عملية تبادل الأسرى هذه تعد انتصاراً وربما مؤشراً إلى ما هو أبعد من ذلك

عملية تبادل الأسرى هذه تعد انتصاراً وربما مؤشراً إلى ما هو أبعد من ذلك

ما من شك في أهمية إعادة كل من إيفان غيرشكوفيتش وفلاديمير كارا - مورزا وبول ويلان وآخرين، وقد يذهب التفسير الأكثر تفاؤلاً إلى رصد إشارة يبعثها الرئيس فلاديمير بوتين إلى الغرب، ومفادها أن روسيا منفتحة على محادثات جادة تتعلق بالحرب في أوكرانيا

إنها، ومن دون أدنى شك، أكبر عملية لتبادل الأسرى تاريخياً تجري بين الغرب والشرق منذ الحرب الباردة، وقد شملت الإفراج عن 24 شخصاً ينتمون في الأقل إلى 6 دول.

ويشمل المفرج عنهم كلاً من الصحفي الأمريكي إيفان غيرشكوفيتش Evan Gershkovich، وأحد المسؤولين عن حملات المعارضة الروسي البريطاني الجنسية فلاديمير كارا - مورزا Vladimir Kara-Murza، والضابط السابق في قوات مشاة البحرية الأمريكية "المارينز"، بول ويلان Paul Whelan. وتأتي عملية تبادل الأسرى هذه في زمن لعله الأبرد من ناحية العلاقات بين روسيا والدول الغربية، أو الأخطر بالنسبة إلى السلام الأوروبي، إن لم نقل السلام العالمي.

من الناحية التاريخية يجب ألا يثير هذا النوع من التضارب استغراب الكثيرين. فعمليات التبادل هذه تأتي عادة في الأوقات التي تكون فيها العلاقات الدولية قد وصلت إلى أدنى مستوياتها. واليوم، وكما عهدنا هذه الأمور في الماضي، يجسد عرض تبادل الأسرى هذا ليس مجرد ضوء باهت جداً في مرحلة [دولية] كئيبة للغاية، بل دليل على أنه خلف الواجهة التي تشير إلى تباعد وغربة شاملة بين روسيا والغرب ثمة قنوات بقيت مفتوحة.

ومن بين الأشخاص الذين تم تبادلهم كجزء من هذه الصفقة، يبقى ويلان بمثابة الجائزة الكبرى بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية (والخسارة العظمى لكونه ورقة مساومة) بالنسبة إلى الروس، إذ كان يمضي عقوبة في السجن مدتها 16 عاماً بتهمة التجسس. يحمل ويلان 4 جنسيات -الأميركية والكندية والبريطانية والأيرلندية- علماً أن الولايات المتحدة كانت هي الدولة التي قادت الدعوة إلى الإفراج عنه، وقد تم استثناؤه في عمليات تبادل سابقة.

أما غيرشكوفيتش فقد تم اعتقاله في مارس الماضي، وحكم عليه بالسجن بعد إدانته بالتجسس في الشهر الماضي لـ16 عاماً، وهي تهم ينفيها هو والشركة التي كان يعمل لديها، صحيفة "وول ستريت جورنال"، إضافة إلى وزارة الخارجية الأميركية، وقد نفى الجميع الاتهام بصورة قاطعة.

أما كارا - مورزا، فقد كان قد بدأ في تنفيذ الحكم في حقه، أي السجن 25 عاماً بتهمة الخيانة، وتهم أخرى مختلفة بعد عودته إلى روسيا عام 2022. ومن بين المشمولين بصفقة التبادل أيضاً مواطنة مزدوجة الجنسية أميركية - روسية هي ألسو كورماشيفا، الصحافية التي تعمل لدى محطة إذاعية تمولها الولايات المتحدة الأمريكية هي "راديو الحرية" Radio Liberty، وقد اعتقلت خلال زيارة كانت تقوم بها إلى روسيا عند أقربائها، وحكم عليها بالسجن 6 سنوات ونصف السنة، بسبب نشر المعلومات الخاطئة (المتعلقة بالحرب الروسية - الأوكرانية).

