«الطفلة قمر» وإخوتها السبعة.. شهود عيان على «الحرب ضد الإنسانية» في غزة
الأم لـ«جسور بوست»: لا أعلم عن والدهم شيئاً منذ عام
على مدار 13 شهرًا، ينطق حال الناس في غزة بالمأساة، داخل كل خيمة حكاية وتفاصيل عذاب يومي، أما خارجها فلا حاجة لحديث، الوجوه كفيلة بالتعبير، كوجه «قمر صبح»، ذات الأعوام الستة، الذي أطل عبر وسائل التواصل الاجتماعي في الحادي والعشرين من أكتوبر المنصرف ليخبر بما فعلته حرب الإبادة الجماعية بأطفال القطاع المحاصر وأسرهم.
مقطع صغير، سُجل لقمر صبح بينما تسير منهكة، حافية القدمين، تجرهما جرًا وهي تحمل شقيقتها التي تصغرها بعامين على كتفها، فيما تخبر الصحفي الفلسطيني علاء حمودة الذي التقاها صدفة أن أختها مصابة ولزم عليها فعل ذلك لتعود بها إلى مكان خيمتهم في متنزه البريج بوسط غزة.
دقيقة واحدة أظهرت شيئًا مما باتت تتحمله الصغيرة مرغمة، لكن ما وراءها يحكي عن شقاء وأيام ثقال زادت من كانوا بسطاء الحال بؤسًا وفقرًا بعد الحرب.
وهو ما حذر منه مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أخيم شتاينر في تقرير صدر مايو 2024 المنصرف، قائلاً إن "الارتفاع الحاد في معدلات الفقر ستنجم عنه أزمة تنموية خطيرة تعرض مستقبل الأجيال القادمة للخطر".
انقطاع أخبار الأب بالشمال منذ عام
داخل خيمة مهترئة أقامها أهل الخير لأسرة قمر انقضى العام على الصغيرة مع والدتها وسبعة أشقاء، أكبرهم في الرابعة عشرة من العمر، أصبح المعيل بعد تهجيرهم من بيت لاهيا في شمال غزة مثل أكثر من مليون شخص (فلسطيني) أُرغموا على ترك منازلهم بعدما أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي الحرب على القطاع في 8 أكتوبر 2023.
ضوء النهار بالنسبة للأم حنان صبح يعني أنها وأبناءها في عداد الأحياء ليوم جديد، لكنه ينقضي ثقيلاً حتى المساء.
مع السادسة صباحًا يبدأ مصعب ذو الأربعة عشر عامًا مهمته الثقيلة كأخ كبير يحل مكان والده تامر محمد جمال صبح الذي انقطعت أخباره منذ أوصلهم في طريق النزوح نحو الجنوب معتقدًا فيه الأمان كما ادعى جيش الاحتلال حينها، فيما بقي هو بالشمال، وإلى الآن انقطعت الاتصالات معه ولا تعلم الزوجة عنه شيئًا كما تقول لـ"جسور بوست".
يقف الأخ الأكبر لقمر في طابور ممتد أمام المخبز، يزاحم للحصول على ربطات خبز ليس للعودة إلى الخيمة وتناول إفطار لم يتحصل عليه حين غادر، إنما لبيعها في السوق.
حتى السادسة مساءً يلتمس مصعب أن تقبض يمناه الصغيرة على 15 أو 20 شيكلاً (ما يعادل 5 دولارات) على أقصى تقدير فيرجع بها إلى والدته، لربما تسد شيئًا من احتياجات أشقائه، وفي بعض الأيام تحمل يده الأخرى كسرات خبز باقية لم تُبَع، فتضمن الأسرة حينها الغداء مغمسًا بالزعتر.
قمر وشقيقتها تبيعان البسكويت
لا يغادر مصعب الخيمة وحده، تبدل حال الصغار، من طابور المدرسة وصفوفها إلى طابور الماء والوقوف بتكية الطعام، ومن تحصيل الدروس إلى بيع أغراض بسيطة مثلما كانت تفعل قمر وشقيقتها سامية وقت إصابتها.
"كانوا بيبيعوا بسكوت عند طريق صلاح الدين" بحسرة تحكي الأم لـ"جسور بوست" تتذكر كيف لم تهنأ قمر بعامها الدراسي الأول في المدرسة "كانت فرحانة كتير والمعلمات بيحبوها. ما كانت هيك. عيالنا ما أحلاهم بس ما لهم حظ في هاي الدنيا".
لـقمر 4 أشقاء و3 شقيقات، ترتيبها الرابع بينهم، ورغم صغر عمرها فإنها وجدت نفسها في موقف لا مفر منه؛ وقع استهداف قريب، فارتبك المارة وأخذ البعض في الهروب، فإذا بسيارة تصدم "سامية" ذات الأعوام الأربعة.
هرع المارة بسامية إلى مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح في وسط غزة، ظلت قمر بجوار شقيقتها حتى أنهى الأطباء الإسعافات اللازمة.
لا أحد مع الصغيرات، ولا مجال للاتصال بالأم التي انتابتها مشاعر متناقضة وقت أن عادت طفلتاها، وحكت قمر ما وقع "زعلت على بنتي كتير لكن افتخرت فيها.. كيف طفلة عمرها 6 سنوات تحمل أختها وتروح وتوديها.. الأجيال اللي زي بناتي ما يقدروش يعملوا التفاصيل هاد".
الحياة قبل الحرب
لم تكن حياة أسرة قمر قبل الحرب أفضل حالاً كما تقول الأم؛ المنزل غرفتان من الصفيح أو "الزينكو" كما يُعرف، تعرض للقصف في حرب عام 2021، وما إن سعدت الأسرة بإعادة بنائه بحلول أول أيام عيد الفطر لعام 2023 حتى جاءت الحرب وتدمر مرة ثانية.
فقدت أسرة قمر سكنها مثل أصحاب 150 ألف وحدة سكنية دمرها الاحتلال الإسرائيلي كليًا بحسب آخر إحصاء للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة.
أما الزوج فكان يعمل بائع خضار على عربة "كارو"، تعاونه الزوجة أحيانًا، فيما انقطع الابن الأكبر عن المدرسة بعدما أتقن القراءة والكتابة لمساعدة أبيه بجمع البلاستيك وبيعه.. كانت المعيشة صعبة لكن أبدًا ما انقطعت عن الأسرة احتياجاتهم الأساسية من مأكل ومشرب وحتى الملابس.
اليوم يعتصر قلب "حنان" حزنًا داخل الخيمة على رغبات هينة لصغارها ولا تستطيع تلبيتها أو حتى التواصل مع زوجها لإخباره كما كانت تفعل.
لم تغادر والدة "قمر" شمال غزة أبدًا قبل هذه الحرب، أما الآن فهي تقيم بمنطقة نزوحها الرابع، "طلعنا على جباليا قعدنا في مدرسة، وبعدين طلعنا على رفح ومنها لدير البلح واستقرينا في متنزه البريج".
النزوح المُر واحتجاز الأخ الكبير
تحتضن الأم أصغر أشقاء "قمر" ويدعى "عبدالكريم"، ابن الشهر والنصف، تئن بينما تتذكر كيف نزحت وهي حامل في شهرها الثالث "الولد اتغلب وهو في بطني وبعد ما أجى".
لم يكن السير لمسافة طويلة تحت أزيز الطيران ونيران القصف وحده المؤلم، بل موقف ترك أثرًا بالغاً في النفس.
أثناء خروج أسرة "قمر" بطريق جنوب غزة، أوقفهم جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي على حاجز عسكري أقاموه. أمسك جندي الابن الأكبر "مصعب" بعنف بعدما سأله عن والده فأجاب الطفل أنه لم يأت معهم.
صفع الجندي "مصعب" مرتين على وجهه أمام والدته، التي أخذت في الصراخ عليهم، قبل أن يقتادوا ابن الأربعة عشر عامًا بعيدًا عن أنظار أسرته لاستجوابه، بحسب الأم.
ساعتان مرّتا دهرًا على الأم وأطفالها، أصرت "حنان" على البقاء حتى إعادة ابنها "حكيت لهم إيش فيكم منه طفل صغير. مش ماشية واللي بدكم إياه اعملوه"، لكن كان لا بد من عقاب؛ أخذ الجنود حقائب الظهر التي بحوزة الأسرة وحملوا فيها ملابس تحصلوا عليها من الأقارب وداخل الإيواء في جباليا، ورموها أمامهم، "حكوا لنا اطلعوا هيك بدون ولا شيء".
لملمت الأم أطفالها وسط سؤال لم يهدأ من "مصعب" بينما يحكي عن استجواب الجنود له "إيش بدهم منا؟" بينما لا تجد "حنان" إجابة حتى الآن.
تحظر المادة 37 من اتفاقية الأمم المتحدة للطفل تعرض الأطفال للاعتقال أو الاحتجاز أو السجن بصورة غير قانونية، وتلزم المادة 38 من الاتفاقية ذاتها حماية الصغار في النزاعات المسلحة والحروب، لكن في حرب الإبادة بغزة يعاني الطفل حتى وهو في بطن أمه.
مولود جديد بالخيمة يزيد المعاناة
في يناير المنصرف، وصفت أخصائية الاتصالات في "اليونيسف"، تيس إنغرام، مشهد ولادة الأطفال خلال الحرب بقولها "أن تصبح أماً يجب أن يكون وقتاً للاحتفال. في غزة، هو طفل آخر يولد في جحيم".
تلك الكلمات كانت واقع أسرة "قمر" بينما تستقبل مولودهم عبدالكريم، ففي هذه الحرب وجد كل فرد نفسه وحيدًا في مواقف عصيبة؛ جاء حنان المخاض في الشهر الثامن، نقلها الإسعاف إلى مستشفى العودة في النصيرات بالمحافظة الوسطى لتلد بلا رفقة، فيما بقي صغارها وحدهم تحت أصوات القصف داخل الخيمة 6 أيام حتى عادت الأم.
كادت "حنان" أن تُجن من التفكير ليس فقط بحال صغارها، بل أيضًا مولودها الحديث الذي أودعه الأطباء الحضانة في مستشفى ناصر بخان يونس بعيدًا عنها لأنه المكان المتاح به العناية بحديثي الولادة.
زادت هموم وأعباء أسرة "قمر" بقدوم الأخ الثامن، تحمل "حنان" عبء احتياجات الرضيع التي لا يقدر على شرائها متيسر الحال بالوقت الراهن، هذا إن توفرت، فيما يتفتت قلبها على أب لم يرَ مولوده، ورضيع يتعرف على دنياه في خيمة.
لا يتوقف سؤال قمر وشقيقاتها عن أبيهم ومتى يعودوا إليه ولمنزلهم نهارًا، وفي المساء حينما تسكن الحركة، يشتد الألم باستعادة التفاصيل وأصوات القصف.
تُتمتم "حنان" بالدعاء فيما تسمع صوت انفجار قوي، يفزع الصغار من النوم كعادة كل يوم، تُهدئ الأم من روعهم وتدعوهم أن يغفو مجددًا، فالنوم هو السبيل الوحيد للهروب مما يحدث، "الولاد نفسيتهم تعبت وأحنا كمان تعبنا".
تنظر الأم لـ"قمر وسامية، وأسماء، وسها، ومصعب ومحمد"، تستعيد أمنياتها لهم بمستقبل أفضل، بينما يظلل عليهم قماش الخيمة، تُمني نفسها بانتهاء الحرب وانقضاء الأيام العصيبة والعودة للشمال ولو على أنقاض منزلها قائلة "الواحد يأكل حبة ملحة ويكون في بلده".