تحديات التعليم في العصر الرقمي.. كيف تؤثر وسائل التواصل الاجتماعي على تحصيل الأطفال الدراسي؟
تحديات التعليم في العصر الرقمي.. كيف تؤثر وسائل التواصل الاجتماعي على تحصيل الأطفال الدراسي؟
في العصر الرقمي الذي نعيشه اليوم، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي جزءًا أساسيًا من حياة الأطفال والمراهقين، وبينما يمكن النظر إليها كأداة تواصلية تربط العالم وتوفر منصات للتعلم والمشاركة، فإنها تحمل تأثيرات عميقة ومعقدة على حياة الأطفال، لا سيما في ما يتعلق بحقهم في التعليم.
ويواجه هذا الحق الذي تضمنه المواثيق الدولية والتشريعات الوطنية، تحديات غير مسبوقة في ظل الانتشار الواسع للتكنولوجيا والمنصات الاجتماعية، ويبرز في هذه القضية سؤال رئيسي: كيف يؤثر الانخراط العميق للأطفال في وسائل التواصل الاجتماعي على تحصيلهم الدراسي؟ وكيف ينعكس هذا الانخراط على بيئات التعليم التقليدية والقدرة على التعلم؟
تشير الدراسات الحديثة إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي لم تعد فقط وسيلة للتسلية، بل أصبحت جزءًا من الهياكل النفسية والاجتماعية التي تؤثر على أوقات الأطفال، وإدراكهم للعالم، وتفاعلاتهم مع المعرفة، هذا التحول يثير تساؤلات حول قدرة أنظمة التعليم على مواجهة هذا التحدي الكبير.
وفقًا لتقرير "Common Sense Media" لعام 2023، يقضي الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 8 و12 عامًا ما يقرب من 5 ساعات يوميًا في التفاعل مع الشاشات الرقمية، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي، بينما يقضي المراهقون الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و18 عامًا حوالي 7 ساعات يوميًا، هذه الأرقام تكشف عن حقيقة مفزعة وهي أن الأطفال اليوم ينغمسون في العالم الرقمي بشكل يفوق بكثير الوقت المخصص للتعلم أو الأنشطة الأكاديمية، هذا الانغماس له تأثيرات عميقة على تطورهم الأكاديمي وحقهم في التعليم، وهو أمر يحتاج إلى تفكير دقيق.
تآكل الحدود الزمنية
ويمكن أن يؤدي الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي إلى تآكل الحدود الزمنية بين وقت التعلم ووقت الترفيه، الأطفال الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مكثف يجدون صعوبة في التفرقة بين وقت الدراسة ووقت الاستراحة، حيث يتحول وقت التعليم إلى فترات متقطعة تتخللها إشعارات ورسائل تشتت الانتباه.
بحث أجراه معهد "إريكسون" للتعليم عام 2022، أشار إلى أن الأطفال الذين يستخدمون هواتفهم الذكية أثناء الدراسة يواجهون صعوبة في إكمال المهام الأكاديمية بفاعلية، مع تراجع في معدل إتمام الواجبات بنسبة 25% مقارنة بأقرانهم الذين يركزون بشكل كامل على دراستهم.
وقد يُعزى هذا التشتت إلى طبيعة تصميم منصات التواصل الاجتماعي التي تعتمد على تقديم محتوى سريع ومتجدد لجذب المستخدمين، وهي تصاميم تؤدي إلى تشتيت التركيز وتقليل القدرة على الانخراط العميق في المحتوى التعليمي للأطفال في سن الدراسة، الذين يحتاجون إلى بيئات تعلم مستقرة وداعمة تساعدهم على الاستمرار في التركيز، وهو ما يتناقض مع بيئات وسائل التواصل الاجتماعي التي تعتمد على التفاعلات السريعة.
إحدى الزوايا غير المُسلط عليها الضوء بشكل كافٍ في النقاش حول تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على التعليم، هي مسألة "إعادة تشكيل العلاقة مع المعلومات"، في السابق، كان الوصول إلى المعرفة يتطلب جهدًا ووقتًا عبر الكتب والمصادر الأكاديمية، اليوم، يتم تقديم المعرفة على وسائل التواصل الاجتماعي بطريقة سهلة وسطحية، غالبًا دون سياق أو تحليل معمق. هذه السرعة في الوصول إلى المعلومات تؤثر على قدرة الأطفال على تطوير التفكير النقدي وتحليل المعلومات بشكل أعمق.
وأشارت دراسة أجرتها جامعة "كورنيل" عام 2023 إلى أن 35% من الأطفال يعتمدون بشكل رئيسي على وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر للمعلومات بدلاً من الكتب أو المصادر الموثوقة، ما يؤدي إلى تدهور قدراتهم على التحقق من صحة المعلومات وفهمها في سياقات أوسع.
تأثير وسائل التواصل الاجتماعي
ولا يقتصر تأثير وسائل التواصل الاجتماعي فقط على الفرد، بل يمتد ليشمل البيئة التعليمية ككل، على سبيل المثال، تُظهر الأبحاث أن الطلاب الذين يقضون فترات طويلة على وسائل التواصل الاجتماعي يعانون من ضعف في التفاعل الاجتماعي الواقعي مع زملائهم ومعلميهم. في دراسة أجرتها جامعة "ستانفورد" عام 2022، وُجد أن 45% من المعلمين لاحظوا تراجعًا في مستويات التفاعل داخل الفصل الدراسي نتيجة الاعتماد المفرط على التفاعلات الافتراضية، هذا التراجع في التفاعل الواقعي يُضعف من بناء علاقات تعليمية متينة بين الطلاب والمعلمين، والتي تُعد ضرورية لتعزيز الفهم العميق والنجاح الأكاديمي.
ويؤثر الاستخدام المكثف لوسائل التواصل الاجتماعي على صحة الأطفال النفسية والعقلية، فبينما تقدم هذه الوسائل منصات للتعبير عن الذات، فإنها تعرض الأطفال لضغوط غير مباشرة تتعلق بالصورة المثالية والتوقعات المجتمعية، ما يؤدي إلى زيادة مستويات القلق والاكتئاب، هذا الجانب النفسي يؤثر بشكل مباشر على الأداء الأكاديمي. وفقًا لتقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية عام 2023، فإن 30% من الأطفال الذين يعانون من اضطرابات القلق يعانون أيضًا من تراجع في الأداء المدرسي.
وفي الوقت الذي توفر فيه وسائل التواصل الاجتماعي فرصًا للتعلم والتفاعل مع مصادر تعليمية متنوعة، فإنها تقدم في الوقت ذاته محتوى غير مناسب للأطفال من حيث الجودة والملاءمة العمرية، المحتويات السطحية أو المضللة التي تروج عبر هذه المنصات قد تؤدي إلى تعزيز معلومات خاطئة لدى الأطفال.
وأشار تقرير "اليونسكو" لعام 2022 إلى أن 20% من الأطفال الذين يتعرضون لمحتويات تعليمية غير رسمية عبر وسائل التواصل الاجتماعي يحتفظون بمفاهيم خاطئة نتيجة لعدم وجود مصادر موثوقة أو تحليل علمي دقيق لتلك المعلومات، هذا النوع من التعليم السطحي يؤدي إلى تكوين فهم مشوه للحقائق العلمية والتاريخية.
من جهة أخرى، يُعتبر الانقطاع الرقمي أحد التحديات التي تواجه الأطفال في المجتمعات الفقيرة أو المناطق النائية، فبينما يتاح لكثير من الأطفال في المناطق الحضرية الوصول إلى الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، يواجه آخرون صعوبات في الوصول إلى هذه التكنولوجيا بسبب العوائق الاقتصادية أو البنية التحتية الضعيفة.
الفجوة الرقمية بين الأطفال
وفقًا لتقرير "اليونيسف" لعام 2023، فإن ثلث الأطفال في العالم لا يحصلون على الإنترنت بانتظام، وهو ما يعزز الفجوة الرقمية بين الأطفال ويؤثر على تكافؤ الفرص التعليمية، في حين أن بعض الأطفال يحصلون على موارد تعليمية وفيرة عبر الإنترنت، يُحرم آخرون من هذه الفرص، ما يزيد من التفاوتات التعليمية.
ويرى حقوقيون، أن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على حق الأطفال في التعليم، يُشكّل تحديًا معاصرًا يجب التعامل معه بجدية، فبينما توفر هذه الوسائل فرصًا تعليمية غير مسبوقة، فإنها تحمل في طياتها مخاطر حقيقية تؤثر على جودة التعليم وتكافؤ الفرص، المطلوب هو تطوير سياسات وأدوات تكنولوجية تُعزز من الاستخدام الإيجابي لوسائل التواصل الاجتماعي وتقلل من تأثيراتها السلبية، بما يضمن حق الأطفال في التعليم ويُسهم في بناء جيل قادر على التعامل مع تحديات العصر الرقمي بوعي وكفاءة.
تأثير وسائل التواصل على التعليم
عن تجربتها، قالت الموجهة بالمعاهد التعليمية الأزهرية في مصر، سوسن بدر: بصفتي مدرسة للأطفال، أعايش يوميًا تأثير التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي على طلابي، وأرى كيف أن اليوم اختلف عن أمس بين إيجابي وسلبي، قديما كان الكتاب هو مصدر المعلومة الوحيد، اليوم أرى السوشيال ميديا وبشكل واضح كيف أنها تؤثر على تعليمهم وتفكيرهم وكيف أصبحت لديهم أهم من الكتاب، وهذا يضع تحديات كبيرة أمامنا كمعلمين، من أهم هذه التحديات تأثير هذه الوسائل على قدرة الأطفال على التركيز والتعلم بشكل صحيح، الأطفال الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مفرط يظهرون عادة تشتتًا واضحًا في الانتباه داخل الفصل، من الصعب جدًا بالنسبة لهم أن يركزوا لفترات طويلة على درس معين، والسبب في ذلك يعود إلى طبيعة وسائل التواصل الاجتماعي التي تقدم محتويات سريعة وتستهلك انتباههم بسرعة.
وتابعت في تصريحات لـ"جسور بوست"، هذه البيئة الرقمية لا تدعم التركيز العميق المطلوب لاستيعاب المفاهيم الدراسية، بل تجعلهم يبحثون دائمًا عن التشتيت والتغيير السريع، ما يؤدي إلى انخفاض في الأداء الأكاديمي لديهم، أضف إلى ذلك، أنني ألاحظ أن العديد من الأطفال الذين يتعرضون بكثرة لهذه المنصات يظهرون مستويات عالية من القلق والتوتر النفسي، الكثير منهم يقارنون حياتهم بما يرونه على الإنترنت، خاصة عبر الصور المثالية أو الشخصيات المؤثرة، هذه المقارنات تجعل الأطفال يشعرون بأنهم أقل قيمة أو غير جيدين بما يكفي، وهذا يؤثر بشكل مباشر على أدائهم في المدرسة. الطفل الذي يشعر بالقلق أو يعاني من انخفاض الثقة بالنفس يكون أقل قدرة على التعلم والمشاركة في الأنشطة التعليمية.
وأكدت أن وسائل التواصل الاجتماعي تؤثر بشكل كبير على تطور اللغة والقدرات المعرفية لدى الأطفال: لاحظت في السنوات الأخيرة أن العديد من طلابي يفضلون اللغة المختصرة والرسائل السريعة التي يستخدمونها على هذه المنصات، على حساب المهارات الكتابية الصحيحة والقدرة على التعبير بوضوح، هذا يشكل عائقًا أمام تطورهم الأكاديمي واللغوي، حيث إن الأطفال يحتاجون إلى بيئة تتيح لهم ممارسة اللغة بشكل دقيق ومنظم، وليس فقط التعبير عن أفكارهم عبر الصور والرموز السريعة.
وأضافت: يمكننا كمعلمين وأولياء أمور أن نوجه استخدام الأطفال للتكنولوجيا بطرق تفيد تعليمهم بدلًا من إعاقة تطورهم. على سبيل المثال، يمكننا تحديد أوقات محددة لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وتشجيع الأطفال على استخدام الإنترنت في أنشطة تعليمية تفاعلية ومفيدة، نحن بحاجة إلى توجيه الطلاب نحو منصات تعليمية تحتوي على محتوى تعليمي مفيد وجذاب في الوقت نفسه، بدلًا من قضاء ساعات طويلة على وسائل التواصل الاجتماعي دون فائدة. أضف إلى ذلك، يجب أن نتعاون كمعلمين مع أولياء الأمور لوضع حدود واضحة للاستخدام اليومي للتكنولوجيا. التوازن هنا هو المفتاح، لا يمكن منع الأطفال تمامًا من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، لكن يمكننا أن نعلمهم كيفية استخدامها بطريقة بناءة، دورنا كمدرسين هو بناء هذه المهارات لديهم من خلال إدخال التكنولوجيا في الفصل الدراسي بشكل متوازن ومدروس، بحيث نضمن أن تكون أداة لتعزيز التعليم وليس لتشتيت الانتباه.
وأتمت، من المهم أن تعمل الحكومات والمؤسسات التعليمية معًا لوضع سياسات تضمن تنظيم المحتوى الذي يعرض للأطفال على هذه المنصات، هذه السياسات يجب أن تشمل قوانين تحمي الأطفال من المحتويات الضارة وتتيح للأهل والمعلمين المراقبة الفعالة للأنشطة التي يقوم بها الأطفال على الإنترنت، باختصار، وسائل التواصل الاجتماعي لها تأثير عميق على تعليم الأطفال، لكن مع التوجيه الصحيح والتعاون بين المعلمين والأهالي، يمكننا تحويل هذه الوسائل إلى أدوات تعزز من تعليم الأطفال بدلًا من أن تكون عائقًا أمامهم، نحن بحاجة إلى تعليم الأطفال كيفية التعامل بوعي ومسؤولية مع هذه التكنولوجيا، حتى نضمن أن يحصلوا على أفضل فرصة للتعلم والتطور.
التأثيرات الاجتماعية والتعليمية
وقال الخبير الاجتماعي، الدكتور طه أبو الحسن: رغم أن هذه المنصات تتيح للطلاب التواصل بسهولة واكتساب المعلومات، فإن استخدامها المفرط يُحدث تغييرات جوهرية في سلوكهم الفردي والاجتماعي، وعلى المستوى الاجتماعي، توفر وسائل التواصل الاجتماعي للأطفال سبلًا جديدة للتواصل، لكنها في الوقت ذاته قد تؤدي إلى عزلة اجتماعية، فبينما يتفاعل الأطفال مع أقرانهم عبر الشاشات، فإن هذا النوع من التواصل غالبًا ما يفتقر إلى العمق العاطفي، الدراسات أظهرت أن الاستخدام المفرط لتلك المنصات يرتبط بارتفاع مستويات الوحدة والاكتئاب لدى الأطفال، ينشأ ذلك من الاعتماد المفرط على "التواصل السطحي" الذي يفتقر إلى العلاقات الحقيقية.
وتابع في تصريحات لـ"جسور بوست"، أما من الناحية التعليمية، فالأثر لا يقل خطورة، رغم وفرة المعلومات المتاحة عبر الإنترنت، فإن الكثير من المحتوى الذي يتعرض له الأطفال قد يكون مضللًا أو غير دقيق، تعتمد خوارزميات وسائل التواصل على الترويج للمحتوى الشائع بدلاً من ذلك الذي يثري المعرفة، ما يحد من قدرة الأطفال على التفكير النقدي والتحقق من صحة المعلومات، هذا الأمر يؤدي إلى تراجع الجودة التعليمية ويزيد من المخاطر الاجتماعية الناتجة عن الجهل وسوء الفهم.
وأوضح أن التأثيرات المجتمعية لا تقتصر على الأفراد فقط، بل تشمل المجتمع ككل، إن جيلًا يعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة رئيسية للتعلم والتفاعل يعاني من تراجع في قيم التواصل الحقيقي والتعلم القائم على البحث والتحليل، هذا الجيل قد يكون أقل قدرة على التعامل مع التحديات المستقبلية بشكل نقدي وفعّال، من الضروري أن تلعب المؤسسات التعليمية دورًا فاعلًا في مواجهة هذه التحديات، يمكن دمج وسائل التواصل الاجتماعي كأداة تعليمية إذا ما أُحسن استخدامها، مع التركيز على تعليم الأطفال كيفية التحقق من المعلومات وتنمية مهارات التفكير النقدي. يجب أن يتحمل الآباء أيضًا مسؤولية تحديد حدود زمنية لاستخدام هذه المنصات، وتعليم أبنائهم كيفية التفاعل بشكل آمن ومدروس مع المحتوى الرقمي.
وأتم، تفرض وسائل التواصل الاجتماعي تحديات كبيرة على الأطفال، سواء من الناحية الاجتماعية أو التعليمية، وهو ما يستدعي تعاونًا واسعًا بين المؤسسات التعليمية، والأسر، والمجتمع بأسره لضمان تنمية جيل متوازن، واعٍ وملم بالمسؤوليات الرقمية.