إعادة إعمار غزة.. حق إنساني تحاصره أرقام «كارثية» وتعقيدات مالية وسياسية

عقب اتفاق وقف إطلاق النار

إعادة إعمار غزة.. حق إنساني تحاصره أرقام «كارثية» وتعقيدات مالية وسياسية
آثار العدوان الإسرائيلي على غزة- أرشيف

بجهود متعددة الجوانب تتضمن إعادة الإعمار وتعزيز القدرة على الوقوف مجددًا أمام التحديات المستقبلية، يقف قطاع غزة الجريح وسط أطنان الأنقاض والدمار، ما يستغرق عدة سنوات ويتكلف مليارات الدولارات، وفق التقديرات الأممية.

واستجابة لوساطة أمريكية وقطرية ومصرية، تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة "حماس"، وسط ترحيب دولي واسع وفرحة عارمة للفلسطينيين بهذا الاتفاق الذي يفترض أن يضع حداً للحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكثر من 15 شهراً.

وتعالت أصوات مصرية رسمية بضرورة عقد مؤتمر دولي لإعادة إعمار غزة، حيث تشير التقديرات إلى تكلفة قد تصل إلى 80 مليار دولار، بخلاف مليار آخر لإزالة أكثر من 42 مليون طن من الأنقاض، وفترة زمنية قد تصل لأكثر من 10 سنوات.

وتظل إعادة إعمار القطاع المدمر أمرا معقدا في ظل تحديات التنفيذ المرتبطة بوجود الجثث تحت الأنقاض أو القنابل والألغام والصواريخ غير المنفجرة، إضافة إلى التعقيدات المالية والسياسية واللوجيستية، بحسب آراء المحللين والخبراء.

الواقع بالأرقام 

وتضررت 70 بالمئة من شبكة الطرق بنحو 1190 كيلو مترا من الشوارع، من بينها 415 كيلو مترا تضررت بشدة و1440 كيلو مترا تضررت بشكل متوسط، وفقا لـ"تحليل أولي" أجراه مركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية "يونوسات" في أغسطس 2024.

وأحصى الباحثان الأمريكيان كوري شير وجامون فان دين هوك، استنادا أيضا إلى تحليلات الأقمار الصناعية باستخدام منهجية مختلفة، 172 ألف مبنى متضرر جزئيا أو كليا في القطاع حتى 11 يناير الجاري أي ما يعادل 60 بالمئة من مباني القطاع الفلسطيني.

وفي مدينة غزة الواقعة شمالي القطاع، والتي كان عدد سكانها 600 ألف نسمة قبل الحرب، تعرض ما يقرب من ثلاثة أرباع المباني للقصف، أما في مدينة رفح الواقعة في أقصى جنوب غزة والتي تعتبر أقل مدينة كبيرة في القطاع فقد تعرضت مبانيها لأضرار، فقد أظهرت تحليلات الباحثين أن 48.7 بالمئة من مبانيها تضررت بالقصف.

ونقلت وكالة "بلومبرغ" عن أستاذ تاريخ العمارة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، مارك جارزومبيك، قوله إنه "ما نراه في غزة هو شيء لم نشهده من قبل في تاريخ التخطيط الحضري، فإن الأمر ليس مجرد تدمير للبنية الأساسية المادية، بل إنه تدمير للمؤسسات الأساسية للحكم والشعور بالحياة الطبيعية".

وأشار إلى أن "تكلفة إعادة الإعمار ستكون باهظة للغاية.. ويجب أن تكون مواقع البناء بهذا الحجم خالية من الناس، مما يؤدي إلى موجة أخرى من النزوح. وبغض النظر عما يفعله المرء، فإن غزة ستظل تكافح هذا الأمر لأجيال".

وكشف تقرير "بلومبرج" في أغسطس الماضي أن "الغارات الجوية الإسرائيلية خلفت أكثر من 42 مليون طن من الأنقاض في مختلف أنحاء القطاع، وهذا يكفي من الأنقاض لملء خط من شاحنات القمامة يمتد من نيويورك إلى سنغافورة"، لافتا إلى أن عملية إزالة كل هذه الأنقاض قد تستغرق سنوات.

وأشارت الأمم المتحدة في أكتوبر الماضي إلى أن إزالة الأنقاض وحدها ستكلف ما يزيد على مليار دولار، موضحة أن العملية معقدة وقد تستغرق سنوات عدة، بسبب وجود القنابل والألغام والصواريخ غير المنفجرة والمواد الملوثة الخطيرة والجثث التي لا تزال تحت الأنقاض، فيما تقدر وزارة الصحة الفلسطينية وجود 10 آلاف جثة تحت الأنقاض.

ولم تتمكن الجهات الضامنة من جمع الأموال الضخمة المطلوبة لإعادة الإعمار بغزة عقب الحروب في أعوام 2008، و2014، و2018، 2021 وهي الحروب التي لم تستمر على نفس وتيرة الحرب الحالية التي استمرت 15 شهراً. 

وبلغت قيمة الأضرار في البنية التحتية نحو 18.5 مليار دولار، وفق تقرير مشترك بين الأمم المتحدة والبنك الدولي، إذ تضررت القطاعات الحيوية كالمياه والصرف الصحي والطاقة بشكل كبير، حيث تراجعت إمدادات المياه الصالحة للشرب إلى أقل من 25% من مستواها قبل الحرب، كما تأثرت 68% من شبكة الطرق.

وقالت منظمة الصحة العالمية، إن إعادة إعمار المستشفيات والمنشآت الطبية في قطاع غزة ستتكلف عدة مليارات من الدولارات، لافتة إلى التقديرات الأولية إلى أن هناك حاجة لنحو 3 مليارات دولار لقطاع الصحة وحده خلال الأشهر الـ18 المقبلة.

وقال ريك بيبركورن، ممثل منظمة الصحة العالمية المسؤول عن الأراضي الفلسطينية، إنه من المتوقع خلال إطار زمني يتراوح بين 5 إلى 7 سنوات، أن يصل الطلب إلى 10 مليارات دولار.

عقبات وتحالفات

وفي ضوء هذه الأرقام الضخمة، فإن مسؤولية تحمل عبء إعادة إعمار غزة ضخمة، وتحتاج إلى تحالف دولي قوى ومتماسك، إذ أعلنت الخارجية المصرية في بيان استعداد بلادها لاستضافة مؤتمر دولي من أجل إعادة إعمار غزة، داعية المجتمع الدولي لدعم الجهد الإنساني وتقديم المساعدات لقطاع غزة، والبدء في مشروعات التعافي المبكر تمهيدا لإعادة الإعمار.

وسبق أن استضافت مصر بشراكة مع النرويج، في أكتوبر 2014، مؤتمر إعادة إعمار غزة، بمشاركة الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن ووزراء خارجية وممثلي نحو 50 دولة عربية وأجنبية و20 منظمة إقليمية ودولية.

وفي أغسطس الماضي، نقلت وكالة "رويترز" للأنباء عن مصادر أوروبية (لم تسمها) قولها إن فرنسا وألمانيا وبريطانيا قد اقترحت مبادرة لإعادة إعمار غزة، لكن المبادرة حملت في طياتها عقبات سياسية وميدانية أبرزها نزع سلاح حماس ومنع إعادة تسليحها، وضرورة عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة.

وفي ظل رفض أوروبي وإسرائيلي لـ"حماس"، سعت القاهرة لرعاية مشاورات بين حركتي فتح وحماس، على مدار الأشهر الثلاثة الماضية، لتشكيل لجنة تحمل اسم "لجنة الإسناد المجتمعي" لإدارة قطاع غزة في اليوم التالي للحرب.

وبحسب مسودة الاتفاق، تتولّى اللجنة "إدارة شؤون قطاع غزة، وتكون مرجعيتها الحكومة الفلسطينية وتكون مسؤولة عن كل المجالات، الصحية والاقتصادية والتعليمية والزراعية والخدمية، وأعمال الإغاثة ومعالجة آثار الحرب والإعمار"، غير أن السلطة الفلسطينية لم توافق بعد على مسودة الاتفاق.

إشكاليات محتملة

قال أستاذ العلوم السياسة والعلاقات الدولية بجامعة القدس، الدكتور أمجد شهاب، إن الإعمار يظل هو الملف الأهم والأخطر بعد وقف إطلاق النار بغزة وما خلفه من دمار شامل في القطاع، لافتا إلى أنه لو لم يحدث إعمار سيظل القطاع منطقة منكوبة غير صالحة للحياة لأكثر من 2 مليون غزاوي، خاصة وأن مقومات الحياة الكريمة باتت غير متوافرة.

وأوضح شهاب في تصريح لـ"جسور بوست" أهمية ترقب ما سيحدث في مراحل الهدنة التي بدأت وخاصة المرحلة الثانية التي تعد الأصعب والتي ستشهد مفاوضات بشأن تفاصيل هامة، لتحديد مستقبل بدء خطة للإعمار في القطاع، لافتا إلى أن مشاكل أساسية وعقبات خاصة مع رفض إسرائيل إعادة الإعمار أو تواجد حماس بالمشهد مستقبلا.

وأضاف: "ظهور حماس في غزة مع بداية تنفيذ الاتفاق سواء في العرض العسكري أو الانتشار الأمني لعناصر ربما يشكل صدمة لكل من راهن على هزيمتها خاصة في إسرائيل، خاصة وأنها بعثت برسالة مفادها أنها موجودة رغم الضربات ولا حل بدونها خاصة في ملف الإعمار". 

وتابع: "إسرائيل لن تقدم تعويضا عما ارتكبته من جرائم وتدمير وليس هناك قوة تفرض عليها حاليا ذلك الأمر، لا سيما وأن تمويل إعمار غزة سيكون بشكل رئيسي على الدول العربية وخاصة دول الخليج، التي دعمت بشكل لافت غزة عقب الحروب الأخيرة خاصة الإمارات وقطر والسعودية ومصر".

ويرى أستاذ العلوم السياسة والعلاقات الدولية بجامعة القدس، أن خطة إعادة الإعمار مرهونة على موافقة أمريكية، خاصة وأن التكلفة تصل إلى عشرات المليارات من الدولارات، والجميع يريد أن يرى استقرارا ليقدم دعما، مؤكدا أنه لو أن هناك ضوءا أخضر أمريكيا يحد من القيود الإسرائيلية وتم توفير التمويل اللازم يمكن إعمار القطاع بين 3 إلى 5 سنوات خاصة ومساحة القطاع صغيرة.

ولفت إلى أنه في ظل ضعف السلطة الفلسطينية وعدم وجود نفوذ لها بالقطاع، وظهور حماس بشكل قوى مع بداية الهدنة، فإنه يمكن البناء على اتفاق رعته القاهرة بشأن تشكيل لجنة إسناد مجتمعي تشكل من تكنوقراط لإدارة غزة، وإنهاء أهم العقبات السياسية تجاه الإعمار.

مظلة إنسانية 

يرى الخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي في الجزائر، البروفيسور مراد كواشي، أنه بعد 15 شهرا من الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، استطاعت غزة أن تخرج منتصرة دبلوماسية وسياسيا على الأقل، لكن على من الناحية الاقتصادية تشهد دمارا رهيبا خلفته الحرب.

وأوضح كواشي في تصريح لـ"جسور بوست" أن "الناتج المحلي لفلسطين تراجع بحوالي أكثر من 35 بالمئة ومستويات التنمية وصلت إلى نفس المستوى في خمسينيات القرن الماضي، ومستوى الفقر سجل 100 بالمئة ومعدل البطالة 80 بالمئة وهذه أرقام مخفية تحتاج إلى وضع استراتيجية لإعمار غزة سريعا".

وأضاف: "الأرقام التي تتحدث عن حجم الركام وتكلفة الإعمار التي تتجاوز 80 مليار دولار تعد من الناحية الاقتصادية تكلفة باهظة جدا، ما يتطلب حشدا دوليا هائلا للتمويل وإعادة إعمار القطاع.

وأوضح الحقوقي البارز المهتم بمناطق النزاعات، صالح عثمان، أن إعمار قطاع غزة حق إنساني يجب الاهتمام به سريعا وتقديم كل ما يعززه، مشيرا إلى أن هناك تجارب إنسانية عديدة شهدها العالم عقب الحروب في أزمنة مختلفة، مثل الحرب العالمية الأولى والثانية وهيروشيما، والبوسنة والهرسك، لكن ما حدث في غزة غير مسبوق وانتهك كل الحقوق الإنسانية.

وأشار عثمان في تصريح لـ"جسور بوست" إلى أن المجتمع الدولي ليس عليه التزام قانوني لإعمار غزة لكن من الناحية الأخلاقية والإنسانية، فقط يجب الوقوف ضد هذا النوع من الكوارث بالدعم والمساندة والمشاركة بالإعمار بقوة خاصة وهناك صناديق في الأمم المتحدة ذات علاقة بهذه التعويضات. 

وشدد على أهمية عقد المؤتمرات الدولية لجمع تمويلات لإعمار غزة، مؤكدا أن هذه المؤتمرات والتي دعت مصر لأحدها تعد دعما أخلاقيا وإنسانيا وضرورة لمواجهة ما دمرته الحرب التي لن يستطيع أهل غزة ولا السلطة الفلسطينية ترميمه أو إعماره. 

وبخلاف المؤتمرات، يرى الحقوقي صالح عثمان، أن ما يثار عن تجهيز وحدات سكنية جاهزة وخيام كحلول سريعة أمر إيجابي، خاصة في ظل عامل الزمن الذي قد يطول في الإعمار خاصة أن غزة عادت إلى ما قبل نحو 50 عاما، وبالتالي يحتاج القطاع إلى مظلة إنسانية عاجلة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية