«بيجر الموت».. جريمة حرب في العصر الرقمي وتحدٍ للقانون الدولي
«بيجر الموت».. جريمة حرب في العصر الرقمي وتحدٍ للقانون الدولي
تعرض لبنان لسلسلة من التفجيرات الدموية التي استهدفت مناطق حيوية ذات ثقل لحزب الله، مثل الضاحية الجنوبية لبيروت وسهل البقاع.
هذه التفجيرات، التي نُفذت باستخدام أجهزة اتصال "بيجر" ملغمة بمتفجرات دقيقة، خلفت وراءها مشاهد مؤلمة، حيث سقط 14 قتيلاً وأكثر من 3,000 جريح بينهم أطفال ومدنيون.
لفهم الطبيعة القانونية لهذه الهجمات، يجب أولاً النظر إلى الأدوات المستخدمة، تشير التقارير إلى أن الأجهزة المستخدمة في التفجيرات كانت من طراز AP924، وهي أجهزة اتصال تنتجها شركة "جولد أبوللو" التايوانية.
هذه الأجهزة، التي استوردها حزب الله لاستخدامها في اتصالات آمنة بعيداً عن الرقابة الإسرائيلية، يبدو أنها تعرضت للاختراق من قبل الموساد الإسرائيلي الذي يُعتقد أنه زرع متفجرات دقيقة داخل هذه الأجهزة.
هذا النوع من العمليات ليس جديداً في أساليب الموساد، الذي سبق أن استخدم تكتيكات مشابهة في استهداف خصومه عبر أجهزة اتصالات أو معدات شخصية.
ومع ذلك، فإن هذه التفجيرات، بما تحمله من نتائج وخسائر في صفوف المدنيين، تفتح الباب واسعاً للنقاش حول مدى قانونيتها وفقاً للقانون الدولي.
القانون الدولي الإنساني، والذي يعتمد بشكل رئيسي على اتفاقيات جنيف لعام 1949 والبروتوكولات الإضافية الملحقة بها، ينظم قواعد النزاعات المسلحة، ويميز بين الأهداف العسكرية والمدنية، هذه الاتفاقيات تهدف في جوهرها إلى حماية المدنيين من ويلات الحرب، وتحظر استهدافهم بشكل مباشر أو استخدام أسلحة لا تميز بين الأهداف العسكرية والمدنية، تنص المادة 51 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف بوضوح على حظر الهجمات العشوائية التي لا تميز بين المدنيين والمقاتلين، كما تمنع الهجمات التي تؤدي إلى خسائر غير متناسبة بين المدنيين مقارنة بالمكاسب العسكرية المتوقعة.
في حالة تفجيرات "البيجر" في لبنان، لا يبدو أن الأهداف العسكرية كانت واضحة أو محددة بدقة، حيث إن معظم الضحايا كانوا من المدنيين، بمن فيهم أطفال وعاملون في القطاع الصحي.
استهداف هؤلاء المدنيين، في ظل غياب أدلة قاطعة على وجود أهداف عسكرية مباشرة، يُعد انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي الإنساني.. حتى في حالة وجود أهداف عسكرية محتملة، فإن القانون الدولي يفرض قيوداً صارمة على الهجمات التي قد تؤدي إلى خسائر مدنية غير متناسبة، يُعرف هذا المبدأ بمبدأ "التناسب"، الذي يتطلب أن تكون أي هجمة عسكرية متوازنة بين المكاسب العسكرية المرجوة والخسائر المدنية المتوقعة، إذا تبين أن التفجيرات كانت غير متناسبة أو عشوائية، فإن ذلك قد يُصنف كجريمة حرب.
الأمم المتحدة أصدرت العديد من القرارات التي تدين الإرهاب وتُلزم الدول الأعضاء باتخاذ كل التدابير لمكافحة الجرائم الإرهابية، على وجه الخصوص، القرار 1373 الذي تبناه مجلس الأمن الدولي يلزم الدول بتقديم المسؤولين عن الأعمال الإرهابية إلى العدالة ومنع تمويل ودعم المنظمات الإرهابية.. وإذا كان الهدف من هذه التفجيرات هو تحقيق أهداف سياسية أو زرع الرعب في صفوف المدنيين، فقد تُصنف هذه الهجمات على أنها إرهابية بموجب القانون الدولي، وهو ما يستدعي إجراءات قانونية دولية صارمة.
تحديد المسؤولية الجنائية عن هذه الهجمات يمثل تحدياً كبيراً، إذا ثبت أن الموساد الإسرائيلي هو من نفذ هذه التفجيرات، فإن ذلك يُعد انتهاكاً لسيادة لبنان، وهو خرق صارخ لمبادئ القانون الدولي التي تؤكد سيادة الدول وحظر التدخلات الخارجية غير المشروعة في شؤونها.
ميثاق الأمم المتحدة يُحرم شن هجمات عسكرية ضد دولة أخرى دون مبرر قانوني، سواء من خلال قرار من مجلس الأمن أو بناء على اتفاقيات دولية أخرى. في هذه الحالة، إذا تم تأكيد تورط إسرائيل في الهجمات، فإن ذلك قد يُصنف كعمل عدواني يستوجب إدانة دولية.
يظل السؤال حول كيفية محاسبة المسؤولين عن هذه الهجمات وتقديمهم للعدالة، فالمحكمة الجنائية الدولية (ICC) تُعتبر واحدة من أبرز الأدوات الدولية المتاحة لمحاكمة الأفراد المتهمين بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية.
المحكمة، التي أنشئت بموجب نظام روما الأساسي، تتمتع بصلاحية محاكمة الأفراد المتورطين في انتهاكات جسيمة للقانون الدولي، بشرط أن تكون الدولة المتضررة عضوًا في نظام روما الأساسي أو أن يتم إحالة القضية إليها من قبل مجلس الأمن الدولي.
في حالة لبنان، الذي لم يوقع على نظام روما الأساسي، قد يكون الطريق الأكثر واقعية هو تدخل مجلس الأمن لإحالة القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية، هذا السيناريو قد يحدث في حال توفر أدلة قوية على تورط جهة دولة أو منظمة غير حكومية في الهجمات، إذا ثبت أن التفجيرات كانت جزءاً من استراتيجية موسعة لشن هجمات ضد المدنيين في إطار صراع أوسع، فإن ذلك قد يُعزز احتمالية تصنيفها كجرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب.
علاوة على ذلك، قد تفتح هذه التفجيرات الباب أمام تفعيل آليات دولية أخرى للتحقيق في هذه الجرائم، فيمكن لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة للنظر في الظروف المحيطة بالتفجيرات وتحديد المسؤوليات، مثل هذه اللجان لديها خبرة واسعة في التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني في مناطق النزاع، وتقديم توصيات قانونية وسياسية للمجتمع الدولي حول كيفية التعامل مع الجناة.
وفي سياق مكافحة الإرهاب، تُعتبر هذه التفجيرات أيضاً فرصة لدراسة أوجه القصور في التدابير الدولية لمكافحة الإرهاب ومنع استخدام التقنيات المعقدة مثل أجهزة الاتصال الملغمة فالقرارات الدولية، مثل قرار مجلس الأمن 1373، تشدد على أهمية التعاون الدولي لمكافحة الإرهاب وتبادل المعلومات الاستخباراتية لمنع مثل هذه الهجمات قبل حدوثها.
إذا ثبت أن الموساد استخدم تكنولوجيا متطورة لاستهداف حزب الله في هذا السياق، فإن ذلك يطرح تساؤلات حول مسؤولية المجتمع الدولي في تنظيم تجارة المعدات الإلكترونية والاتصالات وفرض ضوابط أكثر صرامة عليها.
ويرى حقوقيون، أن التفجيرات التي وقعت في لبنان في سبتمبر 2024 تمثل حالة معقدة قانونياً وأخلاقياً، وإذا ما ثبت تورط إسرائيل في تنفيذ الهجمات، فإن ذلك يشكل انتهاكاً للقانون الدولي وسابقة خطيرة في استخدام التكنولوجيا المتقدمة لتنفيذ عمليات عسكرية خارج الحدود.
تاريخ الصراع
تاريخ الصراع بين حزب الله وإسرائيل يمتد لأكثر من ثلاثة عقود، مع تحولاته الدرامية التي شكلت مشهد الشرق الأوسط.
بدأ الصراع بشكل جدي بعد اجتياح إسرائيل لبنان عام 1982، حيث سعت القوات الإسرائيلية إلى القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان خلال هذا الاجتياح، تأسس حزب الله، الذي تحول من مجموعة محلية إلى منظمة مسلحة تتبنى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، بدعم من إيران وسوريا.
على مدى السنوات التالية، نفذ حزب الله عمليات عسكرية ضد القوات الإسرائيلية، وبدأت أولى العمليات الناجحة التي أدت إلى انسحاب إسرائيل من لبنان في عام 2000.
هذا الانسحاب شكل نقطة تحول، حيث تم اعتبارها انتصارًا لحزب الله، مما زاد من شعبيته في العالم العربي.
ومع ذلك، تصاعد التوتر مرة أخرى في عام 2006 عندما اندلعت حرب تموز بين حزب الله وإسرائيل، بدأت الحرب بخطف حزب الله جنديين إسرائيليين، ما أدى إلى هجمات جوية مكثفة من قبل إسرائيل على لبنان، أسفرت عن مقتل نحو 1,200 لبناني و160 إسرائيليًا، بالإضافة إلى نزوح نحو 1.2 مليون شخص في لبنان. استمرت الحرب 34 يومًا، وانتهت بوقف إطلاق النار بوساطة الأمم المتحدة.
بعد الحرب، استمر حزب الله في تعزيز قدراته العسكرية، بما في ذلك تطوير صواريخ دقيقة يمكنها استهداف الأراضي الإسرائيلية، وفي السنوات التي تلت ذلك شهدت الحدود اللبنانية الإسرائيلية توترات متكررة، مع تبادل لإطلاق النار وعمليات عبر الحدود.
تجددت المواجهات في عام 2015 مع تصاعد الصراع في سوريا، حيث تدخل حزب الله لدعم نظام بشار الأسد.. هذا التدخل أعاد تعريف دور حزب الله في الصراع، حيث تحول من جماعة مقاومة محلية إلى لاعب إقليمي له تأثير كبير في الصراع السوري.
في السنوات الأخيرة، تصاعدت المخاوف من تصعيد جديد بين الطرفين، خاصة مع التصريحات الحادة من كلا الجانبين. فالهجمات الإسرائيلية على مواقع حزب الله في سوريا، والرد عليها تشير إلى استمرار هذا الصراع الذي لم يحقق حلًا دائمًا.
تأثيرات بالغة على المدنيين
وقال البرلماني البحريني السابق وخبير حقوق الإنسان، علي زايد: تشكل الهجمات التي تستهدف المدنيين انتهاكًا صارخًا لمبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي، حيث تترك آثارًا مدمرة على الأفراد والمجتمعات، وتبرز الهجمات الأخيرة التي شهدها لبنان باستخدام أجهزة اتصال ملغمة التحديات الكبيرة التي تواجه حقوق الإنسان في أوقات النزاع، وتتجلى هذه الانتهاكات في فقدان الأرواح وإصابة المدنيين، مما يعكس تجاهلاً فاضحًا للمعايير الإنسانية الأساسية التي تسعى لحماية الأفراد.
وتابع في تصريحاته لـ"جسور بوست": القانون الدولي الإنساني، الذي يهدف إلى تنظيم النزاعات المسلحة وحماية المدنيين، يحظر بشكل قاطع استهداف المدنيين أو استخدام أسلحة تؤدي إلى خسائر غير متناسبة بينهم، ويُعتبر استهداف المدنيين أو الهجمات العشوائية التي تؤدي إلى أضرار جسيمة بالمدنيين انتهاكًا للقانون الدولي، وتعبر الهجمات التي تُنفذ دون تمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية عن عدم احترام لكرامة الإنسان وتعرض حياة العديد للخطر، وهو ما يتعارض مع المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان.
وذكر: الوصول إلى الرعاية الصحية حق أساسي، وتتعرض هذه الحقوق لانتهاك خطير خلال النزاعات، في الحوادث الأخيرة تم استهداف مناطق ذات كثافة سكانية عالية، مما أدى إلى إصابة عدد كبير من المدنيين، بمن في ذلك الأطفال والعاملين في المجال الصحي، هذه الإصابات تتطلب رعاية طبية عاجلة، وفي ظل انهيار البنية التحتية الصحية بسبب النزاع تصبح الرعاية الصحية حقًا محجوزًا لمجموعة صغيرة، ما يؤدي إلى تفاقم معاناة الضحايا.
واسترسل: إن الانتهاكات المتكررة لحقوق الإنسان تؤدي إلى عدم استقرار المجتمعات وتعميق النزاعات، وفقدان الثقة بين الأطراف المعنية، بالإضافة إلى أن الشعور بالضعف وانعدام الأمان يُعزز من حلقة العنف ويجعل من الصعب تحقيق السلام، مؤكدا أن عدم تقديم المسؤولين عن هذه الانتهاكات إلى العدالة يُشكل أيضًا ضربة لمبادئ حقوق الإنسان، حيث يفقد الضحايا الأمل في تحقيق العدالة وينتج عن ذلك تأثيرات نفسية عميقة تستمر لفترة طويلة.
وأوضح أن القوانين الدولية تعتبر أداة أساسية لمحاسبة الجناة وضمان عدم تكرار الانتهاكات. ومن خلال مؤسسات مثل المحكمة الجنائية الدولية، يمكن محاسبة الأفراد المتهمين بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، مؤكدا أن تعزيز المساءلة أمر ضروري لضمان حماية حقوق الإنسان ومنع استخدام العنف كأسلوب للتفاوض أو الصراع.
وأتم: يتضح أن الهجمات التي تستهدف المدنيين تمثل انتهاكًا خطيرًا لحقوق الإنسان، وتتطلب استجابة فورية من المجتمع الدولي.. وينبغي على الدول والمنظمات الدولية العمل على تعزيز حماية المدنيين، وتقديم المساعدات الإنسانية، والمساعدة في إعادة بناء البنية التحتية المتضررة، مشدداً عاى أن تحقيق العدالة للضحايا يعتبر أمرًا حيويًا لاستعادة الثقة وتعزيز السلام، ويجب أن يكون محوريًا في أي جهود لتسوية النزاعات.
التكنولوجيا كسلاح: التفجيرات الذكية وتحولات الحرب الحديثة
وبدوره، قال الخبير الأمني اللواء فؤاد علام: في السنوات الأخيرة شهد العالم تحولات كبيرة في أساليب الحروب، حيث أصبحت التكنولوجيا تلعب دورًا مركزيًا في النزاعات المسلحة، وقد تطورت الأسلحة لتشمل الأجهزة الذكية التي تستخدم لأغراض غير تقليدية، وتأتي التفجيرات التي شهدها لبنان في سبتمبر 2024 كجزء من هذا التحول، حيث تم استخدام أجهزة اتصال ذكية من نوع "بيجر" محملة بمتفجرات دقيقة، ما يعكس قدرة الأطراف المتنازعة على الاستفادة من التطورات التكنولوجية لتعزيز استراتيجياتهم الهجومية.
وتابع في تصريحاته لـ"جسور بوست": التفجيرات المنفذة باستخدام أجهزة "بيجر" ليست مجرد استهداف تقليدي، بل هي نوع جديد من الحروب الاستخباراتية التي تعتمد على التلاعب التكنولوجي في أدوات الاتصال هذه الأجهزة كانت تستخدم في الأصل من قبل حزب الله كوسيلة آمنة للتواصل بعيدًا عن الرقابة الإسرائيلية، إلا أن الموساد الإسرائيلي يُشتبه بأنه استطاع اختراق سلسلة التوريد وزرع متفجرات دقيقة داخل هذه الأجهزة، وهذه التكتيكات ليست جديدة على المشهد الاستخباراتي، حيث سبق أن تم استخدام أدوات مماثلة من قبل وكالات استخباراتية لاستهداف الخصوم بشكل دقيق ومباغت.
وأوضح، أن استخدام الأجهزة الذكية كسلاح يعد أحد أشكال الحروب غير المتكافئة، حيث يتداخل الجانب التقني مع الجانب العسكري. هذه الأجهزة تمتاز بصغر حجمها وصعوبة اكتشافها، ما يجعل من الممكن إدخالها إلى المناطق المستهدفة دون إثارة الشكوك، بالإضافة إلى ذلك، قدرتها على توصيل المتفجرات بدقة إلى أهداف محددة تعزز من فاعليتها كسلاح هجومي يحقق أهدافه بسرعة وكفاءة، وهذا النوع من الهجمات يختلف عن الأساليب التقليدية في الحروب التي تعتمد على القصف أو الهجمات العسكرية الكبيرة، حيث يتم استخدام التكنولوجيا لتحقيق ضربات دقيقة تستهدف بنى تحتية أو شخصيات بارزة دون الحاجة إلى تدخل عسكري مباشر.
وأتم: يعكس استخدام الأجهزة الذكية كسلاح في الحروب الحديثة تحولًا جذريًا في أساليب القتال، وهذه الهجمات تستفيد من الثغرات في سلاسل التوريد التكنولوجية، وتبرز أهمية تأمين التقنيات المستخدمة في الاتصالات لمنع استغلالها، وبقدر ما تعزز التكنولوجيا من القوة الهجومية للأطراف المتصارعة، فإنها في الوقت ذاته تفرض تحديات أخلاقية وقانونية جديدة حول كيفية استخدامها، خاصة في ظل استهداف المدنيين والبنية التحتية.