادية والاجتماعية، ويعزز من مشاعر الإقصاء والتهميش. 

أصبحت شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي منصات رئيسية لنشر خطاب الكراهية الدينية، حيث يمكن لهذه الرسائل أن تنتشر بسرعة البرق، ملتهبة المشاعر ومؤججة للصراعات. 

وكشف تقرير صدر عن مركز "بيو" للأبحاث في عام 2022 أن 70% من مستخدمي الإنترنت في دول عدة تعرضوا لشكل من أشكال خطاب الكراهية عبر الإنترنت. 

هذه الأرقام تسلط الضوء على الحاجة الملحة لاتخاذ إجراءات حاسمة للحد من انتشار هذه الرسائل السامة. 

تقرير أممي حديث

خطاب الكراهية الدينية هو سلاح خبيث يستخدمه البعض لتحقيق مكاسب سياسية أو اجتماعية على حساب الأقلية المستهدفة. 

في هذا السياق، سلط التقرير المقدم إلى مجلس حقوق الإنسان في دورته الـ56 الضوء على دوافع تدنيس الكتب المقدسة وأماكن العبادة والرموز الدينية، وأسبابه الجذرية وآثاره على حقوق الإنسان. 

يُظهر هذا التحليل أن الكراهية الدينية ليست مجرد ظاهرة عابرة، بل هي انعكاس لتعصب عميق يمكن أن يؤدي إلى التمييز والعنف والاضطهاد، لتعزيز التعايش السلمي.

 وقد شجع المفوض السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على اعتماد تشريعات شاملة لمكافحة التمييز تستند إلى المبادئ التوجيهية التي أصدرتها المفوضية مؤخرا. 

ودعا الدول إلى تنفيذ الالتزام الدولي الناشئ عن المادة 20 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي تقضي بحظر الدعوة إلى الكراهية، هذا الالتزام يتطلب وضع قوانين تمنع التحريض على الكراهية وتحمي حقوق الأقليات الدينية والعرقية. 

من ناحية أخرى، أكد المفوض السامي أهمية اتخاذ الإجراءات المناسبة على صعيد مؤسسات العدالة، فينبغي أن تنظر هذه المؤسسات بصورة أكثر منهجية في حالات التعبير عن الكراهية الدينية، بما في ذلك حالات التدنيس المزعوم للكتب المقدسة والرموز الدينية. 

تعزيز مشاركة القضاة والمحامين والمدعين العامين في برامج التعلم بين الأقران، وتنظيم أنشطة لتدريب قوات الشرطة على تسجيل وقائع التحريض على التمييز والعداء والعنف واتخاذ إجراءات بشأنها، يعد خطوة ضرورية للحد من انتشار الكراهية الدينية.

وشدد التقرير على أن القانون الدولي لحقوق الإنسان لا يحمي المذاهب أو المواقف الدينية في حد ذاتها، فقد أشارت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان إلى أنه لا يحظر إبداء قلة احترام لدين عندما لا يشكل ذلك تحريضا على التمييز أو العداء أو العنف، هذه النقطة تبرز أهمية التوازن بين حرية التعبير وضرورة حماية المجتمعات من الخطابات التي تدعو إلى العنف والكراهية. 

لتحقيق ذلك، أوصى تورك باتخاذ مبادرات فعالة لبناء مجتمعات تعتبر فيها أشكال التعبير عن الكراهية غير مقبولة اجتماعيا. 

انتهاك صارخ لحقوق الانسان

وقال رئيس المرصد التونسي لحقوق الإنسان، مصطفى عبدالكبير، إن ظاهرة خطاب الكراهية الدينية تتنامى بشكل مقلق، مهددةً السلام الاجتماعي وحقوق الإنسان الأساسية، ويُعتبر خطاب الكراهية الدينية نوعًا من العنف اللفظي والتحريضي الذي يستهدف الأفراد أو الجماعات بناءً على معتقداتهم الدينية، مشيرًا إلى أن هذا الخطاب لا يقتصر على الإساءة اللفظية فحسب، بل يمتد ليشمل التحريض على التمييز والعنف، ما يؤدي إلى تدمير النسيج الاجتماعي وإذكاء نار الفتن والصراعات.

وأضاف عبدالكبير، في تصريحه لـ"جسور بوست": من منظور حقوق الإنسان، يُعد خطاب الكراهية الدينية انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان التي نصت عليها المواثيق الدولية، فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، يُشددان على حق كل فرد في حرية الدين والمعتقد، وحقه في التعبير عن رأيه دون التعرض لأي نوع من التمييز أو العنف، لكن خطاب الكراهية الدينية يقوض هذه الحقوق، حيث يستخدم كأداة لتحريض المجتمعات ضد بعضها بعضا، ما يؤدي إلى عواقب وخيمة تتجاوز حدود الكلمات.. تتمثل مشكلة خطاب الكراهية الدينية في أنه يزرع بذور الكراهية والشك بين أفراد المجتمع.. هذه البذور تنمو لتصبح أشجارًا من العنف والتمييز، حيث يتم استهداف الأقليات الدينية بشكل ممنهج، ما يؤدي إلى اضطهادهم وعزلهم اجتماعيًا واقتصاديًا. 

وتابع: في كثير من الأحيان، يُستخدم خطاب الكراهية الدينية كأداة سياسية من قبل بعض القادة لتحقيق مكاسب شخصية أو حزبية، حيث يلجؤون إلى تأجيج المشاعر الدينية لجذب الدعم الانتخابي، هذا الاستغلال السياسي يُفاقم حدة المشكلة ويعزز الانقسامات داخل المجتمع على صعيد آخر، ويتسبب خطاب الكراهية الدينية في تآكل الثقة بين المجتمعات المختلفة، ما يعيق جهود التعايش السلمي والتعاون.. عندما يُصبح خطاب الكراهية أمرًا مألوفًا ومقبولًا يفقد المجتمع قدرته على التماسك والتضامن، وتتحول الاختلافات إلى صراعات، هذا التآكل في النسيج الاجتماعي يؤدي بدوره إلى زيادة حالات العنف الديني والاعتداءات على دور العبادة وأماكن التجمعات الدينية، ما يعرض حياة الأفراد للخطر ويزعزع استقرار المجتمعات. 

وشدد الحقوق التونسي على أن الإحصاءات تشير إلى تزايد حالات العنف الديني المرتبطة بخطاب الكراهية في العديد من الدول، وتقارير حقوق الإنسان توثق ارتفاعًا ملحوظًا في جرائم الكراهية والتمييز على أساس الدين، ما يؤكد الحاجة الملحة لاتخاذ إجراءات فعالة لمواجهة هذه الظاهرة، ومن الضروري أن تقوم الحكومات بتبني سياسات وتشريعات صارمة تمنع خطاب الكراهية وتعاقب مرتكبيه، يجب أيضًا تعزيز ثقافة التسامح والاحترام المتبادل من خلال برامج التوعية والتعليم التي تركز على أهمية التنوع الديني واحترام حقوق الآخرين. 

وأشار إلى أنه لا يمكن التغاضي عن دور وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في انتشار خطاب الكراهية الدينية، هذه المنصات أصبحت ساحات مفتوحة لنشر الأفكار المتطرفة والتحريضية، مما يتطلب وضع ضوابط وقوانين صارمة لمراقبة المحتوى وضمان عدم استخدام هذه المنصات لنشر الكراهية.. ويجب على شركات التكنولوجيا العمل بجدية على تطوير أدوات فعالة لرصد وحذف المحتوى الذي يحرض على الكراهية والعنف من جهة أخرى، وينبغي تعزيز الحوار بين الأديان كوسيلة لمواجهة خطاب الكراهية الدينية. 

مصطفى عبدالكبير

واختتم عبدالكبير قائلا: "يُشكل خطاب الكراهية الدينية تهديدًا حقيقيًا لحقوق الإنسان والسلم المجتمعي.. فالتصدي لهذه الظاهرة يتطلب تضافر الجهود من قبل الحكومات، والمؤسسات الدولية، والمجتمعات المدنية، من خلال تعزيز التشريعات، ونشر ثقافة التسامح، وتشجيع الحوار بين الأديان، يمكننا بناء مجتمعات أكثر انسجامًا واحترامًا لحقوق الجميع، بغض النظر عن معتقداتهم الدينية، فقط من خلال هذه الجهود المشتركة يمكننا مواجهة خطاب الكراهية الدينية وتحقيق عالم أكثر عدالة وسلامًا".

عنف وتطرف

وعن الأثر الاجتماعي والنفسي علق الأكاديمي وخبير علم النفس علاء الغندور بقوله، إن خطاب الكراهية الديني يشكل تهديدًا خطيرًا للنسيج الاجتماعي ويترك أثرًا عميقًا على الأفراد والمجتمعات، ويتسبب هذا النوع من الخطاب في تفاقم التوترات الاجتماعية، وتعزيز الانقسامات، وإلحاق الأذى العاطفي والنفسي بالأفراد المستهدفين تأثيره يمتد ليشمل جوانب مختلفة من حياة الناس، ما يجعل التصدي له أمرًا حيويًا لضمان السلامة والاستقرار الاجتماعي. 