إن عملية احتجاز ما لا يقل عن نصف الذين قد أفرج عنهم من قبل روسيا يعكس التراجع الحاد في العلاقات بين الدول الغربية وروسيا، والتي تلت اجتياحها لأوكرانيا في فبراير (شباط) 2022. لقد كان غيرشكوفيتش، أول صحفي أمريكي معتمد [في روسيا] يتم اعتقاله بتهمة التجسس منذ زمن الحقبة السوفيتية. وعلينا أن ننظر إلى المسألة من زاوية أنها، في جزء منها كانت مناورة، لجمع الأوراق التي يمكن المساومة عليها في اللعبة الدبلوماسية الأكبر.

من الواضح أن المفاوضات كانت في الوقت نفسه معقدة وصعبة. فعملية التبادل هذه -على رغم أنها لم تكن على المستوى الذي تكشف اليوم- كان قد جرى التكتم عنها منذ نهاية العام الماضي، عندما كشف الرئيس فلاديمير بوتين أن مسؤولين من روسيا والولايات المتحدة يجرون اتصالات في شأن عملية ستؤدي إلى تحرير غيرشكوفيتش، ولكنه أعطى بعد أسابيع المزيد من التفاصيل خلال مقابلة أجراها مع الإعلامي الأميركي تاكر كارلسون.

لكن، وبغض النظر عما كان يتم التفاوض في شأنه، بدا وكأنه قد تعرض إلى نكسة بعد الموت المفاجئ للمعارض الروسي أليكسي نافالني Alexei Navalny، في معسكر اعتقال في القطب الشمالي في فبراير الماضي. وظهر بعد ذلك أنه كانت صفقة جرى الإعداد لها وكان يفترض بمقتضاها أن يفرج عن نافالني وإبعاده إلى المنفى -ربما ألمانيا- كجزء من عملية التبادل الأوسع نطاقا.

إذا تبين أنه بالفعل كان نافالني جزءاً أساساً من تلك الصفقة، فإن موته كان ليؤدي إلى العودة إلى نقطة الصفر في المفاوضات. وفقط في الشهر الماضي، أي في وقت جرت فيه عملية النطق بالحكم ضد غيرشكوفيتش، أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن روسيا والولايات المتحدة كانتا، أو ما زالتا، أخيراً ربما، على اتصال بخصوص عملية تبادل الأسرى.

من المحتمل أن المعنى الأهم خلف الاتفاق الحالي، إلى جانب حجمه ومستواه، هو أنها العملية الأولى إطلاقاً منذ قيام روسيا في اجتياح أوكرانيا، والتي قامت من بعده معظم الدول الغربية بقطع علاقاتها الدبلوماسية الأساس مع روسيا. وقبل ذلك، جرت عمليات تبادل مرحلية، آخرها كان في شهر ديسمبر 2022، عندما أفرجت روسيا في النهاية عن تاجر الأسلحة فيكتور باوت Viktor Bout، في مقابل الإفراج عن نجمة لعبة كرة السلة الأمريكية بريتني غراينر Brittney Griner، التي كانت قد تم سجنها في اتهامات تتعلق بالمخدرات.

لكن، أي صفقة تبادل من هذا النوع لا يمكنها إلا أن تؤدي إلى إثارة عديد من الشكوك. حتى وفيما يتم الترحيب بالعودة غير المشروطة للصحافي غيرشكوفيتش وكارا - مورزا، وآخرين، فإن الجميع يعترف أن العملية برمتها كانت قد تركت طعماً مراً، وليس فقط بسبب أنها وبوضوح عملية احتجاز رهائن تقوم بها الدولة، وهو عمل مشين، لكن الدول الغربية أيضاً قادرة على القيام به كما ظهر من تصرفات الولايات المتحدة في عملية احتجاز مسؤولة شركة هواوي Huawei، التنفيذية في كندا.

ثمة أسباب أخرى وراء تلك الشكوك أيضاً. إذ غالباً ما يكون نوع من عدم التوازن بين المواطنين الغربيين -الذين يتم اعتقالهم في غالبية الأحيان بتهم واهية أو تهم سياسية- وبين المستفيدين الروس، الذين يمكن أن يكونوا قد أدينوا لارتكابهم جرائم خطرة (مثل فاديم كراسيكوف Vadim Krasikov، لارتكابه عملية قتل بدم بارد). وللأسف، من خلال مثل هذه التسوياًت تجرى عمليات تبادل الأسرى.

علاوة على ذلك، يقوم الأفراد أنفسهم بدفع الثمن أيضاً، فيما أن كلاً من الصحفي غيرشكوفيتش وكارا - مورزا قد نجحا في نيل حريتهما، فإن حياتهما قد تغيرتا تماماً. فغيرشكوفيتش لن يعود، في المدى المنظور، بإمكانه استخدام خبراته في الشأن الروسي حيث هي مطلوبة للغاية. وكارا - مورزا (مثله مثل نافالني)، كان قد عاد إلى روسيا بصورة تلقائية لإيمانه بأن أعماله سيكون لها الوقع الأقوى إذا جاءت من الداخل، لكن سيتحتم عليه الآن أن يعمل من الخارج، وهو حالياً في حالة صحية ضعيفة بسبب الفترة التي أمضاها في السجن.

إذا أخذنا في الاعتبار أن المفاوضات حول هذه الاتفاق تطلب إنجازها مدة طويلة، وكانت صعبة للغاية، فإنه من المعقول أن يتم طرح السؤال لماذا كتب للمفاوضات النجاح في النهاية. من الجانب الأميركي، ربما كان هناك عامل التخلص من الملفات القابعة على المكتب الرئاسي قبل الانتخابات المقبلة في نوفمبر (تشرين الثاني). إن مسألة بقاء صحفي مرموق بيد الدولة الروسية لا يبدو لائقاً بالنسبة إلى البيت الأبيض (حتى ولو كان للحزب الديمقراطي حالياً مرشح رئاسي جديد).

لا يبدو واضحاً ماذا يمكن أن تكون المملكة المتحدة قد قدمت في مقابل إعادة كارا - مورزا، لكن التغيير الحكومي يمكنه في بعض الأحيان أن يسمح ببعض المرونة الجديدة في المحادثات، وذلك من الجهتين.

ثم هناك أيضاً دورة الألعاب الأولمبية. وعلى رغم من كل الغيظ الروسي بخصوص حظر مشاركة رياضييها في دورة الألعاب في باريس تحت راية علمهم الوطني، هل يمكن أن يكون ثمة أمر مثل "هدنة أولمبية"؟ أو أن الأمر يتعلق بأن الرئيس بوتين لديه اهتمام للفوز بحصة ولو صغيرة من التركيز الإعلامي الغربي؟

قبل قليل من انطلاق الألعاب الأولمبية الشتوية في عام 2014، كان الرئيس بوتين قد أعطى أوامره للإفراج عن أحد أغنى أغنياء روسيا الأوليغارشيين ميخائيل خضركوفسكي Mikhail Khodorkovsky، وإرساله إلى المنفى، بعد قضائه عقداً من الزمن في السجن. وقد تم ذلك، بحسب ما قاله بوتين لأسباب إنسانية، لكن الدعاية التي كسبها الرئيس بوتين جراء ذلك كانت كبيرة للغاية.

وثمة تفسير أكثر تفاؤلاً حتى يشير إلى أنه يمكن أن يكون ما جرى بمثابة إشارة من الرئيس بوتين إلى الدول الغربية بأن روسيا أصبحت منفتحة على إجراء مفاوضات جادة تتعلق بالحرب في أوكرانيا، حتى إن هناك نهجاً متفائلاً أكثر يقول إنه ربما أرادت الولايات المتحدة من عملية التبادل هذه إرسال إشارة مماثلة أيضاً. كانت أوكرانيا قد أرسلت واستقبلت المبعوثين في الأسابيع القليلة الأخيرة الذين قد يكونون بمثابة مؤشر إلى وجود تحركات في الجانب الدبلوماسي، وقد تمت إعاقتها حتى الآن ولفترة طويلة.

في اختصار، إن فوز هذا العدد من المواطنين الغربيين بحريتهم بعد تعرضهم للاحتجاز بصورة غير عادلة في روسيا هو بمثابة نبأ ممتاز بحد ذاته، ولكنه لو كان بمثابة مقدمة لحدوث أمر أبعد من ذلك فسيكون خبراً ساراً أكثر.


نقلا عن صحيفة "إندبندنت"


 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية