تحرك دنماركي ضد العنصرية.. خطوة نحو العدالة أم مجرد تدابير تجميلية؟
تحرك دنماركي ضد العنصرية.. خطوة نحو العدالة أم مجرد تدابير تجميلية؟
في خطوة غير مسبوقة على الساحة الدنماركية، وفي وقت يزداد فيه اهتمام الولايات المتحدة بمستقبل غرينلاند، أطلقت الحكومة الدنماركية يوم 28 يناير الجاري، مجموعة من المبادرات الرامية إلى مكافحة العنصرية والتمييز ضد سكان غرينلاند المقيمين في الدنمارك.
وجاءت هذه المبادرات في وقت حساس حيث تتصاعد التوترات السياسية والاقتصادية حول الإقليم القطبي الشمالي، والذي أصبح هدفًا متجددًا للولايات المتحدة تحت إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب.
وتتضمن المبادرات الدنماركية 12 إجراءً تهدف إلى تحسين أوضاع الغرينلانديين في الدنمارك، منها الحق في الحصول على جواز سفر غرينلاندي، وتسهيل الوصول إلى مترجمين فوريين، بالإضافة إلى تقديم مساعدة للإبلاغ عن التمييز باللغة الغرينلاندية.
تعد هذه المبادرات خطوة مهمة نحو تصحيح الوضع الاجتماعي غير المتكافئ الذي يعيشه العديد من الغرينلانديين في الدنمارك، فوفقًا لتقرير صادر عن "المفوضية الأوروبية لحقوق الإنسان" في عام 2024، يعاني أكثر من 60% من الغرينلانديين في الدنمارك من تمييز متكرر في مجالات التعليم والعمل والخدمات العامة.
وتظهر الدراسات أن نسبة البطالة بين الغرينلانديين في الدنمارك تتراوح بين 18% و22%، وهي نسبة مرتفعة بشكل كبير مقارنة بمعدل البطالة الوطني الذي يصل إلى 5.5% فقط.
ويرتبط هذا التمييز بتاريخ طويل من الاستبعاد الاجتماعي والاقتصادي، ما يعكس تجاهلًا مستمرًا لحقوق هذا الشعب في مجتمعهم الجديد.
وتتعدد المبادرات الدنماركية التي تهدف إلى تمكين الغرينلانديين في الحياة اليومية، من أبرز هذه المبادرات هو "حق الحصول على جواز سفر غرينلاندي"، وهي خطوة رمزية تعزز الهوية الوطنية للغرينلانديين، وتعطيهم إمكانية التنقل بحرية أكبر في الدنمارك وبقية دول الاتحاد الأوروبي، هذا الإجراء لا يعد فقط مسألة قانونية، بل هو أيضًا خطوة مهمة في تأكيد السيادة السياسية على غرينلاند التي تتمتع بحكم ذاتي.
ويعد هذا التحرك بمثابة رفض غير مباشر لأي محاولات أمريكية للاستحواذ على الإقليم القطبي الشمالي، خاصة في ظل التصريحات المثيرة للجدل التي أطلقها دونالد ترامب في السنوات الماضية عن رغبته في "شراء" غرينلاند.
توفير الخدمات الأساسية
تشدد الحكومة الدنماركية على توفير الخدمات الأساسية التي تسهم في الحد من العوائق اللغوية والثقافية، ففي إطار هذه المبادرات، ستتم تسهيل عملية الوصول إلى مترجمين فوريين، وهي خطوة هامة بالنظر إلى أن العديد من الغرينلانديين لا يتقنون اللغة الدنماركية بشكل جيد.
وأظهرت دراسة أجرتها "المنظمة الأوروبية لحقوق الأقليات" في 2023 أن نحو 35% من الغرينلانديين في الدنمارك يواجهون صعوبات كبيرة في التواصل مع السلطات الحكومية بسبب حواجز اللغة، هذا الوضع يؤدي إلى تفشي حالات من التمييز غير المعلن، حيث يُمنع الغرينلانديون في بعض الأحيان من الحصول على فرص العمل أو التمتع بالخدمات الصحية والتعليمية كما يجب.
واحدة من أبرز المبادرات التي أعلن عنها أيضًا هي توفير منصات لدعم تقديم البلاغات ضد حالات التمييز، ستتيح هذه المنصات للغرينلانديين تقديم شكاوى ضد الممارسات العنصرية بلغتهم الأم، وهي خطوة مهمة لتمكين الضحايا من التعبير عن معاناتهم دون خوف من انتقام أو نقص في الفهم.
ويستند هذا التحرك إلى دراسة أجرتها "المنظمة الدولية لحقوق الإنسان" في 2022، أظهرت أن الغرينلانديين في الدنمارك غالبًا ما يترددون في الإبلاغ عن التمييز خشية من عدم الاستجابة الجادة، وفقًا للتقرير، يُقدر أن 80% من الغرينلانديين الذين تعرضوا للتمييز لم يقوموا بإبلاغ السلطات بسبب عدم الثقة في النظام القضائي.
وفي هذا السياق، يشير وزير الاندماج كار ديبفاد بيك إلى أنه "من المهم بالنسبة إلى الحكومة أن يتمكن سكان غرينلاند من العيش في الدنمارك دون أن يتعرضوا للتمييز، وهو ما لا يحدث للأسف اليوم"، يبرز هذا التصريح الواقع المؤلم الذي يعاني منه العديد من الغرينلانديين، إذ يعانون من صور متعددة للعنصرية سواء في الأماكن العامة أو في أماكن العمل، وقد أكدت "هيئة حقوق الأقليات" في تقريرها السنوي لعام 2024 أن الغرينلانديين هم من أكثر الأقليات تعرضًا للتمييز في الدنمارك، حيث تشير الإحصاءات إلى أن 40% من حالات التمييز في الدنمارك تتعلق بالغرينلانديين، سواء بسبب لون البشرة أو الأصل العرقي.
وغرينلاند، التي تبلغ مساحتها نحو 2.16 مليون كيلومتر مربع، تُعد واحدة من أكبر الجزر في العالم، وتتمتع بموقع استراتيجي مهم في المنطقة القطبية الشمالية، وهي غنية بالموارد الطبيعية مثل المعادن النادرة والنفط، ومع تزايد درجات الحرارة في المنطقة، يتوقع الخبراء أن تشهد غرينلاند تغييرات بيئية كبيرة، مما يفتح المجال لطرق الشحن الجديدة عبر القطب الشمالي، هذا الوضع الاستراتيجي يجعل غرينلاند في صلب المنافسة بين القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا.
وبينما يسعى الكثيرون في الدنمارك إلى محاربة العنصرية ضد الغرينلانديين، يظل السؤال قائمًا حول مدى فاعلية هذه المبادرات الحكومية في تغيير واقع هؤلاء الأفراد.
ويرى خبراء أن هذه المبادرات تمثل خطوة مهمة نحو تحسين الوضع الاجتماعي للغرينلانديين في الدنمارك، إلا أن التحديات الكبرى لا تزال قائمة، فما بين العنصرية المستمرة في المجتمع الدنماركي وتزايد الضغوط السياسية الدولية على غرينلاند، يبقى التحدي الأكبر هو تحقيق العدالة الاجتماعية والسياسية بشكل دائم ومستدام.
خطوة نحو المساواة أم معالجة جزئية؟
وقالت خبيرة حقوق الإنسان، أميرة شتا، إن المبادرات التي أطلقتها الحكومة الدنماركية لمكافحة العنصرية والتمييز ضد سكان غرينلاند تعتبر خطوة هامة نحو تعزيز حقوق الإنسان والمساواة داخل المجتمع الدنماركي، من خلال تخصيص 12 مبادرة تهدف إلى الحد من العنصرية تجاه هذه الفئة، وتعكس اعترافًا متزايدًا بالتحديات التي يواجهها سكان غرينلاند، الذين يعانون من التهميش والتمييز في دولة ذات تاريخ طويل في تطبيق العدالة الاجتماعية، إلا أنه ورغم أهمية هذه المبادرات، لا بد من الاعتراف بأنها تمثل استجابة جزئية لمشكلة أوسع تتعلق بحقوق الإنسان لأفراد هذه الأقلية.
وتابعت في تصريحات لـ"جسور بوست"، من خلال النظر في المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، مثل الحق في المساواة، وعدم التمييز، والحق في العيش بحرية وأمان في المجتمع، يبدو أن هذه المبادرات تظل عاجزة عن معالجة بعض الأبعاد العميقة والمستدامة للتمييز ضد سكان غرينلاند، فمثلاً، الحق في الحصول على جواز سفر غرينلاندي هو خطوة مهمة في تعزيز هوية هؤلاء السكان وتمكينهم من الشعور بالانتماء إلى وطنهم، إلا أنه في الوقت نفسه لا يمكن أن يعالج المسألة الجوهرية المرتبطة بحقوقهم السياسية والاجتماعية في الدنمارك، فكيف يمكن ضمان مشاركتهم الفعالة في العملية السياسية وفي اتخاذ القرارات التي تخصهم إذا كانت هذه الحقوق غير محمية بشكل شامل؟
واسترسلت: أما بالنسبة لتسهيل الوصول إلى مترجمين فوريين، فإن هذه الخطوة تعد ضرورية بالفعل في التغلب على حاجز اللغة، ولكنها قد تكون غير كافية لتغيير الواقع الاجتماعي المتعلق بالتمييز العنصري الممنهج، فالحاجة إلى خدمات ترجمة لا تعكس سوى جانب واحد من التحديات التي يواجهها هؤلاء الأفراد إذ إن العنصرية التي تطولهم لا تتوقف عند اللغة فحسب، بل تمتد لتشمل الصور النمطية السلبية والتمييز الاجتماعي الذي يتسلل إلى جميع مناحي الحياة اليومية، من التعليم إلى سوق العمل، وحتى في التعاملات الاجتماعية داخل المجتمعات التي يعيشون فيها.
وأوضحت أن منح مساعدة للإبلاغ عن التمييز باللغة الغرينلاندية يعد خطوة في الاتجاه الصحيح من خلال تقديم الدعم للأفراد المتضررين، لكن السؤال الأهم هنا هو: هل توفر الحكومة الدنماركية آليات فعالة للتحقيق في هذه البلاغات؟ وكيف يمكن ضمان عدم تعرض هؤلاء الأفراد للانتقام أو للعقوبات بسبب تمسكهم بحقوقهم؟ إن مجرد وجود آلية للإبلاغ عن التمييز لا يكفي في حد ذاته لضمان حماية هؤلاء الأفراد من أشكال التمييز الأخرى. يجب أن تشمل هذه المبادرات أيضًا التوعية العامة وإعادة التثقيف حول مفهوم التنوع الثقافي والعرقي في المجتمع الدنماركي.
وقالت شتا: إن التمييز ضد سكان غرينلاند يتزامن مع تصريحات الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، الذي أثار جدلاً كبيرًا بشأن فكرة ضم غرينلاند إلى الولايات المتحدة وهذا يضيف بعدًا إضافيًا للمعركة السياسية والاقتصادية التي يعيشها سكان غرينلاند، إن تصاعد الاهتمام الأمريكي بالجزيرة لا يعكس فقط التوترات الجيوسياسية، بل يعزز المخاوف بشأن فقدان هؤلاء السكان لسيادتهم على أرضهم وحقوقهم الأساسية، قد يشعر بعض سكان غرينلاند بأنهم مهددون ليس فقط من التمييز داخل الدنمارك، بل أيضًا من محاولات الاستحواذ السياسي والاقتصادي على أراضيهم.
وأشارت إلى أن هذا السياق المعقد يستدعي من الحكومة الدنماركية نهجًا أكثر شمولًا في التعامل مع حقوق سكان غرينلاند، فالتمييز ضد هذه المجموعة العرقية لا يتوقف عند حدود قوانين أو سياسات معينة، بل هو جزء من منظومة اجتماعية عميقة الجذور، تتطلب تغييرات على مستوى الثقافة العامة والتوعية المجتمعية، ولذا فإن النجاح الحقيقي لهذه المبادرات يتوقف على قدرة الحكومة الدنماركية على تجاوز الإجراءات الظاهرة إلى معالجة الأسباب الجوهرية للتمييز، وذلك من خلال استراتيجيات طويلة الأمد تشمل التعليم، والثقافة، والاقتصاد.
وأشارت إلى أنه من الضروري أن تتخذ الحكومة الدنماركية إجراءات ملموسة لضمان أن سكان غرينلاند يتمتعون بالحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية على قدم المساواة مع المواطنين الدنماركيين، مثل هذه الحقوق ليست مجرد امتيازات أو مبادرات طوعية، بل هي التزامات قانونية بموجب المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي ينص على أن جميع الأشخاص يجب أن يتمتعوا بالحقوق نفسها دون تمييز.
وأتمت: المعركة ضد العنصرية والتمييز تتطلب أكثر من مجرد قوانين وتنظيمات، بل تتطلب تغييرًا عميقًا في الفهم الاجتماعي للعلاقات بين الأعراق والثقافات.
إصلاحات تجميلية
وفي السياق، انتقد سامر التركي، مواطن دنماركي من أصل سوري، الأمر بقوله، بصفتي مواطنا دنماركيا، أجد أن المبادرات الـ12 التي أطلقتها الحكومة لمكافحة العنصرية ضد سكان غرينلاند، وإن كانت خطوة مهمة نحو معالجة قضايا التمييز في المجتمع، إلا أن هذه الإجراءات تبدو كإصلاحات تجميلية قد لا تساهم بشكل حقيقي في القضاء على المشكلة العميقة التي يعاني منها هؤلاء السكان.. إن تسليط الضوء على ضرورة منح جوازات سفر غرينلاندية، وتسهيل الوصول إلى مترجمين فوريين، وتقديم مساعدة للإبلاغ عن التمييز، يبدو كأنه استجابة سطحية لمشكلة هيكلية أوسع وأكثر تعقيدًا.
وتابع التركي، في تصريحات لـ"جسور بوست": الاعتراف بوجود تمييز ضد السكان الأصليين لغرينلاند في الدنمارك ليس بالأمر الجديد، ولكن يمكن القول إن هذه المبادرات التي تم الإعلان عنها اليوم هي فقط محاولة للتخفيف من حدة انتقادات حقوق الإنسان التي تُوجه نحو الحكومة، فعلى الرغم من أهمية توفير الأدوات اللازمة مثل جواز السفر أو المترجمين، فإن هذه المبادرات لا تعالج الأسباب العميقة التي تؤدي إلى هذا التمييز. إن التمييز ضد سكان غرينلاند في الدنمارك لا يقتصر على لغة أو إتاحة الموارد، بل يتعلق بالثقافة المجتمعية والسياسات التي تسهم في خلق بيئة غير مرحبة لهؤلاء الأفراد.
وأشار إلى أن الثقافة الدنماركية، بالرغم من تقدمها في العديد من المجالات، لا تزال تعاني من بعض التحيزات العنصرية التي تجسدت في تصرفات وأقوال أعداد من الدنماركيين، وفي مؤسسات الدولة على سبيل المثال، ما نراه على وسائل التواصل الاجتماعي من خطاب كراهية ضد سكان غرينلاند، لا يمكن محاربته فقط بتسهيل الإبلاغ عن التمييز، بل يجب أن يكون هناك تغيير جذري في الوعي المجتمعي من خلال برامج تعليمية وتقع على عاتق الحكومة مسؤولية العمل على تغيير هذه العقليات.
وأضاف: بالنسبة لي، أهم جوانب المشكلة تكمن في غياب الاعتراف الكافي بتاريخ العلاقة بين الدنمارك وغرينلاند، فغرينلاند التي كانت مستعمرة دنماركية لعدة قرون، لا تزال تعاني من تأثيرات الاستعمار والتهميش، الدنمارك التي تفتخر بحقوق الإنسان، عليها أن تواجه هذا الجزء المؤلم من تاريخها وتتعامل معه بجدية أكبر، ليس من الكافي فقط إجراء بعض التعديلات البيروقراطية لتوفير الجوازات أو المترجمين، بل يجب أن يترافق ذلك مع احترام أكبر لحقوق غرينلاند في تقرير مصيرها.
وتابع: يجب أن نتساءل عن توقيت هذه المبادرات في ظل الأزمة المتزايدة حول غرينلاند، مع تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن نيته الاستحواذ على الجزيرة لأسباب استراتيجية، إن هذا التدخل الدولي في الشؤون الغرينلاندية يضيف طبقة من التعقيد، حيث قد تكون هذه المبادرات محاولة من الحكومة الدنماركية لإظهار التزامها تجاه سكان غرينلاند في وقت يتزايد فيه اهتمام العالم بهذه المنطقة، ومع ذلك أعتقد أن هذا لا يجب أن يكون الدافع الوحيد وراء هذه الإجراءات، إذا كان الهدف هو تعزيز المساواة والعدالة، فيجب أن يكون ذلك مدفوعًا برغبة حقيقية في تحسين وضع هؤلاء السكان، بعيدًا عن أي ضغوط سياسية.
وأتم: من غير الممكن أن نرى تغييرًا حقيقيًا في أوضاع سكان غرينلاند إلا من خلال استراتيجية شاملة تركز على معالجة الأسباب الجذرية للعنصرية والتمييز ضدهم، مع تقديم فرص عادلة للتعليم والعمل، وكذلك تمكينهم من المشاركة الفعالة في صنع القرار على جميع المستويات.