إعدام خارج نطاق القضاء في سوريا.. هل تصبح العدالة الانتقالية مدخلًا للمصالحة أم ذريعة للانتقام؟
35 عملية إعدام بإجراءات موجزة خلال ـ72 ساعة معظمها لعناصر في نظام الأسد
في سوريا، حيث تقف البلاد على أطلال صراع دامٍ استمر لأكثر من عقد من الزمن، تبدو العدالة الانتقالية ضرورة ملحة وليست مجرد خيار، لكنها تعاني من تحديات كبرى نتيجة الفوضى وانعدام الاستقرار.
وقد شهدت مرحلة ما بعد الصراع سلسلة من الانتهاكات التي تعكس تعقيد التوازن بين تحقيق العدالة وضمان الأمن والاستقرار.
وقال المرصد السوري لحقوق الإنسان، إن مسلحين تابعين للإدارة الجديدة في سوريا نفذوا 35 عملية إعدام بإجراءات موجزة خلال الساعات الـ72 الماضية، معظمها لعناصر في نظام الرئيس السابق بشار الأسد.
وأثار هذا الرقم الصادم تساؤلات عميقة حول مصير العدالة الانتقالية في بلد شهد عقودًا من الاستبداد والانتهاكات، وبينما يُنظر إلى الإعدامات على أنها محاولات لتصفية الحسابات، فإنها تسلط الضوء أيضًا على غياب المؤسسات القانونية المستقلة التي يمكنها محاسبة المسؤولين عن الجرائم بشكل عادل ومنصف.
وأعلنت السلطات الجديدة المنبثقة عن فصائل المعارضة التي أطاحت بالأسد الشهر الماضي أنها اعتقلت عشرات العناصر من الفصائل التي شاركت في العمليات الأمنية بريف حمص، بتهمة ارتكاب انتهاكات في قرى ريف حمص الشمالي والغربي خلال الأيام الفائتة.
وتعكس هذه الخطوة وعيًا بضرورة مواجهة الانتهاكات داخل صفوفها، لكنها تطرح تساؤلات حول مدى شفافية هذه المحاكمات ونزاهتها، خاصة مع غياب هيئات رقابية مستقلة، ووفقًا لتقارير المرصد، فإن هذه الاعتقالات جاءت ردًا على انتهاكات جسيمة شملت الإعدامات الميدانية والإهانات الممنهجة بحق أبناء الأقلية العقائدية.
اعتقالات عشوائية وخطف
وأظهرت التقارير زيادة ملحوظة في حالات الاعتقال العشوائي والخطف وحتى القتل، حيث أكد مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، رامي عبد الرحمن، أن الفصائل المحلية التابعة للتحالف الحاكم الجديد في سوريا ارتكبت انتهاكات واسعة النطاق، هذه الانتهاكات لا تعكس فقط انعدام الأمن، بل تُظهر أيضًا غياب إطار قانوني يمكنه محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم.
ووفقًا للإحصائيات الحديثة التي قدمها المرصد، فإن أكثر من 50% من الانتهاكات التي تم توثيقها في الأسابيع الأخيرة وقعت في مناطق تشهد صراعات داخلية بين الفصائل المختلفة هذه الأرقام تؤكد الحاجة الملحة لإطار عدالة انتقالية يُبنى على أسس قانونية متينة ويضمن التمثيل العادل لجميع الأطراف.. ومع ذلك، فإن انتشار السلاح وغياب الرقابة القانونية يعوق تحقيق هذا الهدف ويجعل العدالة الانتقالية مجرد شعار بعيد عن الواقع.
وشملت الانتهاكات التي ارتكبت مؤخرًا تنفيذ حملات اعتقال عشوائية طالت عشرات الأشخاص، وإهانتهم وإذلالهم بطرق بشعة. فضلاً عن ذلك، تحدثت التقارير عن الاعتداء على رموز دينية وارتكاب جرائم تنكيل بالجثث وعمليات قتل وحشية طالت مدنيين عزّل. هذه المشاهد لا تعكس فقط غياب القيم الإنسانية، بل تكشف عن مستوى غير مسبوق من القسوة والعنف الذي أصبح سمة بارزة لمرحلة ما بعد الصراع.
وقالت مجموعة “السلم الأهلي” في سوريا، إحدى مجموعات المجتمع المدني، في بيان لها، إن ضحايا مدنيين سقطوا في العديد من القرى بمنطقة حمص خلال مرحلة انتقال السلطة، وأشارت المجموعة إلى أن المرحلة الانتقالية يجب أن تكون فرصة لتعزيز قيم العدالة والمصالحة، لكنها بدلًا من ذلك أصبحت مسرحًا لجرائم الانتقام وتصفيات الحسابات، وأكدت أن مقتل رجال عزّل في هذه المرحلة يعكس الحاجة إلى تدخل دولي لضمان حماية حقوق الإنسان.
وعود باحترام حقوق الأقليات
رغم الوعود التي قدمتها الإدارة السورية الجديدة باحترام حقوق الأقليات الدينية والعرقية، فإن الواقع على الأرض يشير إلى عكس ذلك، أفراد من الأقلية العلوية أعربوا عن مخاوفهم من عمليات انتقامية على خلفية الانتهاكات التي ارتكبت في عهد النظام السابق.
وفي ظل غياب مؤسسات مستقلة وقوية، فإن هذه المخاوف قد تتحول إلى حقيقة، مما يهدد النسيج الاجتماعي في البلاد.
وفقًا لبيانات الأمم المتحدة، فإن 70% من سكان سوريا يعيشون تحت خط الفقر، و40% منهم يعانون من انعدام الأمن الغذائي.
وتؤكد هذه الأرقام أن تحقيق العدالة الانتقالية لا يمكن أن يتم بمعزل عن معالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة، وفي ظل هذه الظروف، يصبح الحديث عن العدالة الانتقالية أكثر تعقيدًا، حيث تتداخل قضايا الفقر والبطالة مع الانتهاكات الحقوقية والسياسية.
أهمية توثيق الجرائم
وأكدت الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان الدولية مرارًا أهمية توثيق الجرائم التي ارتكبت خلال الصراع. ومع ذلك، فإن التحدي الأكبر يكمن في كيفية استخدام هذا التوثيق لضمان محاكمة المسؤولين عن الجرائم بشكل عادل.
وبناءً على التقارير الحديثة، فإن أكثر من 65% من السوريين يعانون من اضطرابات نفسية نتيجة الصراع المستمر هذه الأرقام تكشف عن الأثر العميق الذي تركته الحرب على الأفراد، مما يجعل عملية العدالة الانتقالية ضرورة نفسية واجتماعية بقدر ما هي سياسية وقانونية.
ووفقًا للمرصد السوري لحقوق الإنسان، فإن أكثر من 80% من الانتهاكات التي تم توثيقها في الأسابيع الأخيرة ارتكبتها جماعات مسلحة غير حكومية هذا الرقم يثير تساؤلات حول دور المجتمع الدولي في الضغط على هذه الفصائل لاحترام حقوق الإنسان.
ويرى حقوقيون أن تحقيق العدالة الانتقالية في سوريا يتطلب خطوات واضحة وملموسة، تبدأ بتشكيل هيئة مستقلة للتحقيق في الانتهاكات وتقديم المسؤولين عنها للمحاكمة كما يجب العمل على تعزيز دور منظمات المجتمع المدني لضمان مشاركة جميع فئات المجتمع في عملية المصالحة وبدون هذه الخطوات، فإن خطر استمرار الانتهاكات يظل قائمًا، مما يهدد بعودة الصراع من جديد.
إعدام واعتقال خارج القانون
وفي السياق، قالت خبيرة حقوق الإنسان الأكاديمية السورية، ترتيل درويش، إن التقارير الواردة حول الإعدامات الميدانية والاعتقالات الجماعية التي تحدث في سوريا تشير إلى تصعيد خطير في الانتهاكات الموجهة ضد حقوق الإنسان، في وقت تتشابك فيه العديد من القوى المختلفة في صراع مستمر، وبغض النظر عن الجهة التي تمثلها الأطراف المنفذة لهذه الممارسات، فإنه لا يمكن تبرير أي انتهاك لحقوق الأفراد على أساس التوترات السياسية أو العسكرية.
وتابعت ترتيل درويش، في تصريحات لـ"جسور بوست"، عمليات الإعدام بإجراءات موجزة، التي تم وصفها في التقرير، تُعدّ انتهاكاً صارخاً للحق في الحياة الذي تكفله جميع المواثيق الدولية، فالإعدام دون محاكمة عادلة يُعتبر جريمة ضد الإنسانية بموجب القانون الدولي، حيث لا يجوز حرمان أي شخص من حياته إلا بموجب حكم صادر عن محكمة مستقلة وعادلة، وعليه، فإن هذه الممارسات تسهم في تكريس ثقافة الإفلات من العقاب، حيث لا يتم تقديم المسؤولين عن هذه الجرائم للمساءلة، مما يُحبط أي جهود للعدالة والمصالحة في المستقبل.
وقالت إنه على الرغم من الوضع المعقد الذي يعيشه الشعب السوري، يجب التأكيد على أن جميع أطراف النزاع ملزمة بالامتثال لأبسط المبادئ الإنسانية، فسواء كانت الفصائل المسلحة التابعة للنظام السابق أو القوى التي أسقطت هذا النظام، فإنها لا تملك الحق في فرض عقوبات أو قتل أفراد خارج إطار القضاء، بل يجب أن تتم محاكمة أي متهم وفق إجراءات قانونية وضمانات محاكمة عادلة، كما هو منصوص عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يُعتبر مرجعاً أساسياً في حماية حقوق الأفراد على مستوى العالم.
وأشارت ترتيل درويش إلى أنه حتى في أوقات الصراعات، يجب على جميع الأطراف احترام الحريات الأساسية للإنسان الحرمان من الحرية، سواء كانت تلك الاعتقالات تستهدف أفراداً من النظام السابق أو من المعارضة، يجب أن يتم وفقاً للقانون، مع ضمان حق المعتقلين في التواصل مع محامٍ، والتمتع بحق المحاكمة العادلة، وكذلك الحق في أن يُعاملوا بكرامة، فالاعتقال التعسفي يؤدي إلى إضعاف الثقة في المؤسسات القضائية، ويزيد من معاناة المدنيين، ويُعتبر شكلاً من أشكال الظلم المستمر.
واسترسلت: في ما يتعلق بالتصريحات حول "الاستغلال" من قبل مجموعات إجرامية قامت بارتكاب تجاوزات بحق الأهالي، من الواضح أن هناك حاجة ماسة لتعزيز الرقابة والمساءلة داخل هذه الفصائل، بل إن التصريحات الرسمية يجب أن تُترجم إلى خطوات ملموسة، مثل التحقيقات المستقلة والشفافة، لمحاسبة هؤلاء المتورطين في الانتهاكات فالتجاوزات باسم "الظرف الاستثنائي" لن تُسهم سوى في تدمير النسيج الاجتماعي السوري وتعميق الانقسامات، ولن تعزز من بناء أي نوع من السلام أو الاستقرار.
وقالت إن المجتمع الدولي ملزم أيضاً بمواصلة مراقبة الوضع عن كثب، ودعوة جميع الأطراف في سوريا إلى احترام التزاماتها الدولية بموجب الاتفاقيات الإنسانية، حيث إن غياب الضغط الدولي والمراقبة المستمرة قد يسهم في استمرار هذه الانتهاكات، بل ويفتح الباب أمام حدوث المزيد من الانتهاكات في المستقبل، ولذلك فإن تحمّل المسؤولية هو خطوة أساسية لوقف دائرة العنف وضمان حماية الحقوق الأساسية للمدنيين في هذا الصراع المستمر.
وأتمت: عملية بناء للسلام أو انتقال ديمقراطي يتطلب إصلاحاً قانونياً شاملاً، والالتزام بمبادئ العدالة الانتقالية التي تهدف إلى معالجة جرائم الماضي وتضميد جراح الضحايا، لكن لا يمكن الوصول إلى تلك الأهداف ما لم تكن هناك محاسبة حقيقية، وإرادة صادقة من جميع الأطراف للالتزام بالقانون وحماية الحقوق الأساسية.
انتهاك القانون الدولي في سوريا
ومن منظور قانوني، قال الخبير القانوني، مصطفى سعداوي، إن هذه الممارسات خرق فاضح للمبادئ الأساسية التي تنظم حقوق الأفراد أثناء النزاعات المسلحة، كما أنها تمثل انتهاكاً خطيراً للاتفاقيات الدولية التي تحظر الإعدام دون محاكمة والاحتجاز التعسفي، ولا بد من التأكيد على أن عمليات الإعدام بإجراءات موجزة، كما ورد في التقرير، تمثل انتهاكاً للمادة السادسة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي ينص على أن "الحق في الحياة هو حق لا يجوز حرمان أي إنسان منه بشكل تعسفي".
وأضاف سعداوي في تصريحات خاصة لـ"جسور بوست"، أن هذا الحق مكفول لجميع الأفراد دون تمييز، حتى في حالات النزاع المسلح، كما أن المادة الثالثة من اتفاقيات جنيف، التي تعتبر من القوانين الملزمة في النزاعات المسلحة غير الدولية، تؤكد على حماية الأفراد الذين لا يشاركون مباشرة في الأعمال العدائية، وتوجب محاكمتهم وفقاً للمبادئ القانونية المنصوص عليها، وهو ما لا يتوافق مع الإعدامات الميدانية التي تتم دون أي محاكمة أو ضمانات قضائية.
وتابع، أن القانون الدولي الإنساني، بما في ذلك اتفاقيات جنيف لعام 1949 والبروتوكولات الإضافية لها، يحظر بشدة أي شكل من أشكال العقوبات الجماعية، فضلاً عن المعاملة القاسية أو المهينة، ففي حال حدوث اعتقال، يجب أن يتم ذلك وفقاً للإجراءات القانونية السليمة، مع ضمان حق المعتقلين في محاكمة عادلة وفقاً لمعايير معترف بها دولياً، والاحتجاز التعسفي الذي قد يصاحب هذه الاعتقالات الجماعية لا يتماشى مع أحكام المادة التاسعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي تنص على أنه "لا يجوز حرمان أي شخص من حريته إلا بموجب قرار صادر عن محكمة مختصة"، ويجب أن تتم عمليات الاعتقال وفقاً للضوابط القانونية التي تحمي الأفراد من التعسف والاعتقال غير المبرر.
وأشار سعداوي إلى أن السلطات قد اتهمت مجموعات من الفصائل المسلحة بارتكاب "تجاوزات" بحق الأهالي، وهو أمر يستدعي التدقيق من زاويتين: الأولى، ضرورة وجود آلية محاسبة واضحة ضمن النظام القانوني للأطراف المعنية في النزاع، والثانية، ضرورة أن تتسم هذه المحاسبة بالشفافية والمصداقية.
وتابع: “يجب على السلطات المحلية في أي منطقة تحكمها أطراف معارضة أو حكومة أن تعمل وفق المبادئ الأساسية للقانون الدولي وأن تضمن محاكمة عادلة لمن يشتبه في ارتكابهم انتهاكات، فغياب هذه الإجراءات يسهم في تعزيز بيئة الإفلات من العقاب، وهي ما تعتبره الأمم المتحدة أحد العوامل الرئيسية التي تساهم في استمرار العنف والنزاع”.
وقال إنه يجب على الأطراف المختلفة في النزاع السوري، سواء كانت الحكومة أو الفصائل المسلحة المعارضة، الامتثال الكامل لأحكام القانون الدولي، بما في ذلك احترام حقوق المدنيين والمحتجزين. وفي غياب إطار قانوني محكم، تصبح الانتهاكات أكثر انتشاراً، مما يؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية، وعليه يتعين على المجتمع الدولي، وفي مقدمتهم الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية، التدخل بشكل فاعل لضمان احترام حقوق الإنسان في سوريا، ودعم الجهود الرامية إلى تأسيس محاكم مستقلة تعمل على محاكمة المسؤولين عن الانتهاكات ومحاسبتهم.
وأتم: يجب أن تسعى أي عملية سلمية في سوريا إلى ضمان المساءلة والعدالة الانتقالية التي تتيح لجميع الضحايا، بغض النظر عن انتمائهم السياسي أو العسكري، الحصول على حقوقهم وتعويضاتهم، فاحترام حقوق الإنسان، وخاصة في أوقات النزاع، ليس مجرد التزام قانوني بل هو شرط أساسي لبناء دولة قوية ومستقرة، قادرة على المضي قدماً نحو المصالحة والعدالة.