وأكد الغندور، في تصريحاته لـ"جسور بوست"، أن الأثر النفسي لخطاب الكراهية الديني على الأفراد يمكن أن يكون مدمرًا، فالذين يتعرضون لهذا النوع من الخطاب يعانون من مشاعر الخوف والقلق والاكتئاب، هذا الخوف ليس مجرد استجابة عاطفية مؤقتة، بل يمكن أن يؤدي إلى اضطرابات طويلة الأمد مثل اضطراب ما بعد الصدمة.

وأشار إلى أن الأفراد المستهدفين يشعرون بأنهم مهددون وغير آمنين في مجتمعاتهم، ما يدفعهم إلى العزلة والانطواء، هذه المشاعر تؤدي بدورها إلى انخفاض في تقدير الذات وزيادة في معدلات التوتر والقلق، ما يؤثر سلبًا على صحتهم النفسية والعاطفية. 

واستطرد الغندور: من الناحية الاجتماعية، يعزز خطاب الكراهية الديني الانقسامات بين المجتمعات المختلفة، عندما يُستخدم الدين كأداة للتحريض على الكراهية، يصبح من الصعب بناء جسور التفاهم والتعايش بين الأفراد من مختلف الخلفيات الدينية، هذا يؤدي إلى خلق بيئة من عدم الثقة والعداء المتبادل؛ ما يعزز التعصب والتحيز، في مثل هذه البيئات تصبح الأحداث الصغيرة شرارات تشعل صراعات أكبر، ما يزيد من احتمالات العنف الطائفي والتمييز الاجتماعي. 

وشدد على أن الآثار السلبية لخطاب الكراهية الديني تتجلى أيضًا في تآكل القيم الديمقراطية والتعايش السلمي، فالمجتمعات التي تتعرض لمثل هذا الخطاب بشكل متكرر تجد نفسها في مواجهة تحديات كبيرة تتعلق بالحفاظ على وحدة المجتمع واحترام التنوع، كما يؤدي هذا الخطاب إلى إضعاف الروابط الاجتماعية وتقويض الجهود المبذولة لتعزيز التفاهم المتبادل والتسامح. 

وأضاف، أنه بدلاً من التعاون والعمل المشترك، يصبح التركيز على الاختلافات والصراعات.. ويؤثر خطاب الكراهية الديني كذلك على الأطفال والشباب، الذين يشكلون جزءًا كبيرًا من مستقبل المجتمع، فالأطفال الذين ينشؤون في بيئات مشحونة بالكراهية والتعصب يتبنون في كثير من الأحيان هذه القيم السلبية، ما يؤثر على نموهم النفسي والاجتماعي، ويتعلمون من سلوكيات البالغين والمجتمع المحيط بهم، ما يجعل من الصعب تغيير هذه الاتجاهات في المستقبل، بالتالي يصبح من الصعب بناء جيل جديد يتبنى قيم التسامح والاحترام المتبادل، علاوة على ذلك يمكن أن يؤدي خطاب الكراهية الديني إلى تزايد العنف والتطرف لدى الأفراد الذين يشعرون بالاستهداف والاضطهاد بسبب دينهم، فيمكن أن يلجؤوا إلى العنف كوسيلة للدفاع عن أنفسهم أو لتحقيق العدالة، ما يؤدي إلى دوامة من العنف المتبادل.. وهذا لا يقتصر على العنف الجسدي، بل يمتد إلى العنف اللفظي والعاطفي، ما يزيد من تفاقم الوضع. 

علاء الغندور

ولمواجهة آثار خطاب الكراهية الديني، قال الغندور: يجب على المجتمعات تبني استراتيجيات شاملة تهدف إلى تعزيز التفاهم والتسامح، التعليم يلعب دورًا حاسمًا في هذا السياق، حيث يمكن للبرامج التعليمية التي تركز على التعددية الدينية وحقوق الإنسان وأن تساعد في بناء جيل واعٍ ومستنير قادر على التصدي للكراهية والتعصب، بالإضافة إلى ذلك يجب على الحكومات والمجتمع المدني العمل معًا لوضع سياسات وتشريعات تجرم خطاب الكراهية وتعزز ثقافة الاحترام المتبادل. 

واختتم الغندور: “يمكن القول إن خطاب الكراهية الديني له تأثير مدمر على الأفراد والمجتمعات على حد سواء، إنه يقوض السلام الاجتماعي والصحة النفسية للأفراد، ويعزز الانقسامات والصراعات، ولمواجهة هذه التحديات يجب على المجتمعات تبني مقاربة شاملة تعزز قيم التسامح والتفاهم، وتحمي حقوق الإنسان لجميع الأفراد بغض النظر عن معتقداتهم الدينية، فقط من خلال العمل المشترك يمكننا بناء مجتمعات أكثر انسجامًا وسلامًا”.

 

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية