حقوق الإنسان في مرمى التشريعات.. مخاطر قانون مكافحة المثلية بالعراق

حقوق الإنسان في مرمى التشريعات.. مخاطر قانون مكافحة المثلية بالعراق

حماية القيم أم قمع الحريات؟.. قراءة في التشريعات العراقية المثيرة للجدل

نضال منصور يحذّر من تداعيات قانون تجريم البغاء والمثلية على المجتمع المدني بالعراق

مها البرجس تستعرض السيناريوهات المستقبلية وتأثيرها على حقوق الإنسان

 

في أجواء تتسم بالاضطراب السياسي والاجتماعي، يشهد العراق حالياً تصاعداً ملحوظاً في التشريعات التي تتجه نحو تقليص الحريات الفردية، مع اعتماد مجلس النواب العراقي مؤخراً مشروع قانون "مكافحة البغاء والمثلية الجنسية".

هذا القانون، الذي أُقر في سبتمبر 2024، أثار جدلاً داخل العراق وخارجه، حيث قوبل بانتقادات حادة من قبل منظمات حقوق الإنسان والمجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، التي أعربت عن "قلقها العميق" من تداعياته المحتملة على حقوق الإنسان والحريات الأساسية.

القانون الجديد يعكس تحولاً في السياسة التشريعية العراقية، حيث يُنظر إليه على أنه خطوة قمعية تستهدف بشكل مباشر الفئات الأكثر ضعفاً وتهميشاً في المجتمع، تحت ذريعة الحفاظ على "القيم المجتمعية والأخلاقية"، حيث يفرض القانون عقوبات مشددة على العلاقات الجنسية المثلية، ويعاقب بالسجن والغرامات المالية كل من يروج لها أو يدافع عنها. 

من جانب آخر، يعكس القانون الجديد تناقضاً مع التوجهات العالمية نحو تعزيز حقوق الإنسان، ويضع العراق في مواجهة مع المجتمع الدولي، فبينما يسعى العالم إلى توسيع نطاق الحريات الفردية وحماية الأقليات، تتجه الحكومة العراقية إلى اعتماد قوانين تعزز التمييز وتعاقب الأفراد بناءً على هوياتهم الجنسية.

ويجد المجتمع العراقي الذي يعاني بالفعل من مشكلات اجتماعية واقتصادية متفاقمة، نفسه أمام تشريع يعمق الانقسامات الداخلية ويؤجج التوترات الطائفية والاجتماعية فالقانون الجديد لا يُجرم فقط الأفعال المثلية، بل يوسع دائرة العقوبات لتشمل كل من يُشتبه في ترويجه لما يسمى "الشذوذ الجنسي"، ما يشكل خطراً على حرية التعبير والنشاط الحقوقي في البلاد. 

نشطاء المجتمع المدني والصحفيون، الذين يعملون في بيئة محفوفة بالمخاطر، سيكونون أول من يعاني من تبعات هذا القانون، حيث سيصبحون عرضة للملاحقة والاعتقال تحت ذريعة "تهديد القيم الأخلاقية".

ومن جهة أخرى، تزداد المخاوف من أن يؤدي القانون إلى تصاعد أعمال العنف ضد المثليين في العراق، الذين يواجهون بالفعل تهديدات مستمرة بالقتل والاعتداءات الجسدية. 

وحذرت منظمات حقوق الإنسان من أن هذا التشريع سيزيد من حالة العنف والتهميش التي تعاني منها هذه الفئات، ويعزز مناخ الخوف والترهيب الذي يعيشون فيه، فبدلاً من توفير الحماية لهم، يساهم القانون في تقنين التمييز وإضفاء شرعية على الاعتداءات التي يتعرضون لها.

ولا يقل الجانب الاقتصادي من هذا القانون أهمية عن الجوانب الحقوقية، حيث تُظهر تحليلات الخبراء أن التشريعات التمييزية مثل هذه قد تضر بالاقتصاد العراقي على المدى البعيد، في الوقت الذي يسعى فيه العراق إلى جذب الاستثمارات الأجنبية وتنويع مصادر دخله بعيداً عن الاعتماد على النفط، قد يجد نفسه في موقف صعب إذا استمر في اعتماد سياسات تتناقض مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان.  

البيئة التشريعية القمعية قد تثير قلق المستثمرين الأجانب، ما يؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي وتراجع التدفقات الاستثمارية.

الحكومة العراقية، التي تُروج لهذا القانون كوسيلة لحماية "التراث الثقافي والأخلاقي" للبلاد، يبدو أنها متجاهلة للتداعيات السلبية التي قد تنجم عن هذه السياسات، فبدلاً من تعزيز الوحدة الوطنية والاستقرار، تسهم مثل هذه القوانين في تعميق الانقسامات الداخلية وزيادة التوترات الاجتماعية، وبدلاً من حماية المجتمع من "الانحلال الأخلاقي"، تعزز هذه القوانين مناخ القمع وتقييد الحريات، ما قد يؤدي إلى تآكل أسس الديمقراطية الناشئة في العراق.

التأييد الداخلي لهذا القانون، والذي يأتي بشكل رئيسي من قوى سياسية ودينية محافظة، لا يعكس بالضرورة توافقاً مجتمعياً واسعاً حول هذه القضية بل على العكس، فإن المعارضة للقانون تتزايد، سواء من داخل العراق أو خارجه، حيث ترى منظمات حقوق الإنسان أن القانون يمثل تراجعاً خطيراً عن المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان. فبدلاً من معالجة القضايا الاجتماعية المعقدة بطرق شاملة ومستدامة، يتم اللجوء إلى حلول قمعية تزيد من تعقيد الوضع وتؤدي إلى مزيد من الانقسام والصراع.

وفي ظل هذه التطورات، يتزايد الضغط الدولي على الحكومة العراقية لإعادة النظر في هذا القانون ومراجعة سياساتها الحقوقية فالولايات المتحدة، إلى جانب منظمات حقوق الإنسان الدولية، قد أعربت عن قلقها من أن يؤدي القانون إلى تدهور حالة حقوق الإنسان في العراق بشكل أكبر، ودعت إلى ضرورة احترام الحريات الفردية وضمان حقوق الأقليات.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل ستستجيب الحكومة العراقية لهذه الضغوط، أم أنها ستواصل السير في هذا الطريق؟ وهل سيتاح المجال لمناقشة القضايا المتعلقة بالحريات والحقوق المدنية في إطار من الحوار المفتوح والتفاهم؟ أم أن العراق سيظل عالقاً في دائرة من التشريعات التي قد تعيق تطوره الديمقراطي؟

يرى حقوقيون أن المستقبل الذي يواجه العراق يبدو مليئاً بالتحديات، حيث يجد نفسه أمام مفترق طرق بين التمسك بالقيم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، أو الاستمرار في سياسات التضييق التي قد تؤدي إلى مزيد من التدهور الاجتماعي والاقتصادي، في الوقت الذي يتطلع فيه الشعب العراقي إلى مستقبل أكثر استقراراً وعدلاً، يتعين على الحكومة أن توازن بين ضرورة حماية القيم المجتمعية وبين الالتزام بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان.

ويؤكد محللون أن تجربة العراق في السنوات الأخيرة قد أظهرت بوضوح أن القمع والتضييق على الحريات لا يؤديان إلا إلى مزيد من الفوضى والانقسام. إذا كان العراق يرغب في بناء مستقبل ديمقراطي ومستقر، فعليه أن يلتزم بمبادئ المساواة والعدالة، وأن يفتح المجال لحوار مجتمعي شامل يحترم تنوع المجتمع العراقي ويعزز من قيم التسامح والحرية.

تاريخ التضييق على الحريات بالعراق

منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في ظل الحكم الملكي، شهد العراق تطوراً في التشريعات التي كانت تهدف إلى تنظيم الحياة العامة والحفاظ على القيم المجتمعية، لكنها تحولت إلى أدوات لتقييد الحريات الفردية والسياسية. 

في العهد الملكي، تم سن قوانين تفرض رقابة صارمة على الصحافة وتحد من النشاط السياسي للأحزاب المعارضة، تحت ذريعة الحفاظ على استقرار النظام الملكي. هذه القوانين ساهمت في قمع الأصوات الناقدة، مما أضعف الديمقراطية الناشئة وأدى إلى تآكل الحريات العامة.

مع انقلاب 1958 وإعلان الجمهورية، أمل العراقيون في بدء عهد جديد من الحريات، إلا أن هذه الآمال تبخرت مع صعود حزب البعث إلى السلطة في 1968. 

خلال هذه الحقبة، تزايدت القوانين القمعية التي استهدفت جوانب الحياة المدنية كافة، من أبرزها قانون أمن الدولة لعام 1969، الذي أُعلن لحماية النظام من "الأخطار الداخلية والخارجية"، لكنه استخدم كغطاء لقمع المعارضة السياسية وإسكات الأصوات الحرة، هذه الفترة شهدت حملات تطهير سياسي، واعتقالات تعسفية، وتضييقاً على الأقليات الدينية والعرقية، بذريعة الحفاظ على الوحدة الوطنية.

بعد سقوط نظام صدام حسين في 2003، ارتفعت الآمال بتأسيس نظام قانوني جديد يحترم حقوق الإنسان ويعزز الحريات العامة، لكن الواقع السياسي المضطرب والانقسامات الطائفية أجهضت هذه التطلعات. 

بدلاً من التقدم نحو ديمقراطية حقيقية، ظهرت تشريعات جديدة تحمل طابعاً قمعياً تحت مسميات مختلفة، لكنها كانت استمراراً للنهج القديم في تقييد الحريات، القوانين المتعلقة بمكافحة الإرهاب، على سبيل المثال، استُخدمت كأداة لقمع المعارضين السياسيين وكبح حرية التعبير والتجمع.

القوانين المقيّدة للحريات في العراق لم تكن مجرد نصوص قانونية، بل أدوات استخدمت لفرض السيطرة السياسية والاجتماعية على مدى عقود، هذه التشريعات عمّقت ثقافة الخوف والصمت، وزادت من انعدام الثقة بين المواطنين والدولة. 

وفي السياق الراهن، يتكرر نفس النمط مع تمرير قوانين جديدة تستهدف فئات معينة من المجتمع تحت ذرائع حماية الأخلاق أو الأمن القومي. 

هذا الاستمرار في قمع الحريات يعكس عجز العراق عن الخروج من دائرة القمع القانوني والاجتماعي، مما يهدد مستقبله كدولة تحترم حقوق الإنسان وحريات مواطنيها.

تراجع الحريات

وعلق خبير حقوق الإنسان الأردني، نضال منصور بقوله، إن الأمر من منظور حقوقي واجتماعي، يُظهر القانون العراقي الجديد الذي يُجرّم البغاء والمثلية الجنسية بأنه انتهاك للالتزامات الدولية التي تحترم حقوق الإنسان، ولا سيما الحقوق المدنية والسياسية، فالعراق، كدولة موقعة على العديد من الاتفاقيات الدولية، مُلزمة بحماية حقوق الأفراد في الحرية والأمن الشخصي وعدم التمييز على أساس الهوية الجنسية، ومع ذلك، فإن هذا القانون يُقنن التمييز ويُجرم الهوية، مما يعكس تراجعاً في احترام هذه الالتزامات.

وتابع منصور، في تصريحاته لـ"جسور بوست"، يستهدف القانون مجتمع الميم بشكل خاص، ويُعزز مناخاً من الخوف والاضطهاد ضدهم، في مجتمع يعاني أصلاً من التهميش، ويؤدي هذا التشريع إلى تعميق هذه الحالة، ويضع الأفراد الأكثر ضعفاً في مواجهة مباشرة مع التمييز والعنف المتزايد، بدلاً من توفير الحماية، يُشرعن القانون الممارسات التمييزية، مما يجعل مجتمع الميم عرضة لانتهاكات إضافية دون ملاذ قانوني.

وأشار إلى أن القانون ينذر بتفاقم العنف والانقسام داخل المجتمع العراقي، بدلاً من تعزيز التماسك الاجتماعي، ويزيد هذا التشريع من الفجوة بين مختلف الفئات، مما يُعمّق الانقسامات القائمة، مع تصاعد العنف الموجه ضد الفئات المهمشة، تقل فرص الحوار المجتمعي، ويزداد احتمال تصاعد النزاعات الداخلية.

وتابع، يحمل هذا القانون مخاطر جسيمة على مناخ الاستثمار في العراق، فالشركات العالمية التي تلتزم بمعايير حقوق الإنسان قد تتردد في الاستثمار في بلد يتبنى قوانين تمييزية، هذا التردد سيؤدي إلى تراجع الاستثمارات الأجنبية، مما يُضعف الاقتصاد العراقي الهش، ويُعقّد جهود التنويع الاقتصادي بعيداً عن النفط.

وعلى الصعيد الدولي، أوضح خبير حقوق الإنسان أن هذا القانون يُشكل ضربة لصورة العراق، حيث قد يُنظر إليه كدولة تتراجع عن المبادئ العالمية لحقوق الإنسان، وقد يؤدي ذلك إلى عزلة دبلوماسية، وتقليص المساعدات الدولية، وتفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، بدلاً من تحقيق الاستقرار، يبدو أن هذا القانون سيُفاقم التحديات التي يواجهها العراق على مختلف المستويات.

مستقبل الحريات في العراق

وبدورها، قالت خبيرة حقوق الإنسان الكويتية، مها البرجس، إن التشريعات الأخيرة التي اعتمدها البرلمان العراقي، وخاصة ما يتعلق بتعديل "قانون مكافحة البغاء والشذوذ الجنسي"، تثير قلقًا عميقًا من منظور حقوقي، حيث يعكس القانون توجهًا واضحًا نحو مزيد من القمع وتقييد الحريات الأساسية للأفراد، يعتمد هذا القانون على نهج صارم يجرم ويعاقب بشدة أي شكل من أشكال السلوك الجنسي الذي لا يتماشى مع المعايير التقليدية، مما يهدد حرية التعبير والحياة الخاصة للأفراد.

وتابعت البرجس، في تصريحاتها لـ"جسور بوست"، أنه في ظل هذا السياق، يمكننا توقع عدة سيناريوهات محتملة لتطبيق هذا القانون وتأثيره على المجتمع العراقي، والسيناريو الأكثر تشاؤمًا هو أن هذا القانون سيفتح الباب أمام موجة جديدة من القمع والاستهداف ضد الأقليات الجنسية وغيرها من الفئات الضعيفة في المجتمع، مثل هذه القوانين، التي تستند إلى مفاهيم غامضة وواسعة، يمكن أن تُستخدم بشكل تعسفي لإسكات الأصوات المعارضة وقمع الحريات الفردية، مما يؤدي إلى تدهور إضافي في حالة حقوق الإنسان في العراق في هذا السيناريو، قد يشهد المجتمع العراقي زيادة في حالات الاعتقال التعسفي والعنف ضد الأفراد الذين يُعتبرون خارجين عن المعايير الاجتماعية الصارمة التي يحاول القانون فرضها.

وأوضحت خبيرة الإنسان، أنه على الجانب الآخر، هناك سيناريو أقل تطرفًا ولكنه لا يزال يثير القلق، وهو أن يتم تطبيق القانون بشكل متقطع وغير متسق، مع تركيز السلطة على قضايا معينة تعتبرها تهديدًا أكبر في هذا السيناريو، وقد لا يتم تنفيذ القانون بشكل شامل، لكن مجرد وجوده كأداة قانونية سيظل يخلق مناخًا من الخوف والقلق بين المواطنين هذا المناخ سيؤدي إلى المزيد من الرقابة الذاتية والحد من حرية التعبير، حيث سيتجنب الأفراد والمنظمات مناقشة قضايا حقوق الإنسان والحريات الجنسية خشية من الانتقام القانوني.

وذكرت، أنه رغم هذه السيناريوهات القمعية، يظل هناك أمل في سيناريو آخر أكثر تفاؤلًا، يتمثل في فتح حوار مجتمعي حول هذا القانون وتعديلاته المحتملة. العراق، رغم تاريخه المعقد، يظل مجتمعًا متنوعًا ثقافيًا ودينيًا، ويضم أصواتًا مؤثرة من داخل المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان التي تدافع عن الحقوق والحريات، هذه القوى قد تدفع نحو مراجعة القانون وإجراء تعديلات تضمن حماية الحقوق الأساسية لجميع الأفراد، بغض النظر عن هويتهم الجنسية أو ميولهم الشخصية، في هذا السيناريو، قد يشهد العراق حوارًا بناءً حول القضايا الأخلاقية والاجتماعية المثيرة للجدل، مع السعي لتحقيق توازن بين القيم التقليدية وحقوق الإنسان العالمية.

وأكدت البرجس، أن ذلك يتطلب وجود إرادة سياسية حقيقية، ووعيا مجتمعيا أوسع بحقوق الإنسان، وضغطًا دوليًا مستمرًا لضمان أن تكون القوانين العراقية متوافقة مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، إذا تمكن المجتمع العراقي من تبني هذا الحوار والتوصل إلى توافق حول ضرورة احترام الحقوق الفردية، وقد نرى تحولًا إيجابيًا في كيفية التعامل مع مثل هذه القضايا.

وأتمت، يعتمد المسار الذي سيسلكه العراق على مجموعة من العوامل المعقدة، بما في ذلك الضغوط السياسية الداخلية والخارجية، ومستوى الوعي العام، ودور المجتمع المدني، وإذا لم يتم معالجة المخاوف الحقوقية بشكل جدي، فإن خطر تزايد القمع والانتهاكات الحقوقية سيظل قائمًا، مما يعرض مستقبل الحريات في العراق للخطر.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية