فوز اليمين المتطرف "التاريخي" ضربة لألمانيا الموحدة
فوز اليمين المتطرف "التاريخي" ضربة لألمانيا الموحدة
إن الانتخابات التي أجريت الأحد الماضي في منطقتين ألمانيتين، أنتجت تعبيراً هائلاً عن عدم الثقة بالحكومة الائتلافية الألمانية الحاكمة في برلين، وأوصلت اليمين المتطرف إلى مشارف السلطة في بعض أقاليم ألمانيا للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية. لكن تلك الانتخابات لم تكُن مجرد اعتراض على سياسات الهجرة واللجوء -ولو كان بعضهم حاول أن يصورها على أنها كذلك- كما لم تتعلق بألمانيا وحدها.
ونُظر بصورة واسعة إلى الانتخابات المحلية البرلمانية في ولايتي ساكسونيا وتورينغن، وهما منطقتان تقعان في شرق ألمانيا، على أنها الأهم منذ إعادة التوحيد، ولكن ليس بطريقة جيدة.
عشية الانتخابات كانت استطلاعات الرأي تتنبأ بحدوث أمر واحد من احتمالين: إما وقوع السيناريو الأسوأ الذي يعني فوز حزب يميني متطرف بالسلطة على المستوى الإقليمي في البلاد، والأقل سوءاً، وهو أن ينجح "حزب البديل من أجل ألمانيا" Alternative fur Deutschland AfD، بأن يحل في المرتبة الأولى في تلك الانتخابات، ولكن بفارق ضئيل، يسمح للأحزاب الأخرى بتشكيل ائتلاف يبقيه خارج الحكم.
في النهاية، أفضت الانتخابات إلى السيناريو الثاني، إذ تمكن حزب "البديل من أجل ألمانيا" من الحلول في المرتبة الأولى في ولاية تورينغن، واحتفل بنصر كبير جداً ومتقدماً بـ10 نقاط على حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني الوسطي. ومُني الائتلاف الحاكم بقيادة اليسار بهزيمة قوية، لكن ائتلافاً يقوده حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي قادر وسينجح على الأرجح في تشكيل الحكومة المحلية المقبلة لأن الأحزاب الألمانية الرئيسة كافة قطعت عهداً بألا تتقاسم السلطة مع حزب "البديل من أجل ألمانيا".
أما في ولاية ساكسونيا، فنجح حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الحاكم، في الفوز على حزب "البديل من أجل ألمانيا" الذي حل في المرتبة الثانية بفارق نقطة واحدة، وهو يواجه اليوم عملية مفاوضات صعبة من أجل تشكيل ائتلاف حكومي جديد.
أما الخاسر الأكبر في تلك الانتخابات، فكان حزب الخضر وحزب السوق الحرة FDP، إذ إنهما من دون شك عوقبا على مشاركتهما في الائتلاف الوطني الحالي الحاكم، إضافة إلى الحزب اليساري المتطرف "داي لينكي" Die Linke. وعلى الجانب الآخر تمكن الحزب الديمقراطي الاشتراكي، من جمع ما يكفي من أصوات لئلا يتدنى دون حاجز التمثيل في البرلمان الإقليمي وهي نسبة الـخمسة في المئة، مما أنقذ المستشار الألماني من العار الكامل. لكن كان يمكن لتلك النتائج أن تؤشر [أيضاً] إلى شكل التغيير في ميزان القوى الذي ستفرزه الانتخابات الألمانية العام المقبل، مع احتمال عودة يمين الوسط للسلطة.
قد يكون جرى تفادي الأسوأ -في الأقل من وجهة نظر الأوساط الألمانية والأوروبية التقليدية في النخب الحاكمة- بهامش ضيق جداً، فإن الصورة الإجمالية، كانت تثير على الاطمئنان بصورة أقل وأكثر ربما، مما تشي به الأرقام بحد ذاتها، مطمئنة على نحو أكبر لأن هناك خطراً أقل على استقرار الديمقراطية الألمانية، على المستويين الإقليمي والوطني، مما كان يتخوف من وقوعه. لكن النتائج تلك مطمئنة بصورة أقل بسبب المخاوف التي عبّر عنها الناخبون.
أحد الأسباب التي يمكنها أن تفسر لماذا كانت نسبة التصويت لمصلحة حزب "البديل من أجل ألمانيا" أقل مما توقعه بعضهم -حتى في ولاية تورينغن حيث كان الحزب تصدر استطلاعات الرأي بصورة واضحة وتمكن من الحصول على 33 في المئة فقط من الأصوات- يعود لنجاح الحزب الذي أسسته زهرا فاغنكنخت قبل سبعة أشهر، في الحصول على أكثر من تسعة في المئة. وهي يسارية متطرفة للغاية في الشؤون الاقتصادية، وتريد أيضاً فرض قيود أكثر صرامة على الهجرة وتعارض الحرب في أوكرانيا، كما يفعل حزب "البديل من أجل ألمانيا".
ولعل هذا المزيج أدى إلى ابتعاد الناخبين من أحزاب عدة، بما في ذلك من اليسار المتطرف، ولكن خصوصاً من حزب "البديل من أجل ألمانيا". وستتوجه ولاية براندنبورغ، وهي ولاية أخرى في شرق ألمانيا، إلى صناديق الاقتراع في غضون ثلاثة أسابيع، ومن الممكن أن تكشف النتائج عن نمط مماثل.
ولكن ليس من الواضح إلى أي مدى قد يؤثر حزب فاغنكنخت في الانتخابات الوطنية العام المقبل. وهي ولدت في (ما كان يعرف حينها) ألمانيا الشرقية ويمتلك حزبها شعبية أكبر بحسب استطلاعات الرأي في ولايات ألمانيا الشرقية السابقة مقارنة بتلك التي في ألمانيا الغربية السابقة، مما يطرح أسئلة عن مدى القبول الذي يلقاه ذلك الحزب على المستوى الوطني. ولكن نجاحها المتوقع وقوة حزب "البديل من أجل ألمانيا" في المناطق الشرقية أثارا كثيراً من الجدل -غالباً ما حملت في طياتها قليلاً من التكبر- بما إذا كان كل من "أوسيس" و"ويسيس"Ossis and Wessis، [طريقة من طرق الإشارة إلى أبناء شرق ألمانيا وغربها] سيتوافقان في الرؤى، أو ما إذا كان قسما ألمانيا يتباعدان من بعضهما بعضاً أكثر فأكثر.
مثل تلك النقاشات التي تفترض مسبقاً بأن هناك بعض الاستياء في المناطق الشرقية السابقة، هي بالكاد تخفي شعوراً بأن الناخبين من ألمانيا الشرقية سابقاً، هم أدنى منزلة إلى حد ما، من خلال عدم تأقلمهم بصورة كاملة مع واقعهم "الجديد"، تميل إلى إغفال بعض العوامل الكبرى التي لا علاقة لها بالتجربة "الألمانية الشرقية"، ولكنها تتعلق إلى حد كبير بالتركيبة السكانية في الولايات الشرقية، والجغرافيا البسيطة.
إن العدوانية تجاه مسألة الهجرة هي ربما أقوى في تلك المناطق مقارنة ببقية المناطق الألمانية الغربية لأسباب عدة مختلفة، ومن ضمنها ما جرى أو لم يجرِ تلقينه في مدارس شرق ألمانيا. ولكن ربما يكون السبب أيضاً، كما يزعم بعضهم، أن أعداد المهاجرين الذين لا يمتلكون مهارات مهنية والذين استقروا في الشرق كانت أكبر من أعدادهم في الغرب بسبب السكن الرخيص والنقص في العمالة والبشر.
وعلى رغم أن قضية الهجرة ربما كانت تشكل أهمية كبيرة في الحملة الانتخابية، فإن الناخبين كانت لديهم مخاوف أخرى أيضاً. وكان أحدها الحرب في أوكرانيا التي يريد كل من فاغنكنخت وحزب "البديل من أجل ألمانيا" إنهاءها والتي بسببها كانا نجحا في الحصول على ترحيب كبير من الجماهير خلال تجمعاتهما الانتخابية. وتظهر استطلاعات الرأي أن المعارضة للحرب وللمساعدة الألمانية، بخاصة المساعدة العسكرية، تلقى معارضة أكبر بكثير في ألمانيا الشرقية السابقة مقارنة بألمانيا الغربية السابقة.
ولكن هذا قد لا تكون له علاقة بأي تجربة خاصة بألمانيا الشرقية، ولا علاقة له بأي مشاعر ودية تجاه روسيا -كما اتهم بعضهم- بقدر ما هو مرتبط بالاقتصاد (وخشيتهم من تحويل الأموال بعيداً من إعادة البناء الضرورية في مناطقهم) والجغرافيا، ذلك أن الولايات الألمانية الشرقية أقرب كثيراً إلى الحرب في أوكرانيا وإلى روسيا من بقية ألمانيا. ففي درسدن على سبيل المثال، يمكنك أن تستشعر هذا القرب من أسماء الشوارع: براغ وبودابست وفيينا وما شابه ذلك.
إن وصف الولايات الشرقية في ألمانيا بأنها معادية للأجانب أو غير وطنية لأنها تصوت بأعداد أكبر لمصلحة حزب "البديل من أجل ألمانيا" قد يكون رفضاً لبعض المخاوف والاستياءات وهي ليست غير منطقية، باعتبارها جهلاً متعصباً. ويذكر أيضاً أن أعلى الهتافات في التظاهرات التي ذهبت إليها لم تكُن من أجل فرض قيود على الهجرة أو إنهاء حرب أوكرانيا، وإن كان الأمران قد لقيا شعبية، بل بسبب فشل الحكومات المتعاقبة في برلين في الاعتراف بالتضحيات التي قدمها الألمان الشرقيون والجهود التي بذلوها لإعادة بناء دولهم.
بناءً على ما سبق، ربما يكون هناك تصويت متمايز في ألمانيا الشرقية، حتى الآن، بعد أكثر من 30 عاماً على زوال ألمانيا الشرقية. ولكن هذا التصويت لا يتميز بكراهية الأجانب فحسب، مما يسلط الضوء على أمر آخر برز خلال هذه الحملة الانتخابية: مدى تقاسم مخاوف الناخبين لما هو أبعد من الحدود الوطنية أو الإقليمية. فقد أظهر العدد الكبير من اللافتات التي تزين شوارع المدن مخاوف مماثلة لتلك التي عبّر عنها الناخبون في تلك البلدان الأوروبية التي أجرت انتخابات أخيراً، مثل فرنسا والمملكة المتحدة، ومن قبل كثير من الأميركيين الذين من المتوقع أن يشاركوا في الحملات الانتخابية الرئاسية.
ومن بين تلك القضايا، مسألة الحصول على سكن بأسعار معقولة ومسألة غلاء المعيشة ومستويات الأجور وضرورة تماشيها مع زيادة الأسعار، إضافة إلى الرغبة في توفير الأمن والنظام والأمن الشخصي والأمن الوطني. إن مسألة معارضة الهجرة ومسألة فشل الوافدين الجدد في التأقلم، هما جزء بسيط فقط من كل تلك الأمور، ولكنها برزت في هذه الحملة بسبب عمليات القتل في مدينة زولينغن الغربية على يد طالب لجوء سوري قبل 10 أيام فقط من الانتخابات.
وكيفية التعامل مع تلك الجريمة الفظيعة تحولت إلى جزء أساسي من خطابات المرشحين كافة خلال حملاتهم، في عموم ألمانيا وبين أطيافها السياسية الواسعة. تحدثت حكومة شولتز عن تشديد نظام اللجوء، ورتبت أول رحلة إعادة إلى أفغانستان منذ عودة حركة "طالبان" للسلطة، وطرحت خطة لحرمان طالبي اللجوء الوافدين من دولة أخرى في الاتحاد الأوروبي من المزايا. هذه الخطوات التي بدرت من حكومة تمثل تيار يسار الوسط، كانت ابتعاداً كبيراً من استجابة المستشارة السابقة أنغيلا ميركل لأزمة اللاجئين عام 2015 [من خلال قولها الشهير]: "نحن قادرون على ذلك" Wir schaffen das.
عندما أدلى ناخبو تورينغن وساكسونيا الأحد الماضي بأصواتهم، فإنها عكست بالتأكيد مخاوف إقليمية محددة، والتي تفاقمت، بالنسبة إلى بعضهم، بسبب تجربتهم في ألمانيا الشرقية. ولكن كثيراً من مخاوفهم مشتركة على نطاق واسع أيضاً، وليس فقط من قبل زملائهم الألمان، وعليه وصفهم بالضالين -كما فعل عدد كبير من المنتقدين- هو مسار محفوف بالأخطار.
في حديثه خلال زيارته ألمانيا الأسبوع الماضي، قال رئيس الحكومة البريطانية كير ستارمر إن المملكة المتحدة يجب أن تكون "واعية حيال التحديات التي قد تواجهها مع ظهور حزب مماثل" لحزب "البديل من أجل ألمانيا" في المملكة المتحدة، وأعرب عن أسفه لأن ما أسماه الأحزاب التقدمية لم تجد وسيلة لدرء صعود اليمين المتطرف. قد يكون هذا صحيحاً، لكن النظام النسبي في ألمانيا والتعددية الحزبية السياسية الواسعة النطاق يمنحان الناس فرصة أفضل للتعبير عن مخاوفهم لأصحاب السلطة مقارنة بالمملكة المتحدة على سبيل المثال، حيث - كما رأينا بوضوح - قد تكون الاستياءات مخفية إلى حد كبير قبل أن تتحول إلى فوضى في الشوارع.
نقلاً عن إندبندنت عربية