كراهية عابرة للحدود.. كيف أشعلت الأزمات الدولية نار العنصرية في أستراليا؟
كراهية عابرة للحدود.. كيف أشعلت الأزمات الدولية نار العنصرية في أستراليا؟
في قلب المجتمع الأسترالي، الذي طالما تفاخر بتعدديته الثقافية، يتصاعد في الأفق اليوم دخان أزمة إنسانية عميقة: الارتفاع "المرعب" لحالات العنصرية بمختلف أشكالها، من معاداة السامية إلى كراهية العرب والفلسطينيين والمسلمين، وصولًا إلى التجاهل المنهجي لمعاناة السكان الأصليين.
المؤشر ليس افتراضًا أو مبالغة إعلامية؛ بل جاء على لسان مفوض مكافحة التمييز العنصري في أستراليا، غيريدهاران سيفارامان، الذي وجّه نداءً عاجلًا إلى السلطات للتحرك، مشيرًا إلى أن الحرب في غزة لم تُفجّر فقط مأساة إنسانية على بُعد آلاف الكيلومترات، بل فجّرت معها أزمة أخلاقية داخلية تهدد تماسك المجتمع الأسترالي.
حين يُجرّد الإنسان من إنسانيته
في خطابه، الأربعاء، أمام النادي الوطني للصحافة، حذّر سيفارامان من أن المشهد العام بات مسمومًا، مشاورات ميدانية أجرتها المفوضية الأسترالية لحقوق الإنسان كشفت أن الجاليات اليهودية والفلسطينية والعربية والمسلمة تشعر بأنها "منزوعة الإنسانية" وسط أجواء الصراع المستعر في الشرق الأوسط.
ليس الأمر مجرّد اختلاف في وجهات النظر السياسية، بل أزمة قيم ومفاهيم، العنصرية هنا لا تفرق بين الضحية والجلاد، بل تُسقط الضحايا جميعًا في حفرة واحدة من الكراهية والنفي والإقصاء.
قال سيفارامان بوضوح: "عدم الاعتراف بأحداث السابع من أكتوبر ينزع إنسانية ضحاياها من اليهود والإسرائيليين، وبالمثل، تجاهل الدمار والمجازر في غزة، بما في ذلك مقتل 18 ألف طفل، ينزع إنسانية الفلسطينيين ومن يتماهى معهم".
إنها معادلة مرعبة، حيث تصبح الكارثة وسيلة لنزع الاعتراف، ويصبح الألم حكرًا على طرف دون الآخر.
63 توصية لمكافحة العنصرية
في نوفمبر 2024، أطلقت مفوضية حقوق الإنسان في أستراليا "الإطار الوطني لمكافحة العنصرية"، وهي خطة طموحة تمتد لعشر سنوات وتضم 63 توصية شاملة، تعترف بأن العنصرية في أستراليا ليست حوادث فردية، بل بنية ممنهجة تضرب جذورها في التاريخ الاستعماري، وتُعيد إنتاج نفسها عبر السياسات، المؤسسات، والإعلام.
من بين ما يدعو إليه الإطار: إدراج مناهج تعليمية تُعزز فهم التنوع والعدالة العرقية، دعم إعلامي مستقل في المجتمعات المتضررة من العنصرية، آليات رصد وتوثيق للخطاب العنصري وجرائم الكراهية، تعزيز الحماية القانونية للضحايا، ومساءلة مرتكبي التمييز.
ورغم أهمية هذا الإطار، لم تتلقَّ المفوضية حتى الآن أي التزام رسمي من الحكومة الفيدرالية أو حكومات الولايات، ما يُثير تساؤلات حول الإرادة السياسية الحقيقية لمواجهة الأزمة.
السكان الأصليين في قلب المعاناة
في قلب كل حديث عن العدالة العرقية في أستراليا، يقف ملف السكان الأصليين مرآة تكشف عمق التناقض.
قال سيفارامان بصرامة: "لا يمكن تحقيق العدالة العرقية دون تحقيق العدالة للأبورجيني وسكان جزر مضيق توريس... فجذور جميع أشكال العنصرية في هذا البلد تعود إلى العنف الممارس على السكان الأصليين".
وهو أمر تؤكده الأرقام والتقارير الحقوقية، حيث يبلغ متوسط عمر السكان الأصليين أقل بـ8 سنوات مقارنة بباقي السكان، ومعدل السجن بينهم أعلى بـ13 مرة، وفي عام 2024، أبلغت مفوضية حقوق الإنسان عن أكثر من 100 حالة وفاة لمواطنين من السكان الأصليين أثناء الاحتجاز دون تحقيقات كافية.
كما رفض استفتاء 2023 حول إدراج "صوت السكان الأصليين" في البرلمان، والذي مثّل نكسة عميقة في المصالحة الوطنية.
ورغم الاعتراف الرسمي بأن الاستعمار الاستيطاني خلف آثارًا مستمرة، لم تُترجم الأقوال إلى أفعال، ولا تزال المجتمعات الأصلية تُعاني من التهميش البنيوي والعنصرية المتوارثة.
العنصرية ضد المسلمين والعرب
مع تصاعد العدوان الإسرائيلي على غزة، شهدت أستراليا موجة من الإسلاموفوبيا والعنصرية ضد العرب والفلسطينيين، بحسب ما وثقته تقارير منظمات مثل إسلاموفوبيا ووتش أستراليا ومركز العدالة الاجتماعية.
ارتفعت البلاغات عن الاعتداءات اللفظية والجسدية ضد المسلمين بنسبة 52% خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2025، وأبلغت عائلات فلسطينية عن تهديدات بالقتل وتخريب لمنازلها، ووثّق طلاب جامعيون من أصول عربية طردهم من مجموعات دراسية بعد التعبير عن تضامنهم مع غزة.
هذه الوقائع لا تُعد فقط مؤشراً على تراجع التسامح، بل تكشف غياب آليات الحماية القانونية والاجتماعية، خاصة حين يُترك الضحايا ليواجهوا الكراهية وحدهم، في حين تكتفي الحكومة بإدانة لفظية لا تردع الجناة.
مصالحة لم تكتمل
تعاني أستراليا، منذ تأسيسها بصفتها مستعمرة بريطانية عام 1788، من إرث عنصري ثقيل. الأرض التي بُنيت على أنقاض مجتمعات السكان الأصليين لا تزال تُدار بذات المفاهيم التي فصلت، ونفَت، وجرّدت فئات كاملة من الاعتراف.
لم تُحاسب أستراليا على سياسات "الجيل المسروق" حيث انتُزع آلاف الأطفال الأصليين من عائلاتهم.
لم تُداوِ ندوب القوانين التي منعت السكان الأصليين من التصويت حتى الستينات.
ولم تُقدم بعدُ اعتذارًا فعليًا للفلسطينيين أو العرب الذين يُشيطنهم الخطاب السياسي والإعلامي خلال كل أزمة.
قال سيفارامان في نهاية خطابه: "علينا خوض محادثات صعبة وسماع حقائق غير مريحة، لكن القيام بذلك ليس وسيلة للانقسام، بل هو فعل قوي من أجل الوحدة".
ما يحدث اليوم في أستراليا ليس مجرد "ارتفاع مرعب" لحالات العنصرية، بل تحذير مدوٍ من انهيار الثقة داخل المجتمع، وتآكل القيم التي بُنيت عليها الهوية الوطنية.
ويؤكد مراقبون حقوقيون أن الذاكرة الإنسانية لا تُشفى بالتجاهل، والمجتمعات لا تتماسك بالقمع أو النسيان، وأنه إذا أرادت أستراليا أن تظل موطنًا للجميع، فعليها أولاً أن تعترف بالجميع، وتُصغي لقصصهم، وتُصحح مظالمهم، لا أن تُعيد إنتاجها في ثوب جديد، مشددين على أن العنصرية ليست رأيًا... إنها جريمة يجب أن تُواجه بوضوح، وشجاعة، وإنصاف.